الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في دائرة البيطرة .. قصة قصيرة

جمعة كنجي

2009 / 10 / 12
الادب والفن


أنا عبد إسماعيل. اعمل مضمدا ً في البيطرة. وقد قررت ُ أن أستقيل اعتبارا من يوم غد..
ولعل أول سؤال يتبادر إلى ذهنكم هو: ما هي أسباب استقالة السيد عبد إسماعيل؟ حسناً .. سأخبركم، فأنا لا أحب أن ترهقوا أذهانكم في خصوصيات مضمد حيوانات مجهول مثلي.. وباختصار أقول لكم بأنني لا أكره عملي، فأنا أحب الحيوانات مثل حبي للناس، ولو سألتم أي موظف عني في دائرة البيطرة، لأجابكم بان المضمد السيد عبد إسماعيل ظريف وأليف كقط البيوت، مجد في عمله كالحمار، وطيب القلب وهادئ كالبقرة.
وخادم الحيوانات المطيع- أنا عبد إسماعيل كما هو مثبت في هويتي- رب عائلة كبيرة.
قد يقول البعض منكم إنني بدأت قصتي من ذيلها، وقد يقول آخرون أن لغتي هي لغة حيوان.
حسنا ً..! اشطبوا من أذهانكم كل ما ذكرته. سأبدأ الحكاية من أولها، فانتبهوا رجاءً.
أنا ابن فلاح بسيط، وإن أصبحت فيما بعد موظفا بيطريا ً عظيما ً ترتعد منه الحيوانات فزعا ً.
في صغري أحببت ُ الحيوانات. وكان المرحوم أبي يتعجب لشدة تعلقي بالحيوانات.
وقد أحببتُ الكلاب بصورة خاصة، أكثر من حبي لأية حيوانات أخرى. وبرغم أنني تدرجت ُفي العمر - عمري الآن ثلاثة أضعاف عمر كلب مسن - إلا أن صورة كلاب القرية لم تبرح مخيلتي: طوفان ومرجانه واحمر وطويل وأبيض وغيرها من الكلاب المرحومة. ما زلتُ أتحسر على فراق تلك الكلاب الحبيبة، وأود من أعماق قلبي ، الآن، أن أعود طفلا ً امرح ُ في عالم الكلاب! وكانت هوايتي الملعونة هذه تزعج أبي، وكان يعتقد باني إنسان فاشل في كل شيء ولا أختلف عن أي كلب سائب. عاقبني أكثر من مرة، ولكنني أستمريت على سرقة الخبز من البيت لأطعم كلابي العزيزة ..
وبالرغم أن كل بيت في قريتنا كان يمتلك كلبا ً. إلا أن أبي رفض تربية أي كلب في بيتنا.
***
كان أبي- كما عرفتُ فيما بعد- ينتمي إلى جماعة دينية تؤمن بالحلول.
قال لي مرة باستياء بالغٍ: ) لا بدّ أن روح كلبٍ قد حلت في جسدك!).. وكان أبي بطبيعته رجلاً خجولا ً قليل الكلام، فرفض أن يوضح لي معنى كلامه، ولكن هذه القضية ظلت تشغل ذهني أياما ً عديدة. وفي إحدى الليالي- كنت أنام في فراشٍ مشترك معه- سألته:
يا أبي! قبل أيام قلت لي بان روح كلب قد حلت في جسدي فما معنى هذا؟
غضب أبي وقال بنفاذ صبر:
أنت تطرح أسئلة اكبر منك!
قلت وأنا أتودد له:
أريد أن اعرف فقط.
عندما تكبر، سوف أقول لك.
قلتُ بإصرار:
لا... الآن، خبرني!
سحب نفسا عميقا ً، وكمن يبيح سرا ص خطيرا ً، قرب فمه من أذني، ثم قال محذرا ً:
إياك أن تخبر أحدا ً بما سأقوله لك؟
قلت بتعهد:
أقسم لك بأنني لن أقول ذلك لأحد.
اتكأ أبي على المخدة، ومضى يقول:
الروح تبقى هائمة بعد الموت.. هكذا روح كل مخلوق. وعندما تأتي الفرصة المناسبة، فإن الله يحلها في جسد مخلوق آخر جديد. فروح الإنسان من الجائز أن تحل في حيوان، وروح الحيوان من الجائز أيضا ً أن تحل في جسد الإنسان، كل ذلك يتم بإرادة الله. هناك ناس يحملون أرواح صالحة، وهناك ناس يحملون أرواح شريرة.. قد يعيش الإنسان فقيرا ً معدما ً في بلد ما، ثم لا تلبث روحه أن تحل في جسد ملك مثلا ً في بلد آخر وزمن آخر...وربما تعود بعد زمن فتحل في جسد حيوان حي بين الحيوانات، إذا ً، هناك أرواح شريرة، وهناك أرواح صالحة..!
وكيف نعرف حقيقة روحنا؟ من أين جاءت؟ وإلى أين تنتهي؟ ولماذا؟
نحن لا نعرفُ. هذا سرٌ الهي.
ثم استطرد يقول:
لكننا، في بعض الأحيان، نستدل من خلال سلوك الإنسان أو الحيوان عن ماهية روحه السالفة.
واستغرق أبي في النوم، في حين ظل خيالي سارحاً في عالم الأرواح الغامض والعجيب...
***
في صباي زادت خبرتي بعالم الكلاب: تعلمتُ منها الكثير، وشرعتُ أفسر سلوكها وفق أفكار أبي. للكلب، مثلما للإنسان، شخصية، هذا كلب متكبر، معتد بنفسه، فربما كان فيما مضى إمبراطورا ً... وهذا كلب ذليل، ربما حلت فيه روح شحاذ. وبين الكلاب المخلص والجاحد، الأناني والمتسامحُ، الشجاع والجبان، الذكي والغبي، بل فيها من يكره أبناء جلدته، كذلك الطاغية الذي أحرق مدينتهُ. فعالم الكلاب عالم عجيب كعالم البشر أنفسهم.
ومن هذا المنطلق كان علي أن أعامل كل كلب على ضوء شخصيته وسلوكه..!
وتعلمتُ كيف أقلد نباح أي كلب كان، وعرفت أن الكلاب تطلق في حالة نباحاً مختلفاً..
كنت أجمع كلاب القرية فتتبعني كقطيع إلى بساتين الزيتون أحيانا ً أو إلى الجبل الكائن شمال القرية في أحايين أخرى. وهناك كنت ُ ألهو مع الكلاب بكل سرور: اضحك. اغضب. أشاكس . أتسامح . انتصر. انهزم. وكنت لا أعود إلى البيت إلا في ساعة متأخرة من النهار، فأتلقى عندئذٍ على مضض شتائم أبي المقذعة:
ابن الكلبة! الم اقل لك بان روحك هي روح كلب؟.. متى تترك هذه العادة السيئة؟.
ولكن حب الكلاب تغلغل في نفسي، ولم يعد بإمكاني ترك هذه الهواية الملعونة.
***

والآن، عندما أعود بذاكرتي للماضي، أجد بأن ذكريات تلك الأيام ما تزال ماثلة في خيالي..
ذات مرة حبسني أبي إلى جانب الحمار، قضيت ليلة كاملة في الإسطبل مقيد الرجلين والحمار حر..!
وحينما كبرتُ حاكمت نفسي بنفسي. لم يكن أبي خاطئا ً، سامحه الله و أطاب مثواه.. فلقد بلغت بي الحماقة- الحماقة التي اكتسبتها من الكلاب طبعا ً- أن جعلت من عمي أضحوكة. كان يمشي بزهو ٍ وفخذ لحم يتدلى من يده، مشيتُ خلفه، اقتربت منه واقتربتُ. وبغتة ً أطلقت نباحا ً سريعا ً:( عو..عاو.عو!) قفز بخفة إلى الأمام وهو يطوح باللحم على الأرض، وعندما استدار وجدني أبتسمُ ببرود، عصف به الغضب، وانكب على الأرض ليلتقط حجرا ً، وهو يقول بصوت حانق: ( كلب ابن الكلب!)... ولكنني أثناء ذلك كنت قد أطلقتُ ساقي للريح متوجها ً نحو بساتين الزيتون الكثيفة.
ولم يكتفِ عمي بعقاب أبي لي. فبعد أيام وقعت في كمين نصبه لي. ربطني إلى جذع شجرة زيتون ومضى.
وفي ليالي الشتاء المعتمة، كنت اعوي كالذئب، فتهتاج كلاب القرية، ويتأهب الرجال حاملين بنادقهم.
وكان لنا جار سكير، عصبي المزاج، لا يطيق سماع أي صوت كان. تصوروا أنه تشاجر مع جدتي مرة لأن صوت صر صرٍ في بيتنا كان يقلق راحته!
وانتهزتها فرصة لأنتقم منه.
بعد أيام قفزتُ إلى سطح منزلهم، واختبأت بين الأغطية. كان يجلسُ في نهاية السطح وأمامه ( ربع عرق). وفي اللحظة التي بدأ يدني القنينة من شفتيه، صحتُ بصوت حاد يثقب الآذان: (عاو!). وضع القنينة على الأرض، وتطلع حواليه باحثا ً عن مصدر النباح. وكلما كان يدني الزجاجة من فمه كنت أطلق نباحا ً:(عو! عاو!).. وأخيراً فقد السيطرة على أعصابه تماما ً، فنهض بهياجٍ ، وأطلّ على بيت جار آخر وهو يناديهم:
يا هؤلاء: ألا تستطيعون أن تؤدبوا كلبكم؟؟..
وسمعت الجيران يقولون:
ما بك يا هذا؟.. لقد مات كلبنا منذ أسبوع!.
اسقط في يده. عاد إلى مكانه وهو في غاية الارتباك. وهنا أخرجت رأسي من بين الأغطية.
رفع الزجاجة إلى فمه، فشرعت انبح بصوت متواصل:( عو.. عاو..عو..عاو!) نظر نحوي بوجه حانقٍ وقد اخرس الغضب لسانه، مددت رقبتي نحوهُ وصحتُ ( عو!) عض على أصبعه من شدة الغيظ، وحملق في وجهي بعينين محمرتين وهو يصرخُ: ( أنا الآن أشرب، فانتظر إلى الغد يا خنزير!...) وتعجبتُ لأنه لم يتحرك من مكانه.
ورغم عصبيته المفرطة كان إنساناً مرحا ًوطيبا ً.. وفي اليوم الثاني تجاهل الموضوع تماما ً.
وكثرت مناكداتي للناس، وكثرت الشكاوى ضدي. واحتار أبي في أمري.
وكان هو ضحيتي الأخيرة.. ! لن أقول لكم ما حدث. سامحوني! فليس مت الإنصاف أن أتحدث عن أبي وهو في مثواه الأخير. وكل ما أستطيع أن أقوله لكم أن أبي لم يغضب على خلاف عادته في كل مرة، بل تفرس مليا ً في وجهي- وربما كان يتمعن في الزغب الذي علا شفتي- وقال بصوت يائس:
أنت حيوان، وستظل حيواناً .. أنت لا تصلح إلا للعيش مع الحيوانات. هل فهمت قصدي؟!..
***
وفي الصف الأول متوسط انقطعت عن الدراسة. ولا يعني هذا بان ذكائي قاصر.
وبعد فترة دخلت دورة للتضميد البيطري، ثم انتقلت لأعيش في المدينة كالأفندي صاحب قريتنا.
وهكذا صدقت نبوءة أبي، وتحققت آمالي: سوف أمضي عمري كله مع الحيوانات!.
في البدء ظننتُ أن هذه الدائرة إنما وجدت للعناية بالحيوانات، تماماً مثلما تعنى المستشفيات بالإنسان، ولكن سرعان ما اتضح لي بان عالم الحيوان هو غير عالم الإنسان، الحيوان هنا يقتل- وبدون رحمة- في كثير من الحالات.. يقتل إما لوقاية الإنسان من نفس المرض، أو كقربان للمحافظة على أبناء جنسه من الوباء. والكلاب السائبة، من وجهة نظر البيطرة- كانت اكره الحيوانات لأنها سبب الأكياس المائية.
أما كلاب الذوات، الكلاب التي تعيش في بحبوحة داخل قصور فخمة، فكانت هي المدللة في دائرتنا.
مجتمع الكلاب، إذا ً، هو الآخر مكون من طبقات:- تعساء ومحظوظين.. فيا للمهزلة!. وقلتُ لنفسي معزيا ً: ( أغمض عينيك يا عبد إسماعيل..! أنت الآن موظف، أنت الآن رجل بالغ ورب عائلة.. أنت لم تعد صبيا ًطائشا ً متمرداً لا تفكر إلاّ بالكلاب. العمل هنا في هذه الدائرة يتيح لك فرصة للتعرف على طبائع حيوانات أخرى.. غني مثل الحمار، ارقص مثل الجمل، ارفس مثل البغل، كل من الطعام بقدر ما تأكل جاموسة، ولن تجد من يحاسبك على ذلك... اعتبر نفسك عدواً للكلاب، كن عاقلاًً. اخضع لواقعك يا عبد إسماعيل!). ولكن عبد إسماعيل الصبي، العنيد، المشاكس كان من حين لآخر يصرخ في أعماقي:( الكلاب حيوانات وفية.. الكلاب أوفى من كثير من البشر!).
آه... يا أصدقائي القدامى!
لقد مضت أعوام وأعوام وأنا اعمل في دائرة من المفروض بها أن تعتني بكم...
ولكن الأمور تجري بالعكس..
ثمة كارثة ستحل بكم. يؤسفني أن أقول إنهم جعلوا من صديقكم الوفي - عبد إسماعيل- عدوا لكم.
أمامي الآن كتاب رسمي يقضي بقتلكم جميعا ً.
***
صورة الكتاب:
( بالنظر إلى أن الكلاب السائبة تلحق الأذى بالناس وتقلق راحتهم وتسبب لهم الكثير من الأمراض كداء الكلب والأكياس المائية والديدان وغيرها، وبالنظر إلى أنها تشوه منظر المدينة لذلك قررنا تشكيل لجنة مشتركة من قبل طبابة صحة المدينة ودائرة البيطرة ومديرية الشرطة ومديرية البلدية لشن حملة على الكلاب السائبة وإبادتها رجاءً).
نحن الآن في دائرة البيطرة، نعد لكم جرعات مميتة. ندس السم . السيانيد؟!.. والشرطة يهيؤن عشرات الخراطيش وسيارات البلدية متأهبة . وستشرف طبابة صحة المدينة على حرق جثثكم. وقد اختاروني أنا، صديقكم القديم، عضوا في اللجنة المذكورة. سامحوني! باعتباري موظفا ً في الدولة فيجب أن أؤدي مهمتي بجد وإخلاص.
والشجاع منكم من ينجو بجلده..
***
تطلعت إلى وجهه الجامد.. وجهه ليس بغريب عني.. أين رأيت هذا الرجل؟ وتذكرتُ: إنه خادم الأفندي صاحب قريتنا.
كان بصحبته كلب، وطلب مني أن افحصه. وبرغم انه كان من فصيلة أجنبية نادرة إلا أن منظره لم يعجبني. وقلت في سري: ( لا بد وأن روح كونت أوربي عجوز قد حلت جسده!) . ظل الكلب المتعجرف هادئا ً بين يدي أثناء الفحص، يتأملني بغطرسة جنرال أمريكي، واتضح لي بان الكلب مصاب بالجرب، وتكونت لدي شكوك في احتمال إصابته بالأكياس المائية، قلت للخادم:( الكلب هرم، ومصاب بأكثر من مرض، أفلا يستطيع الأفندي أن يستغني عنه؟). حملق الخادم في وجهي ببلادة وهو يتمتمُ: ( سيدي يطلب معالجته). قلت في سري: ( حسنا..! ليذهب سيدك الأفندي وكلبه الأجرب إلى الجحيم!).. وحين كنت أهيئ حقنة الدواء، هجم الكلب علي فجأة، فنهش فخذي ثم لاذ بالفرار إلى الخارج..
..وكان لا بد من العلاج، فمن يقول بأن كلب الأفندي ذاك ليس مسعوراً؟.

***

من الدائرة إلى المستشفى، ومن المستشفى إلى البيت، والعلاج يجب أن يستمر أسبوعا.
وانتشر الخبر بين الزملاء في الدائرة. كلب مسعور نهش عبد إسماعيل في فخذه.. وهذه فرصة ثمينة للمداعبة يا سادة:( أليس من الجائز أن يسري الداء الخبيث في دمك يا عبد إسماعيل؟) .
هذا جائز جدا ً ، تندروا. امزحوا . اضحكوا.. وبعد أيام قد ينقلب عبد إسماعيل الإنسان إلى كلب مسعور.. حتى أنت يا مدير دائرتنا الوقور؟! ما معنى ابتسامتك هذه وأنت تنظر إلي بهدوء وصمت ؟. لا.. لا.. انتم واهمون.. الطب يصنع المعجزات ومن المحال أن يسري الداء الخبيث في جسدي.. انتظروا.. انتظروا.. وبعد اليوم العاشر أحكموا علي!
ولكن اليوم العاشر لن يأتي أبدا.. لا اعرف كيف هب في أعماقي عبد إسماعيل الصغير.. وفي اليوم السابع، بالضبط، هب وهو يحثني بإلحاح: ( هذه فرصتك يا عبد إسماعيل.. إنها فرصة جميلة فلا تدعها تفلتُ!!).
كان في نداءه قوة سحرية لا تقاوم، فدلفت إلى غرفة المدير، واختبأت تحت الأريكة.
المدير الآن يدخل الغرفة. اعرفه من وقع أقدامه. إنه الآن يجلس خلف المنضدة بوقار وكبرياء ٍ.. وعندها هتف بي عبد إسماعيل الصغير: ( حانت فرصتك أيها الكلب الكبير!). ومن تحت الأريكة أطلقت صوت كلب غاضبٍ:
مررر...مررر ...عاو!
ونجحت اللعبة. المدير يندفع خارجا ً من الغرفة بذعرٍ وكأن كلبا ً متوحشا ً يلاحقهُ. سمعته ينادي البواب بخجلٍ وارتباك: ( علي.. علي.. في الغرفة كل...ب.. كلب.. كيف دخل إليها؟).. انكمشت على نفسي تحت الأريكة. علي يدخل، يجيل بأنظاره في جميع الأركان . يخرج، اسمعه يقول بهدوء: ( ليس في الغرفة أي كلب يا أستاذ!).. ويعود المدير بحذر هذه المرة يجلس في مكانه، يدخل علي أيضا ً.. ثم يفاجأ الاثنان بنباح مرعب: ( عو!عو!عو!). يهرب علي وفي إثره المدير.
اسمع لغطا ً ووقع أقدام وتجمهر عند الباب، يتطوع الآن بواب شاب وشجاع . أرى العصا بمحاذاة ساقه. وقبل أن ينكب أباغته بنباح مجلجل: ( مرر..عو!) يخرج هو الآخر خائبا ً مصفر الوجه، ويزداد اللغطُ ، إنهم يتشاورون. الكلب قد يكون مسعورا ً، فلا بد من خطة لإخراجه، المدير يقول: ( هيا يا محمود: لا نريد منك أن تخرجه.. فقط القي نظرة عليه.. تأكد إن كان مسعورا ً أم لا؟) يدخل محمود . ينحني من بعيد. يمد رقبته بتوجس ثم يمتقع وجهه كمن صعقه تيار كهربائي، لن أدع له مجالا ً للتفكير. لا د من إكمال اللعبة. ويكفهر وجهي، وككلب كوجري* شرس انبح في وجهه: ( حو..حاو..حو!) فيقفز هو الآخر هاربا ً، ويخبرهم بذهول عما رآه ، ويخيم الصمت عليهم للحظاتٍ، ثم يعلو اللغط من جديد: ( لقد أصيب بداء الكلب!). ( لا تدعوه يخرج فسينهش لحمنا!) ( اتصلوا بالإسعاف) ( أغلقوا الباب!). ( إنه مجنون وقد يكسر الباب). ( تسلحوا بالعصي.. وهاتوا الحبال لنربطه إذا حاول الهجوم!). ( ليس هناك أخبث من هذا الداء!) ( انتبهوا!).. واخرج رأسي من تحت الأريكة. أراهم ينظرون إلي من الشباك بنفورٍ وكأنهم يواجهون وحشا ً أسطوريا ً. وقلت لنفسي: ( لقد وقعت في الفخ، يا عبد إسماعيل ، وعليك لن تنهي اللعبة!).
خرجت ُمن تحت الأريكة . اتجهت نحوى الشباك. إلا أنهم ارتدوا خطوات للخلف.
قلت لهم:
كنت ُ أمزحُ
ردّ المدير قائلا ً:
كل المجانين يدعون بأنهم عقلاء!
قلتُ بإصرار:
ألا تصدقون بأنني معافى سليم؟
أجاب احدهم باستهانة:
لا.. أنت الآن مجنون!
قلت بتوسل:
ولكنكم بيطريون وتعرفون أعراض المرض؟
نحن أخصائيون في أمراض الحيوانات فقط !
اعتبروني حيوانا ً!!
أنت إنسان مجنون.
القوا ما في أيديكم من عصي.. وارموا الحبال بعيدا ً، وسأخرج طائعا ً كالنعجة.
أنت خطر على سلامتنا!
ماذا دهاكم؟ أليس بينكم فرد عاقل؟ افتحوا الباب أرجوكم.. لقد كنت أمزحُ!
وخيم عليهم صمت قاتل.
***
طرق مسمعي صوت سيارة الإسعاف وهي تعوي من بعيد ككلب متوجع. وكلما كان الصوت يقتربُ، كلما كان يزداد صداهُ في أذني.. وقلت لنفسي: ( جاء دورك يا عبد إسماعيل لتدفع ثمن عبثك.. !) وبعد ثوان قليلة كانت السيارة قد وصلت الدائرة. فتحوا أبوابها الخلفية، وأخرجوا سدّية. وقف الجميع في صفين متوازيين، رافعين العصي في الهواء متأهبين للانقضاض علي. مشيتُ في الوسط بكل هدوء. مشيتُ بينهم بذل وعظمة ملك مخلوع يغادر ارض وطنه، كان صوت أبي يرن في أذني: ( روحك هي روح كلب!) صعدت إلى السيارة وهم يتأملونني كمن يتأمل حيوان غريباً. وحين همت السيارة بالانطلاق، أخرجت رأسي من النافذة، وبكل ما لدي من خبرة في تقليد نباح الكلاب صحت في وجوههم باشمئزاز :
عو!
***
في نفس اليوم، بعد خروجي من المستشفى، قررت أن أستقيل، وقد يبدو سبب استقالتي سخيفا ً.

جمعة كنجي
ـــــــــــــــ
*
الكوجر: قبائل كردية مرتحلة تشتهر بتربية كلاب ضخمة وشرسة.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل