الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشعر سفيرا ً فوق العادة

مهدي بندق

2009 / 10 / 7
الادب والفن





الشعرُ : سفيرا ً فوق العادة

بحث في علاقة الشعر بالمعرفة والجمال

مهدي بندق

هل يمكن في سياق البحث عن علاقة الشعر بوالديه : الجمال والمعرفة أن نبدأ بسؤال عن الأم أولا ً ( بما هي أنثي ) عن سرها ؟ أو بصيغة أخرى نسألها : من أين تأتين أيتها المعرفة ؟ أنا أعتقد أن هذا سؤال خاطئ في بنيته " المعرفية " ذاتها .. إذ يفترض بداية أن المعرفة جوهر مستقل عن الأشياء المطروحة في العالم ، فيترتب عليه أن الدماغ يوجد فارغا ً أول الأمر – كما ُيظن في حالة الطفل المولود - ثم ينثال فيه ( بطريقة غامضة) وعيٌ ذو طبيعة معنوية غير مادية بالإطلاق. ذلك ما كان يدعو إليه ديكارت ومن سار على دربه من الداعين الفلسفة المثالية – أسطورة الطبقات المالكة - أمثال كانط و فشته و وشيلنج ، الذين طالما عرقلوا بفخامة واقتدار أية جهود تبذلها الطبقات الكادحة لتحسين أحوالها ، وهي الغارقة في الجهل المفروض عليها ( ممن ؟! ) فما دام الوعي يأتي من خارج فلا مندوحة من انتظاره يأتي ( أو لا يأتي ) وقت يشاء، وبهذا ُتغم على تلك الطبقات الكادحة إدراك الأسباب " المادية " لبؤس أبنائها وحرمانهم .
بيد أن المشكلة التي عجز هؤلاء الفلاسفة عن حلها – على المستوى الاحترافي - إنما تمثلت في السؤال التالي : إذا كانت المادة والوعي مختلفين بطبيعتهما ؛ فكيف لهما أن يلتقيا على صعيد واحد ؟! فراحوا يناورون ويدورون حول أنفسهم ، لا يبرحون سيرا ً في المحل . أما كبير المثاليين هيجل فلقد آثر الفرار للأمام مؤكدا ً أن المادة كلها ليست إلا تجسيدا ً " دياليكتيكيا ً " للفكرة ، التي تجد غايتها أخيرا ً في نظام الدولة البروسية ، التي كانت – وبالمناسبة – ربّ عمل هيجل نفسه !
العلم الحديث جاء ليعارض هذه الفلسفات جملة ً وتفصيلا ً ، فلقد برهن العلم – عبر الدرس الفسيولوجي النيورولوجي Neurology– أن الوعي ليس شيئا ً يضاف من الخارج إلي دماغ العارف ، وإنما هو مجلى لوظائف المخ العليا أو هو أرقي وظائف هذا المخ وقت يمارس دوره ، ليس بمثل ما تمارس المعدة وظيفة هضم الطعام ، والقلب وظيفة ضخ الدم في أعضاء الجسم حسب ُ ، وإنما بتجاوزه – أي الوعي - لحدود الوظيفة ورتابتها، منطلقا ً إلى التفتيش عن مبرراتها ، ومعززا ً قدراتها بقدرته هو على الابتكار والخلق وإعادة الإنتاج بالتذكر، وحذف المنتج البالي بالنسيان .
ولأن الوعي ينبثق من المخزون الفسيولوجي والبيولوجي والميمات الثقافية الموروثة ، ومن الرغبات والأماني والمخاوف التي هي محض ترجمة لغوية لأنشطة الجسم الكيمائية الكهربية ، تراه يتحرك عبر شبكة العصبويات المبرمجة .. من برمجها ؟ الكون ُ نفسه بخبراته المتراكمة . غير أن الوعي – شأن الابن العبقري في تمرده على الأب المهيمن ، لا يلبث حتى يسعى إلى تحقيق شهواته الكبرى من استقلال وتفرد حتى ليطالب َ بأن ُيعترف به " ذاتا ً " تحيل الكون كله ( بما فيه من أسياد وطبقات مالكة وأرباب أعمال ...الخ ) إلي "موضوع ٍ " لتأمله ، وساحة ٍ لأفعاله . وهكذا صار الوعي مطلبا ً للكادحين ، وأداة " مادية " تستخدم للتحرر .
ذلك ما دفع الراهب الفيلسوف جورج باركلي ( 1685- 1753) إلى محاولة نزع هذا السلاح من أيدي الخصوم ( الشعب ) فراح يطنطن قائلا ً : إن الوعي هو موجد الأشياء ، فإذا اختفي الوعي اختفي كل شئ ! قول قد يبدو بريئا ً ، مجرد شقشقة كلامية .. لكن المسكوت عنه فيه هو الرسالة الضمنية الموجهة لولاة الأمور : امنعوا ما استطعتم المثقفين الماديين" الكفار " من القيام بتوعية الجماهير ، أو ودعوا كل الامتيازات الطبقية التي منحتها لكم ولنا السماء . ولكن حسرتاه ! لقد حل عصر التنوير- عصر مونتسكيو وفولتير وروسو وسائر المفكرين "الماديين" فسبق سيف الثورة الفرنسية عذل الراهب الفيلسوف . عندئذ طارت رؤوس ملوك وأمراء ولوردات، وهرولت عقول قساوسة لتحتمي داخل رؤوسها " المادية " من هول الطوفان .
أما على المستوى الفلسفي البحت فلقد أثبت العلم ، فضلا ً عن الحس المشترك للبشر تهافت قول باركلي وبطلانه . فالأشياء موجودة قبل أن ندركها ، وستبقى موجودة بعد أن يتوقف إدراكنا لها جراء ما يفعله بنا ثاناتوس [1] أو توأمه هوبنوس [2] كذلك حين نصاب بمرض عقلي ّ فردي أو جماعي . حين نعود مساء ً إلي الغرفة التي غادرناها صبحا ً فلسوف نرى عقارب ساعة الحائط في وضع مختلف . الوقت إذن يمضي بغض النظر عن إدراكنا أو عدم إدراكنا له ، بيد أن الراهب باركلي يحاج بأن الإله – الذي هو وعي خالص - ظل موجودا بالغرفة ، ومن ثم فالزمن ليس له من وجود موضوعي ، بل هو مجرد فكرة في العقل الإلهي، ولهذا حين شاء الإله أن ينصر نبيه يوشع أمر الشمس أن تتوقف عن الدوران لعدة ساعات يتفرغ فيها النبي لقتل الكفار .
بالطبع هذه حجة لاهوتية يقبلها وحدهم المؤمنون بالعهد القديم . لكن علماء الفيزياء يقولون إن سهم الوقت لا يمكن أن يتوقف عن المروق في المتصل الزماني/ المكاني ، ولو حدث هذا لانهارت مجرة درب التبانة ، وما بقيت فيها شمس ولا أرض ولا مؤمنون ولا كفار.
تماثل أقوالَ باركلي حجة ُ أبي جامد الغزالي في نفي السببية : لا توجد علاقة بين النار وفعل الإحراق ، فالنار جماد لا فعل له ، أما الفاعل الحقيقي فهو الله . فهل ُ يتصور أن يلقي أحد منا بنفسه في نار مشتعلة ليبرهن على – أو ليدحض – حجة الغزالي اللاهوتية ؟! الحس المشترك يكـّذب الغزالي . وهذا الحس المشترك ( والذي سوف يسمى علم ُ الجمال Aesthetics باسمه ) يُسلـّم بأنه لا يوجد في الطبيعة قانون يخص فلانا ً أو يستثني فلانا ً . قوانين الطبيعة – ومن بينها السببية – تطبق على ظواهرها العامة مثل الحرارة والضغط والجاذبية ...الخ تحت شروط معينة . وتلك هي المعرفة التي لا غش فيها .
وعليه فإن ما يمكن لنا نحن البشر أن نتفق عليه بوعينا الإنساني بصرف النظر عن عقائدنا وأيديولوجياتنا هو أن السببية تقوم بفعلها دون انقطاع ( على الأقل في عالم ما فوق الذرة ) من حيث أن الأشياء تتمتع بوجودها في حد ذاتها ، بقدر ما يتمتع بوجوده الوعيُ واقعيا ً . وغير ذلك ليس إلا نوعا ً من الهذيان ، من قبيل ترشيح مريض بروماتزم المفاصل للفوز ببطولة العالم في الوثب بالزانة ، أو للسماح لأعمى أن يشارك في رالي السيارات !
