الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عيشو وجانيت

آلان كيكاني

2009 / 10 / 7
الادب والفن



عندما قاربت شمس الصيف الأصيل وفتر قيظها ووهن رمضاؤها طلبت من مضيفي أن نقوم بنزهة راجلة في شوارع وأزقة المدينة التي غادرتها منذ أمد , وعدت أزورها بعد حنين دام عقدا من الزمن دون أن أرها ولو لمرة واحدة , خرجنا نمشي الهوينى من بيته الواقع في أطراف المدينة والمرتبط بها بطريق ترابي تشكل من أثر أقدامه والذي كان محاطا بأكياس القمامة وجيف حيوانات مرمية هنا وهناك تفوح منها روائح كريهة اضطرتنا إلى سد مناخيرنا بدكها بمناديل ورقية .

حين دنونا من بعض البيوت سمعنا صوت شجار حاد , تعالى الصوت كلما اقتربنا من مصدره حتى وصلنا إلى بيت يحتضن سوره المرتفع المتشاجرين , كان بابه مفتوحا دخلناه دون استئذان علنا نستطيع فك المتخاصمين أو تقديم مساعدة طبية فكوني طبيب فان وجودي مهم في هكذا مواقف على أنه لا يخلو من المخاطر أيضا , حين دخولنا وجدنا شابا ثلاثينيا يتطاير الشرر من عينيه بيده عصى وقد أطلق العنان لكل شياطينه يسب و يشتم و يتوعد وعلى بعد أمتار منه في حديقة المنزل فتاة تجلس على الأرض و قد غطى الدم نصف رأسها وما بينهما نسوة تعول وتصرخ طالبة النجدة , طلبت من رفيقي أن يخفف من ثوران الشاب ريثما أقوم بواجبي الطبي , اقتربت من الفتاة وكان الدم ينزل من رأسها إلى تضاريس وجهها كأنه حمم بركان يسيل من قمة جبل إلى السفوح والوديان , وضعت يدي على الجرح الصغير والنازف بشدة وطلبت من إحدى النسوة إحضار سائل معقم وقليل من الشاش من ا قرب صيدلية وأوعزت إلى أخرى أن تجلب بعض الماء , ضغطت على الجرح بيدي اليسرى وغسلت وجه الفتاة باليمنى حتى بانت ملامح وجهها جلية تمعنت فيها قليلا ثم سألتها عن اسمها فقالت عيشو , كانت عينا عيشو سوداوين سواد ليل شتائي حالك و أنفها صغيرٌ يتوسط ُ وجهاً ابيضا مدورا مثل البدر في تمامه وشفتاها ورديتان تقطر منهما الأنوثة كما يقطر العسل من قرصه . نظرت إليها فابتسمت , كان منظرا غير مألوف : رأس جريح و عينان دامعتان وثغر يبتسم تلك الصورة استطاعت عيشو أن ترسمها بكل براءة , ولا اخفي عليكم أن ذاك الوجه الملائكي والبسمة الساحرة جعلا نبضات قلبي تزداد و أربكاني قليلا , سألتها وأنا ألف رباطا حول رأسها عن سبب الشجار فقالت : إن أخي يتهمني أنني تبادلت التحية مع رجل من خلال نافذة البيت المطلة على الشارع , قلت : أهي تهمة ؟ قالت : إن العرف عندنا لا يسمح للنساء بالحديث إلى الرجال .

قادت عيشو ذاكرتي إلى سنين مضت عندما قذفتني أمواج الدهر إلى بلاد ما وراء البحار لأحصل على قسط من العلم والمعرفة هناك , حيث شاءت الأقدار أن أقيم مع عائلة انكليزية تقيم في مدينة برايتون مدينة الحرية والسلام كما درج الانكليز على تسميتها وأكثر من ذلك فهي مدينة السحر الفتان والجمال الأخاذ لؤلؤة بحر قناة الإنكليز وتمتاز المدينة بحدائقها المزركشة بالورود التي صممت على طراز هندسي بديع حتى يخال لمن ينظر إليها من بعيد كأنها سجاد أعجمي مفروش على أرض سهل . وتشتهر أيضا بقصرها الهندي القديم والرائع البنيان وبكنائسها التاريخية المنقوشة . تلك العائلة كانت مؤلفة من كهل ستيني متقاعد حليق اللحى والشارب يقضي جل أوقاته في القراءة والمطالعة مستعينا بعدسات سميكة أمام عينيه , وسيدة خمسينية مكتظة بالشحم تعمل في حقل الصحة , و ابنة تعمل كبائعة كتب في إحدى المكتبات اسمها جانيت , وجانيت هذه كانت آية من آيات الجمال , شقراء طويلة ذات عينين زرقاوين و كبيرتين ومتباعدتين قليلا مثل عيون الغزلان وشعر ذهبي طويل يصل إلى أردافها يتموج كما تتموج سنابل القمح قبل الحصاد عندما تهب عليها نسمات شهر أيار وفم وأسنان تخالهما حبات من اللؤلؤ وسط وردة حمراء, كانت جانيت مولعة بشرب الشاي , وهي تحرص عندما تشربه من فنجانها الخاص الكبير على ألا يصل صوت الرشف إلى مسامع الحضور , اعتدنا أنا و جانيت أن نمضي ساعات كل مساء ونحن نلعب بالورق وهي لا تمل من الحديث عن الموضة والرياضة والسيارات وأخبار المغنين حتى تسبب لي الصداع ولكن كنت أتظاهر بالاهتمام بحديثها مجاملة , وليلة كل سبت و احد كنا نمضي بعض الوقت في احد المراقص بعد أن توسلت إليها ألا تدعوني للرقص لأنني لا أجيده.

مرت شهور على هذه الحالة ولكن لم تستطع جانيت أن تطرق أبواب قلبي مثلما فعلت عيشو خلال دقائق .

ذات ظهيرة , دعتني الأم إلى كأس من البيرة في حديقة المنزل بعد أن خرجت جانيت لتعزي صديقتها بوفاة كلبها , صرنا نتبادل أطراف الأحاديث ونرشف الكأس حتى لفتت انتباهي عندما عبرت عن قلقها حيال ابنتها الوحيدة لأنها بلغت الرابعة والعشرين وهي ما زالت عذراء ولم يسبق لها أن وجدت صديقا يؤنسها ويضمها بحنانه ويغمرها بوده ويدخلها إلى ذلك العالم الذي لا زالت تجهله .

نعم , استطاعت عيشو أن ترجع خيالي إلى الوراء لأتذكر تلك اللحظات من العمر فالشيء يذكر بنقيضه أحيانا .

ودعت عيشو بعد أن انتهت مهمتي واتجهت صوب الرجلين اللذان كانا يحتسيان القهوة تحت شجرة في حديقة المنزل , أمر أخو عيشو بصوته الجهوري جلب فنجان من القهوة لي وخلال حديثي القصير معه لم يتردد الرجل بالحديث عن مغامراته مع حسناوات لبنان حيث يعمل كسائق تكسي هناك وكان في إجازة قصيرة لزوجته وأهله.

ودعنا من في البيت مع آذان المغرب وعندما خرجنا من المدينة كان الصمت يلفنا ولكن كان الغوغاء يملأ داخلي , غوغاء عالم يسبح في بحر من التناقضات .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - عيشو شعار ينالون به المناصب خارج المنزل
سردار أمد ( 2009 / 10 / 8 - 22:43 )
عزيزي آلان أبدعت في المقارنة بين عيشو وجانيت، المشكلة أن مجتمع عيشوا بفئاته الساحقة المتقدمة والمتخلفة كلها ضد عيشوا، شعارهم مع عيشو... لكن في حقيقة الحياة يقمعون عيشوا... تلك هي مبادئهم الحقيقية، كم أتمنى ان يخرج مجتمعنا وتخرج تياراتنا المختلفة من حالة الكذب تلك، ويقفوا مع عيشو (قلباً ورباً)
اشكرك جزيل الشكر وأرجو لك التوفيق


2 - أهلا بك
د آلان كيكاني ( 2009 / 10 / 8 - 23:42 )
عزيزي سردار , صدقت فيما قلت
لا خير في مجتمع يرى عيشو هي الشرف ويلفها بآلاف السياج خوفا عليها , بينما يطلق العنان لأخي عيشو يفعل ما يشاء
تحياتي لك

اخر الافلام

.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد


.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد




.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا


.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس




.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام