الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هجاء الدولة القطرية

موريس عايق

2009 / 10 / 12
مواضيع وابحاث سياسية


أمست كيانات الهلال الخصيب بمثابة خشبة الخلاص التي يتعلق بها كثر على الرغم من أوضاعها المضطربة التي قد تهدد استمرارها، اعتراف افتقدته سابقا حيث كانت عرضة لهجوم ايديولوجي عنيف طال شرعية وجودها.
الدفاع الحالي عن هذه الكيانات له دوافع مختلفة، تتراوح بين الدعوي الى العقلانية والواقعية وصولا إلى الحاجة لتأسيس وطنية مرتبطة بها في مواجهة عصبيات طائفية أو عشائرية تنذر بحروب أهلية تفتت ما هو موجود اصلا. رغم وجاهة الدعوى غير أن أكثر من نصف قرن من عمر دول الهلال الخصيب يدعونا إلى تقييم التجربة كما تجلت تاريخيا وخاصة فيما يتعلق بالعجز عن بلورة هوية وطنية.
لم تحظ الدولة القطرية في حالتي العراق وسوريا بشرعية حقيقية ولم تتمتع بولاء اغلبية مواطنيها وقبولهم بها كوطن نهائي، حتى أن الشرعية التي ادعتها الانظمة التي تعاقبت على حكم كل من هذين القطرين استندت إلى هويات متجاوزة للدولة القطرية ونافية لها، فشرعية النظام كانت تزيد بمقدار ما يزيد من تأكيده على الأمة العربية ودولتها الواحدة، بمعنى أن النظام شرعي بمقدار ما يؤكد على نفي الشرعية عن الدولة نفسها.
في لبنان ظهرت الاعتراضات على الكيان منذ البداية من قبل جزء كبير من سكانه الذين اقتطعت أراضيهم من سوريا وضمت إلى جبل لبنان، أما الاردن فلم يكن في نظر عبداالله الاول غير محطة للوصول إلى المجال الطبيعي للدولة أي سوريا والتي شكلت محور السياسة الخارجية الاردنية طيلة عهده.
رغم هذا الحال فإن الدولة القطرية ترسخت في الممارسة العملية للسلطة، فهي قدمت تأريخا متمركزا على اقليمها وعززت مؤسساتها وجيوشها الوطنية، وكان الحال ذاته فيما يتعلق بمشاريع التنمية الوطنية التي قامت على سياسات حمائية نفت امكانية تطور تكامل اقتصادي لدول ذات اقتصاديات متشابهة في منتجاتها.
غير أن الدولة القطرية وعلى الضد من المنطق العملي للسلطة لم تنجح في ترسيخ شرعيتها، على العكس تأكلت هذه الشرعية بمقدار ما تأكلت الشرعيات القومية النافية للدولة القطرية.
المعاناة الأساسية لهذه الدول هي قضية الهوية والانتماء، التي تعود إلى الطبيعة القيصرية لنشأة هذه الدولة والمرتبطة بالاندماج بالنظام العالمي، فسكان سوريا التاريخية لم يعرفوا انفسهم عبر هوية وطنية جماعة أو أظهروا شعورا وطنيا جامعا، على العكس فهم عرفوا انفسهم من خلال انتمائهم الى القبيلة أو القرية أو الطائفة.
وقد استمر الحال مع الدولة القطرية، وقد قامت بعضها كنتيجة لبلورة هوية خاصة بإحدى المجموعات الفرعية كحال لبنان أو دولتي العلويين والدروز اللتين لم تستمرا، لتصبح الدولة تعبيرا عن هواجس ومخاوف هذه الجماعة في مواجهة مجموعات أخرى، فارتبطت الهوية المارونية بمشروع الدولة اللبنانية وبالتالي بالهوية اللبنانية نفسها، لتمسي الدولة ِشأنا مارونيا يرفع في وجه الاخرين. أيضا سعت الدولة الاردنية لتعزيز هوية اردنية متمركزة على العصبية العشائرية (والجنوبية منها خاصة) في مواجهة الفلسطينيين، مترافقة مع تشكيك في أردنية المجموعات الشمالية ذات الهوى السوري. في الحالتين فإن الدولة لم تسع لتقديم نفسها كممثلة للجميع انما اندرجت في الصراعات الداخلية جاعلة من نفسها تعبيرا عن احدى العصبيات ومركزا لقوتها.
حتى عندما لم تر الدولة نفسها من خلال احدى الجماعات الفرعية علنا فإنها لم تستطع مأسسة هوية وطنية مكافئة للدولة نفسها انما اعتمدت على هوية اوسع من الدولة نفسها، وعلى مستوى الممارسة العملية – خلا المحاولات الجدية لبناء دولة والتي انتهت بالفشل أخيرا في التسعينيات في العراق وفي الثمانينيات في سوريا - فإنها عززت الهويات الدنيا (العشائرية والطائفية) باعتبارها جزءا من استراتيجية سيطرة سياسية معوضة عجزها عن تقديم ايديولوجيا مهيمنة تضمن بها مشروعيتها. هكذا أصبحت الدولة –التي انحلت في السلطة- تستخدم الطائفية والعشائرية كسياسية تفريق تنفي وجود المجتمع كوحدة أساسية، مترافقة مع سياسات قمعية أدت إلى إلغاء المجال العام السياسي الذي يسمح بتكوين وعي وطني عام جاعلة بذلك من مجتمعها مجموعة متنافرة من الجماعات المحلية والمتعادية التي تخشى بعضها البعض، وعندها تقدم الدولة نفسها باعتبارها الحامية لخصوصية هذه الجماعات، والقوة التي تضمن عدم التنازع بينها، وليس باعتبارها تعبيرا عن الشعب.
الدولة نظرت إلى مجتمعها باعتباره مجتمعا فسفسائيا لا يجمعه شيء موحد كما كان حال نظرة الاحتلال الفرنسي الى سوريا والبريطاني (والامريكي حاليا) للعراق، وعبر هذه الاستراتيجية فإن الدولة الوطنية تستدخل وإن بشكل غير مصرح به علنا الهويات الطائفية إلى مجالها، حيث تسود فيها شروط المحاصصات الطائفية في الوزارات والنقابات والبرلمانات باعتبارها "تمثيلا عادلا" للمكونات المختلفة، وتصبح الوحدة الوطنية مفهومة باعتبارها "تعايش" هذه المكونات، لتمسي الصورة الامثل لها هي التي تجمع رجال الدين أو ممثلي العشائر، وعندها يعود الشعب إلى الدولة عبر طوائفه كما الحال في لبنان والاردن.
ان العجز عن بناء هوية وطنية لا يتعلق بالانظمة بل بالدولة الوطنية نفسها، وهو يعود الى أسباب متنوعة تأتي في مقدمتها التكوين التاريخي لدول الخصيب. فالتشريعات التي دشنت تحديث الإداة منذ عصر التنظيمات العثمانية كانت مرتبطة بالالتحاق بالنظام العالمي، وبدت للغالبية وكأنها على حساب مصالحهم وانحيازا للأقليات.
وضعية عززتها عملية التقسيم بين 1920 – 1923 التي أنتهت بإنشاء هذه الدول المتعارضة مباشرة مع الخبرة التاريخية للسكان والمجال الطبيعي لحركتهم، وهكذا دمجت جماعات وفصلت اخرى دون مبرر وحتى دون القدرة فيما بعد على تبرير هذه العملية.
كما فاقم العجز المادي لدول بلاد الشام في ضعف قدرتها على صهر الجماعات، فقد افتقدت الى ادنى مقومات الاقتصادية والمادية التي تؤمن لها قدرة فعلية على خلق ايديولوجيا قادرة على الهيمنة وعلى تحطيم انماط الوعي والهوية المباشرة التي يقدمها المجتمع عبر تأسيس اقتصاد قومي ونظام تعليمي قومي فعال وقوانين تأسيسة، وفي ظل هذا العجز لم يكن لها القدرة الا على مهادنة ومن ثم استدخال هذه الهويات الدنيا إن كانت طائفية أو عشائرية كما حصل في العراق خلال التسعينات حيث عادت القوانين العشائرية وفي الاردن عبر تعزيز مكانة العشيرة وصولا إلى أختراع أصول عشائرية لمجموعات متزايدة من السكان.
الدولة القطرية لم تستطع تأمين استمرارها عبر التحول الى دولة وطنية و تأسيس أمة لعجزها عن انتاج متخيل وطني يمكن للأفراد تعريف أنفسهم بالإحالة إليه، فعمدت إلى تفتيت مجتمعها قدر الامكان عبر تعزيز وعي العصبيات على قاعدة الخوف والذعر من الآخرين.
انحطاط الدولة القطرية وصل إلى ذروته عندما أصبحت استراتيجيات السيطرة الخاصة بها موازية لتلك التي اعتمدها الاستعمار سابقا، فالدولة القطرية انتهت من كونها نتاجا لحركة التحرير الوطني لتصبح نوعا من الاستعمار الداخلي، متبنية ذات استراتيجيات السيطرة والتمثيل التي تكونت خلال الحقبة الاستعمارية.
إن إعادة الاعتبار للدولة باعتبارها الشكل الامثل – في ظل هذا النظام العالمي- لمراكمة القوة وتقديم المستوى الأعلى للعقلانية السياسية لايمكن أن يمر من خلال الدولة القطرية نفسها، انما عبر استعادة الأطروحة القومية الاقدم والتي تقول بان الدولة القومية وحدها هي القادرة على ان تكون نقطة الانطلاق وخاصة فيما يتعلق بالتحولات الاكثر جذرية، بحكم أنها وحدها القادرة على امتلاك الحد الادنى من الشرعية التاريخية لانجاز هكذا تحولات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رفح: هل تنجح مفاوضات الهدنة تحت القصف؟ • فرانس 24 / FRANCE 2


.. مراسل شبكتنا يفصّل ما نعرفه للآن عن موافقة حماس على اقتراح م




.. واشنطن تدرس رد حماس.. وتؤكد أن وقف إطلاق النار يمكن تحقيقه


.. كيربي: واشنطن لا تدعم أي عملية عسكرية في رفح|#عاجل




.. دون تدخل بشري.. الذكاء الاصطناعي يقود بنجاح مقاتلة F-16 | #م