إذن لابد من الاعتراف بأن الوعي إنما هو تمثيل للكون Cosmo-Representativeما دام يلتزم بشروط صاحبه وقوانينه ، ولكنه التمثيل القادر- بالأقل عند بعض الناس - على إنتاج المعرفة والجمال ، حسب َ المعطيات الواقعية التي لا تعكر عليها أوهام ُ السلف. وبهذا الفهم الحداثي ّ صارت المعرفة علما ً ، وكذلك الجمال . و لم يعد ينظر إليهما أحدٌ – إلا أنصاف ُ المتعلمين – بوصفهما " إلهاما ً " يأتي من خارج الكون المادي .
من نافلة القول القبول بالمسلـّمة Presupposition القائلة : لا يوجد ما يمكن تسميته بـ ..خارج الكون ، حيث العدم مجرد افتراض لغويّ . أولى من هذا التلاعب بالألفاظ الاشتغالُ على كلمة " الغياب " مقابل الحضور . فالغياب هو وجود بالإمكان – إذا شئنا تأميم دريدا لحساب مؤسسة علم الكلام الإسلامي - ولكنه إمكان لا ينتقل أبدا ً إلى حالة الوجود بالفعل ، لماذا ؟ لأنه يختفي كالعفريت الذي يسمع عنه الأطفال ولكن أبدا لاً يرونه . أنا هنا أتكلم عن الغياب ( كمعطي فلسفي ) وليس عن الغائب ، فمجرد التفكير فيما هو غائب لابد وأن يستحضره في الذهن ، ملقيا ً به في مشتبك الحضور( القصص الخيالي مثلا ً ) ومن ثم تنتفي عنه صفته كغائب ، بينما الغياب كثيمة أنطولوجية محال ٌ استحضاره على أي مستوى أو تصور، إنه أشبه بوصف الله لنفسه في القرآن الكريم " ليس كمثله شئ " وعليه فإن أي تصور للذات الإلهية لا مندوحة من إلغائه . وتلك قضية أود أن أرجأ مناقشتها إلى دراسة مستقلة ، وحسبي اليوم أن أنتهي من توضيح مفهومي للمادية .
المادية التي أقصد إليها لا تنتمي لذلك المفهوم الكلاسيكي الذي شاع في القرن 18 خاصة عند هولباخ ونيوتن حيث تتصف المادة بالعطالة ، محكومة ً بمبدأ القصور الذاتي Principle of Inertia ، فلقد عصفت بهذا المفهوم ليس المادية الديالكتيكية ( ماركس وانجلز ) التي فيها قولان، بل فلسفة العقل ( جون سيريل ) بالتوازي مع فلسفة الكوانتم ( خاصةً نيلز بور ) فكلتا الفلسفتين تنظران للكون باعتباره وحدة تتعالى على فكرة الثنائية التي ضللت الفلاسفة منذ أفلاطون وحتى كارل بوبر [3] بله المفكرين الضاربين في سباسب الميثولوجيا . بالمقابل تضم وحدة الوجود في داخلها تمظهرات الواقع ، والتركيبات الذهنية التي هي بلا ملمس Non concrete دون فصل بينهما ، وذلك على عكس ما درج عليه الثنائيون مثاليين كانوا أو ماديين - من إصرار على أن أحدهما لابد وأن يكون المتحكم في الآخر. هؤلاء ليسوا ديالكتيكيين بالمرة . وحتى هيجل وماركس عملاقا المنهج الجدلي يتنكران- لأسباب أيديولوجية – للديالكتيك الحق ، هيجل حين يؤكد أن الذهن هو المعطى الأول ، وماركس حين يقول بالمادة كمعطى أولي ّ . الشعر وحده بخلاف جميع الفلاسفة يتمتع بتمثيله لحقيقة الديالكتيك ، فهو مشاعر ورؤى ذهنية مدمجة في فونيمات صوتية وكلمات لغوية ( واللغة في أصولها رموز ) وما من سبيل لإعطاء أولوية لهذه أو تلك ، ومن ثم بات جائزا ً إندياح الرمز في المرموز والعكس . ولعل ذلك المعنى هو ما أراد أن يقاربه محيي الدين بن عربي في شعره :
منازل ُ الكون في الوجود ِ منازل ٌ كلها رموز ُ
منازل للعقول فيــــــــــها دلائل كلها تجـوز ُ [4 ]
... ... ... ... ... ...
وكيف أدرك من بالعجز أدركـــــه وكيف أجهله والجهل ُ معدوم ُ
قد حرت فيه وفي أمري ولست أنا سواه ، فالخلق ظلام ٌ ومظلوم ُ [5]

وحدة الوجود هذه.. الجهلُ فيها لا مشاحة معدوم – كما قال ابن عربي – فينبني على ذلك ضرورة أن ُينظر إلى المادة بمعناها الأوسع ، حيث يكون الوعي أحد وظائفها العليا ، فالكون منذ لحظة الانفجار العظيم Big bang وحتى لحظتنا الراهنة لا يتوقف – ساعيا ً بآليات التطور – عن إدراك ذاته .. كل نجم وكل ذرة ، كل جبل وكل زهرة ، كل ورقة شجر وكل طائر، كل حبة رمل تتلقى على وجنتها قبلة من ثغر موجة ساحلية ؛ كل هذا وغيره له نصيبه من المعرفة ، وله حظه من الجمال : النظام والتناسق والبهاء والتناغم ، بجانب التوافق القرير والاختلاف المثير مع غيره من الكائنات .
أما الإنسان – آخر العنقود – فلقد أخذ بيده مبادرة السعي وراء المعرفة ، لا ينتظر هبوطها إليه من المحل الأرفع ِ – بتعبير ابن سينا – أو حتى يذهب إليها كسائح يمنحها النظرة العابرة ، وكأنها أهرامات عجيبة ، أو حدائق معلقة ، أو سور عظيم شيده غيره ؛ بل هو ينهض بنفسه لتشييد أبنيتها ،داعما ً جدرانها ، ومعليا ً سقوفها ، مختبرا ً في كل حين أساساتـِها وأعمدتـَها ، وكيف لا وقد هيئه أبوه الكون لا ليدرك كل شئ حسب ُ ، بل وأيضا لينـّظر لكل شئ ، وفي التنظير جمال أي ُ جمال .
من هنا جاء مصطلح الما وراء : Metaphysic & Metalanguage & Metalogic
أي محاولة سبر أغوار الطبيعة ، واللغة ، والمنطق ...الخ وهي المحاولة التي دأبت عليها الفلسفة ، وكذلك الشعر. فأما الفلسفة فقد اضطرت في عصرنا ، وإزاء إنجازات العلم المتسارعة فيما يشبه المتوالية الهندسية ، أن تطامن من غرورها راضية بدور التابع لهذا المغامر العنيد ، جوّاب الآفاق ( العلم الحديث ) مكتفية بمحاولة تفسيره ،وجلاء ملامحه ، ولملمة أطراف ثيابه .
وأما الشعر فقد أبت عليه طبيعته أن يرضي بدور التابع للعلم . وكيف له أن يفعل هو الذي ُفطر على المغامرة واقتحام المجهول سواء في عوالم المعرفة ، أو في سماوات الفن المشعة بالجمال السرمدي ؟
كان الشعر ولا يزال يعد نفسه ممثلا ً خاصا ً للكون .. سفيرا ً فوق العادة ، فلقد برز إلى الوجود من ذات المادة الأزلية التي شكـّلت الكون َ( ويمكن أن ندعوها الملموس الظاهر ومعناه الباطن في جديلة واحدة ) بل لعله – أي الشعر - قد رأى أن كل ما في الكون محض ُ قصائد َ وإن تزيت بأزياء مختلفة : ثمة موسيقي تنبع من حركة الأجرام السماوية ، وهناك صور جمالية لا تنفد في كل بقعة لون وشكل من ألوان وأشكال الوجود ، حياة ً كانت أم جمادا ً . ليس الشعر هو ما يكتبه الشعراء حسب ُ ، بل إن ما يكتبه هؤلاء ليس إلا غيضا ً من فيض ، والشعراء العظام منهم يدركون هذه الحقيقة بكل جلاء ، لذا تراهم يخترقون قشرة السطح الوجودي نافذين إلى الأعماق حيث يلتقي الضد ضديده دون أن يفني أحدهما صاحبه .. انظر مثلا ما يقوله أبو العلاء :
ويعتري النفس َ إنكار ومعرفة وكل شئ له نفي وإيجاب ُ
هذا الرصد الأمين لطبيعة الكون التي تحمل في أحشائها بذرة التناقض هي التي أهابت بالشاعر بودلير أن يكتب ديوانا كاملا ً عنوانه " أزهار الشر " دون أن يرى في ذلك خروجا ً عن غرض الجمال ، بل لعل تودوروف كان قمينا ً بأن يفيد مما كتبه بودلير ليؤكد به مبدأه في الشعرية ، هذا المبدأ الذي بدونه يكون القول مجرد رصد لتاريخ ، أو شرح لفكرة ، أو عرض ِ حال ٍ لمتكلم . ليس هذا فيما رأى تودوروف – ومن قبله الشكلانيون الروس – شعرا ً بل نثرا ً عاديا ً وإن وضع على رأسه طاقية الوزن ، أو أدخل قدميه في ُخفي ّ قافية . الشعر فيما رأى تودوروف بنية ٌٌ أو هو نسق لفعل معرفيّ / جمالي ّ ، وليس مجرد كلام موزون مقفـّيَ حتى وإن كان له معنى – حسب قدامة بن جعفر – فدعني أستنج من مفهوم تودوروف أن هذا الفعل المعرفي الجمالي هو كذلك بقدر ما يغير من وعي كاتبه جنبا ً إلى جنب قارئه . وليس هذا بالأمر الهين ، بل هو ثورة تتضاءل أمامها عديد من الثورات السياسية . وبهذا الاستنتاج يمكنني أن أخالف صديقي الراحل د. غالي شكري الذي حمل على الشعرية بوصفها – من وجهة نظره – مجرد ترجمة لشعار " الفن للفن " سيء السمعة [6] فالشعرية في واقع الأمر لم تكن كما حكم عليها الماركسيون الأرثودكس بدعة ً تحمل ضلالة ً مآلها النار ، بل كانت مجلى لتحول النموذج الإرشادي paradigm المفترض [7] لمركز الثقل الثقافي في القرن العشرين . كانت النظرية الأدبية قد غادرت أرضية الفلسفة إلى دهاليز التاريخ ، ثم إلى غرفة اللغة تباشر منها مهام إدارة النقد الأدبي . غير أن فلسفة اللغة حين تبينت أنها بعض تعبير عن القدرات العقلية للبشر ، ما لبثت حتى أسلمت القياد للأحق بمنصب رئيس مجلس الإدارة في شركة الفلسفة : العقل ، ذاك الذي عكف على ذاته أولا ً بالفحص والتحليل ، متناولا ً ثانيا ً الفرع الإبستومولوجي بالإصلاح والتعديل ، معيدا ً ثالثا ً لمصطلح المادة اعتباره بعد أن كشف له المخ والجهاز العصبي عن علاقتهما " الملموسة " بالوعي الإنساني .
ترى أين يكون موقع الشعر في هذا البناء الجديد ؟ لعله يقبل ( أو لا يقبل ) بمنصب العضو المنتدب ، أو المراقب العام .. بالنظر إلى طبيعته التي تأبي عليه أن يكون له رئيس ، حتى لو كان هذا الرئيس ُ هو العقل َ ذاته ، وإن قبله صاحبا ً وصديقا ً . وهاهو ذا الشعرُ يعلنها واضحة على لسان عمر الخيام :
عاشر من الناس كبارَ العقول
وجانب الجُهـّال َ أهلَ الفضول
واشرب نقيع السم من عاقـل ٍ
واسكب على الأرض دواء الجهول










هوامش :
1 - الفتوحات المكية – السفر الثالث – تحقيق عثمان يحيي ، إبراهيم مدكور - الهيئة العامة للكتاب 1974 ص 120
2 - السابق ص 218
-3 k.Popper and J.C. Eccles : The Self and its Brain – Berlin , 1977
4 - ثاناتوس : إله الموت عند الإغريق
5 - هوبنوس : إله النوم
6- غالي شكري – برج بابل " النقد والحداثة الشريدة " – الهيئة العامة للكتاب 1994 ص 123
7- للمزيد من التفاصيل حول النموذج الإرشادي ، أنظر:
- Kuhn, T.S. , The Structure of Science Revolutions : Chicago University . ,
Second edition 1970
















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الشعر سفير فوق العادة
جلال عبد المحسن - مدرس فلسفة ( 2009 / 10 / 7 - 11:10 )
أتابع منذ فترة ما يكتبه الشاعر والمفكر الكبير مهدي بندق سواءفي مجلته الرائعة تحديات ثقافية او في جريدة القاهرة ومن قبلها الأهرام والمواقع الفضائية المختلفة . وكم أعجبت بعمق فكره وسعة أفقه وموسوعية معلوماته ، ولكنني أعترف اليوم بأن هذا الإعجاب كان أقل مما يستحقه الرجل ، فدراسته المنشورة بهذا الموقع العظيم تجاوزت حد الإعجاب إلى المطالبة بتعميمها في كل
المواقع المتاحة . فهي درس لكل شاعر وناقد وكم دهشت لهذا الربط الرائع بين الكون والشعر من خلال الفيزياء والفلسفة
والنظرية الأدبية مما لم يفطن إليه أدونيس نفسه
أستاذي مهدي لك الشكر


2 - الشاعر يصرخ والطبيعة صامتة
سلوى - شاعرة ( 2009 / 10 / 8 - 13:27 )
ذكرني هذا البحث القيم بكلمة اينشتين - مازال الإنسان محرد طفل يلهو بالرمال على شاطئ محيط المعرفة - وأنا أحيي هذا الجهد من جانب شاعرنا الكبير مهدي بندق كي ياخذ بأيدينا لنغرف جرعات من ماء المحيط . ليت كل الشعراء يقرأون أكثر مما يكتبون آخذين في حسبانهم أن الشاعر يصرخ بينما الطبيعة صامتة


3 - يا سيدي أترك لنا شيئا نكتبه
محمد زكريا توفيق ( 2009 / 10 / 8 - 21:36 )
ما هذا الجمال وتلك الروعة؟
بالله عليك يا سيدي، أترك لنا شيئا نكتبه.

كان الشعر ولا يزال يعد نفسه ممثلا خاصا للكون.
سفيرا فوق العادة.
ملموس الظاهر ومعناه الباطن في جدلية واحدة.
كل ما في الكون محض قصائد.
ثمة موسيقي تنبع من حركة الأجرام السماوية.
ما يكتبه الشعراء إلا غيضا من فيض

مقال، قمة في العظمة والعلاء

اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي


.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال




.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما


.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم




.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا