الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
كمين - ليلة – القدر
بولات جان
2009 / 10 / 4الادب والفن
سنة 2001
كانت الريح قد ملّت من اللحاق بنا و نحنُ نصعد و نصعد و من ثم نهبط و نهبط و نسير في الوهاد العميقة صفاً واحداً، صامتاً هازئً بغبار المدن التي لم تعد تترائ خلفنا و أنطفأت أنوارها الشبيهة بعيون الغيلان...
كانت الريح قد ملّت منا و نحنُ لم نمل التهام الطريق. و الطريق يزداد كلما قطعنا شوطاً منه، التعب و العرق البارد يزيد رجفات البرودة المهاجمة لأجسادنا التي لا تعرف الكل و لا التعب...
كسرة الخبز اليابس تثير في نفوسنا الطمأنينة و شيءً من الحبور، و تدفعنا للسير مسافات أطول دون إلاء بالٍ للجوع الذي يقرض معداتنا و يقلل من مسافة قطر بطوننا الخاوية... كسرة الخبر اليابس تدرك أهمية نفسها بالنسبة إلينا، إلينا نحنُ أبناء الجن، لذا فقد كانت تتدلل و تتبختر زهواً في جيوب بدلاتنا العسكرية...
و كانت قطعتان من السكر ترتطمان في جيبٍ آخر من جيوب القميص العسكري و المبلل جراء سيلان العرق النابع من أجسادنا... السكر مهم، و ليست أية أهمية، فهو السيروم الأخير الذي قد نلجأ إليه و نستمد منه آخر ما يمكننا من قوة، بعد أن يكون ينابيع الطاقة الحركية قد نضبت في أجسادنا و تكون الأرجل قد شلّت تماماً، و لم يبقى حينها سوى العزيمة و قطعتي السكر الآمنتين في جيب القميص المغلق بإحكام...
حقيبة و سلاح و جعبة و وشاح و كسرة خبز و قطعتي سكر و طريقٌ لا ينتهي... و نحنُ نسير و الريح قد ماتت على الطريق و دفنّاها في مقبرة منسية من مقابر أبناء الجن. كانت المسجلة تعزف أغنية من أغانينا المفضلة و قد وضعنا صاحب المسجلة في وسط الرتل حتى يصل الصوت إلى الجميع... و كأن المغني قد وضع هذه الأغنية لنا خصيصاً... أنتهت الأغنية و أنتهى الشريط و أنتهت البطاريات و لم تنتهي المسيرة التي كانت تطول فتطول، و كنا قد تركنا الريح و تركنا الشمس و القمر...
هذه الجبال هي جبال الله، و الوهاد هي وهاد الله و السماء هي سمائه و الماء مائه، و ما نحنُ إلا ضيوفاً لديه يفعل بنا ما يشاء و يسخر منا و يهطل علينا الثلج و النار... كان الرتل يسير تاركاً خلفه درباً متعرجة في الثلج. كانت آثار سيرنا تمتد خلفنا و تضمحل في الأفق البعيدة، و أمامنا محيط شاسع من بياض الثلج و جبال عالية لا ترحم، جبال لا تنحني، جبال عنيدة تماماً مثلنا نحن...
كنا ندرك جيداً من أين بدءنا و إلى أين نسير و كيف نسير، و لكننا كنا نجهل تماماً ما يخبأه لنا القدر في جعبته؟! لا نخفي عليكم بأن القدر ليس له حضور بارز هنا في هذه الجبال؛ لكنه ينغص علينا مسراتنا بين الحين و الآخر.
كنا قد قطعنا جبال (بيخير، و كارا، و سركل، و كورىجارو، و كوكل، و كنيانيش، و أورامار، و مام رشو، و ميروس، و قرتال...) و كنا قد عبرنا أنهار (الخازر، و الزاب، و جمجو، و آفاشين و باسيا... ). كل جبل كان أصعب من خلفه و أرحم من سلفه، و اجتياز كل نهر كان أخطر من الخطر. و الدرب يمتد دون نهاية فارداً ذراعيه لنا نحنُ أبناء الدروب...
البلوط المرّ يحلو كثيراً في الجمر و عندما تكون جائعاً و كسرة الخبز تكون قد شارفت على الفناء و لم يبقى سوى قطعتي سكر و اسبوعٌ من المسير و أملٌ في الوصول إلى المبتغي قبل العيد. الجوع كائنٌ يكبر كلما شعرنا به و يموت حينما ننساه... فما الفرق بيننا نحنُ و الصائمين في شهر رمضان؟ ليس أي شيء. الفرق الوحيد هو أنهم يصمون من الشبع و نحنُ نصوم من الجوع...
تذكرتُ الصيام و تذكرتُ أمي التي كانت توقظني ساعة السحور و يستيقظ الأخوة جميعهم و في كل مرة اشترط عليهم الصيام مقابل قيامهم للسحور معنا، و في كل مرة يعدون بالصيام و لكنهم ينسون وعدهم مع كل فطورٍ طازج في اليوم التالي... كنتُ الآن أعرف بأن أمي تقوم لوحدها ساعة السحور أو يقوم معها أخوتي الصغار... و أنا في تلك الساعة كنتُ اقوم بدوري في الحراسة، كنتُ أحرس رفاقي النائمين. و أحرس هذه الجبال...
كنا قد وصلنا للتو قبل الفجر- إلى اسفل قمة (روناهي) في مضيق (سلاف) و كان علينا إجتياز هذا المضيق في اسرع وقت قبل أن يزداد تساقط الثلج و يسد علينا آخر منفذ ممكن إلى الطرف الآخر من الحدود الذي يفصلنا عن هدفنا الأوحد. و المضيق خطير فهو تحت سيطرة العدو و عناصر من إحدى العشائر الصائمة... عشائر تؤمن بالله، تصلي و تصوم و تدعو الله في كل فجر و من ثم يحمل رجالها أسلحتهم و يتجهون إلى الدروب و يضعون الكمائن لأبناء الجن، علّ و عسى يرزقهم الله الباري و الرزاق بجمجمة بشرية يبعونها لسادتهم أحفاد هولاكو الديمقراطيين و الصائمين، و سيتقاضون مقابل جثة كل فرد من أبناء الجن و الريح مالاً يشترون بها خبزاً و لحماً و نبيذاً للإفطار و السحور...
الراديو كان يصدح بقرب عيد رمضان، و بقدسية اليوم و بركته و عظمته، و كان اليوم هو يوم ليلة القدر... تذكرتُ ذلك اليوم، حيث كنا- نحنُ المؤمنين الصغار- نزيد التعبد و نهرع إلى التراويح و ننوي لقيام الصلاة حتى تبيان الخيط الأبيض عن أخيه الأسود و كنا نتضرع إلى الله أن يصلح من أمرنا و أن يرزقنا الرزق الحلال و أمور كثيرة أخرى مثل الخبز و الحرية، و كنا نطلب منه صبحاً و عشيةً أن يأمر ميكائيل بأن يكون أكثر عدلاً في توزيع الأرزاق...
فهذه الليلة كانت خيرٌ من ألف شهر، و هل سنعيش ألف شهر؟ إذاً لنعبد ليلة واحدة من أعماقنا و يكفينا جزاء الله عليها طوال حياتنا... و قد حدث ذلك طوال سنواتنا التي مضت دون أن نلتقي بليلة من الليالي و لا بالقدر و لا بميكائيل و لا من يحزنون.
أنبلج الصبح و كان علينا الأنتظار حتى ساعات الإفطار لكي نصل قبل العتمة إلى رأس المضيق- المنفذ- في أعلى قمة روناهي و منها نسير كالأشباح ما بين قرى صيادي الجماجم و أحفاد هولاكو الصائمين و القائمين لله في ليلة القدر المباركة...
كانت عواصف الثلج تلوح في الأفق و جيوش البرد تحتل البلاد و تستعبد العباد و تملئ الوهاد بجثث البهائم و الطيور التي تاهت في هجرتها للجنوب. و قد كان أملنا الوحيد هو تجاوز القمة و النزول نحو "سهل الحياة". كنا نعالج البرد بالنار و نعالج الجوع بحبات البلوط البري...
كانت حبات البلوط تتراقص ألماً بين الجمر و من ثم تنتفخ و تكبر و من ثم "بوووم" تنفجر و تطير خارج الجمر. البلوط المرّ يمسى حلواً في النار و عندما تزيل القشرة تفوح رائحة تعود بنا إلى أيام القرية، حيث كانت أمهاتنا تخبز على الصاج خبزاً رقيقاً ابيضاً دائرياً كقرص الشمس... و كانت رائحة الخبز تعلو على كل بيوت القرية ايام الجمعة، يوم تكون مخابز الدولة متوقفة عن العمل، (و هي لا تعود إلى العمل في الايام الاخرى من الأسبوع)... و ما أن تهرش حبة البلوط المشوي بين يديك الباردتين و تتحسس الحرقة في جوف كفيك، حتى تسرع إلى القذف بها إلى المعدة الآهبة... في ذلك الحين بالذات، تتوق إلى ارتشاف كأسٍ من الشاي، و عندما تتذكر الشاي، حتى تتجه يداك إلى جيب القميص حيث تكمن قطعتي السكر فيها. لكن، أياك. لا تقربهما، فهما للحظة الأخيرة، اللحظة الأخيرة لم تحن بعد.
نتسلق القمة في شق منحدرٍ بدرجة شبة قائمة... نتسلق مستخدمين قوائمنا الأربعة و نتشبه بجدنا الاول حينما كان في الغابات الاستوائية. الصخور حادة و الثلج يعيق التسلق و يزيد أخطار الأنزلاق نحو الهاوية... تلفحت قمة روناهي(و تعني الضياء) الظلمة و لم يعد شيء من الضوء سوى انعكاس بياض الثلج في المحيط، و كنا نقترب أكثر فأكثر من مضيق جبل سلاف(السلام) فهل يكون هنالك سلامٌ و أمان في هذا المضيق الخطر؟
أنا كنتُ أثق بأن في هذه الليلة المباركة(ليلة القدر) لن يتخلى عنا الجالس على العرش العالي... فقد كنا قد تعبدنا في الكثير من ليالي القدر السابقة و هي خيرٌ من ألف شهر، و ليس من العدل أن يتخلى عنا في هذه الليلة.
كان كل شيء يمكث خلف هذه القمة و ما علينا سوى اجتياز المضيق و الوصول إلى الهدف... الوصول إلى الهدف يعني أن ننسى كل متاعبنا و كل ما عانيناه من مصاعب الطريق و أن نبدأ بشكلٍ جديد للحياة.
كان الرتل يسير بهمة نحو القمة. و قد وصل نصفنا إلى صدر المضيق و بقي البعض في المؤخرة ينتظرون الإشارة لعبور المنطقة الخطيرة و التي يتوقع فيها كمائن احفاد هولاكو و قطاع الطرق من ابناء العشيرة.
جاءت الإشارة و تنفسنا نفساً عميقاً و كدنا ننسى البرد و الإرهاق، و كدنا نشكر الله و نبتهل للقدر في ليلته المحبوبة، حتى قطع أزيز الرصاص المنهمر علينا و اصوات الانفجارات المتعاقبة حبال أفكارنا. و ما كان علينا سوى القيام بما يجب القيام به:
أي، التصويب نحو مصادر الرصاص... إطلاق صيلات متواصلة نحو النقاط التي ينطلق منها طلقات العدو... و في الوقت نفسه التراجع و الابتعاد عن مكمن الكمين باسرع وقتٍ ممكن. و أقرب نقطة قد تكون بعيدة عن المكان يبتعد أكثر من أربع ساعات جرياً سريعاً حتى ضفاف آفاشين. أي النقطة التي أنطلقنا منها البارحة، أي العودة.
كان العدو في الأعلى، و الكمين اعلاه و القدر أعلى من العلو و الكل كان يطاردنا. كانت الطلقات تنهمر كالغيث المدرار و تأتي من كل حدبٍ و صوب و كلها تتجه إلينا. كانت الهاوية أمامنا و نحنُ ننزل منها نحو بطن الوادي و نتدحرج تارة و نرتطم بالصخور و جذوع الأشجار و كانت صفحة الثلج البيضاء قد تلونت بسواد البارود و حمرة الدماء و ُبنّية الوحل... و في كل لحظة و أخرى كنا نقف و نطلق الرصاص على خفافيش الليل. و كنا نعرف، بأن كل ما عانيناه أثناء المسيرة قد ذهب أدراج الريح.
عندما تخترق الرصاص جسد الإنسان لا يشعر بها أول الأمر، سوى رجفة صغيرة... و من ثم سخونة الدم السائل من الجسد. حينها فقط تدرك بأن نهاية الأمور قد آنت. اي اللحظة الاخيرة. و حينها فقط تذكرت قطعتي السكر التي في جيب قميصي... كان لون القميص قد تغير، و تبدل شكله كما تبدلت لون صفحة الثلج... أخرجتُ قطعتي السكر... كان لونهما قد تبدل إلى لون الحجر، لون الجمر و لون الرمان. و لم يبقى لهما هيئة السكر و لا بياضها و لا طعمها.
حينما تحين اللحظة الأخيرة، يود كل منا أن نفعل آخر ما يمكنه فعله. كنتُ قادراً فقط على إلقاء قطعتي السكر إلى فمي. فقد حان لحظتها. ألقيتُ القطعة الأولى في فمي. نظرتُ إلى القطعة الأخرى و هممتُ على إرسالها إلى اختها التي رست في قاع المعدة الخاوي. تريثتُ قليلاً، نظرتُ إلى قطعة السكر و من ثم إلى الألوان التي لطخت صفحة الثلج البيضاء و رسمت لوحة بائسة للقدر، و نظرتُ إلى أصحابي الذين لم يعدوا رتلاً و احداً، و من خلفهم آل إلى مسمعي صوت أبناء آوى و أحفاد هولاكو و ضجتهم.
هل أنتهى كل شيء؟
و لكني أرجعتُ قطعة السكر إلى جيب قميصي و من ثم نظرتُ إلى السماء، كان ينظر إلينا و يضحك.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ما هو اكثر ما يتعب نوال الزغبي في مهنتها ؟ ??
.. اكتشف مدينة الصويرة: من ملعب جولف موكادور إلى زيت الأرجان وا
.. عام على الحرب في غزة: أولويات الإغاثة الثقافية في المناطق ال
.. فيلم تسجيليا يعنوان -جيش النصر- من اصطفاف تفتيش حرب الفرقة
.. المخرج رشيد مشهراوي من مهرجان وهران بالجزائر: ما يحدث في غزة