الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تعارض المنهج المادي للتَّاريخ مع المنهج الدِّياليكتيكي

أنور نجم الدين

2009 / 10 / 14
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


الدِّياليكتيك والواقع التَّاريخي:

عندما يصل البشر إلى التَّحقق عن حياته الواقعية تجريبياً، فيكتشف آنذاك، علاقة واقعية ما بين شروط وجوده وفكره، أو ينتقل حينئذ، من التفسير الفلسفي للتَّاريخ إلى التفسير الواقعي، وبهذه الصورة، انتقل البشر إلى الميدان الواقعي للتحقق عمَّا يجري أمام عيونه، أي بصورة مادية، بعد ما كان يجري عبر رأسه، أي عبر عقله وأدواته العقلية كالمنطق الشَّكلي والدِّياليكتيك.

وهكذا، أنَّ الأسلوب الواقعي للتَّفكير، أو ظهور المفهوم المادي للتَّاريخ، لا يعود إلى دياليكتيك هيغل الذي يجري عبر رأس البشر، بل إلى تاريخ التَّقدم الصِّناعي بالذَّات، وأرض هذا التَّقدم في التَّاريخ الحديث للبشرية، هي إنجلترا الصِّناعية، التي قدمت طريقة واقعية لاكتساب معارف واقعية عن التَّاريخ أيضاً، وهذا من خلال البحث عن الأشياء التَّاريخية بصورة تجريبية، ثم كتابة تواريخ المجتمع المدني، والتِّجارة، والصِّناعة، والمبادلة، والعمل الإنتاجي، والأجرة، والأسعار، والقيمة، وفائض القيمة، والرِّبح، والعرض، والطلب، ثم التَّناقضات الاجتماعية النَّاتجة من كلِّ هذه العلاقات، التي تجري تحت أقدام البشر وليس فوق رأسهم، فالمفهوم المادي للتَّاريخ، يعود في الأساس إلى بيئته المادية التَّاريخية، فالمادية التَّاريخية ليست نظرة فلسفية إلى التَّاريخ، بل نظرة مادية، واقعية إلى ما يجري فعلياً في التَّاريخ، ولم يكن ظهورها ممكناً دون النُّشوء المسبق لبيئتها الواقعية.

وهكذا، فلم يكن ممكناً لهيغل، أو الألمان على العموم، الإسهام في تطوير المنهج المادي للتَّاريخ، وهذا لسبب بسيط لدى الماديين التَّاريخيين، وسبب معقد لدى الماديين الدِّياليكتيكيين، وهو أنَّ البيئة المادية التَّاريخية التي نشأ فيها علم التَّاريخ، وعلم الاقتصاد السِّياسي، كانت تختلف كلَّ الاختلاف عن البيئة التي نشأت فيها الفلسفة الألمانية، فعلم الاقتصاد السِّياسي ومنهجه، ناتج من التَّطور الصِّناعي، أمَّا فلسفة هيغل فنتيجة مباشرة للتَّخلف الصِّناعي، أو تخلف الإنتاج الرأسمالي. وكان المنطق الصُّوري والدِّياليكتيك، الأداة الوحيدة في يد الفلاسفة للتَّحقق ممَّا يتصورنه، فنقص أفكارهم كان نقص واقعهم التَّاريخي، ولم يظهر المنهج المادي إلى السَّطح، إلاَّ بعد تجاوز هذا النَّقص التَّاريخي. وكان كلُّ تناقض بين الأشكال التَّاريخية القديمة، مع الأشكال التَّاريخية الجديدة للحياة الاجتماعية، ينعكس بالضَّرورة في الفكر البشري، والتَّناقض بين المنهج المادي للتَّاريخ مع فلسفة هيغل ومنهجه الدِّياليكتيكي، يمثل هذا التَّناقض التَّاريخي. الدِّياليكتيك هو أسلوب التَّحقق من صحة أو خطأ الفكر بالفكر، لذلك لا يمكن تقسيم الدِّياليكتيك، إلى دياليكتيك مثالي، ودياليكتيك مادي، كون الدِّياليكتيك ينتمي في الأصل إلى الفلسفة، بل وإلى اللاهوت، إلى عالم الأفكار المحضة. ولكن مع ذلك، يجب القول إنَّ المسألة لا تتعلق بكون الدِّياليكتيك مشتق من اللاهوت أم لا، بل تتعلق بكون الدِّياليكتيك يفصل المعرفة عن الواقع التَّاريخي، فالدِّياليكتيك يتحقق من صحة أو خطأ الفكر بالفكر، لا بدراسة التَّاريخ وعلاقة البشر ووعيه به، وهذا ما يخالفه بالضبط المنهج المادي للتَّاريخ، فالدِّياليكتيك، هو محاولة لفصل الفكر عن واقعه التَّجريبي.

ونستنتج مما قلنا أعلاه، أنَّ الماديين، لا يكونون عاجزين عن النَّظر إلى العالم لو أستلب منهم المنطق العقلي، والدِّياليكتيك الهيغلي، لقياس الحركة والتَّناقضات، فهذا اللغز الدِّياليكتيكي، لا يحل أي غموض سوى الغموض الفلسفي، العقلي، فالماديون الدِّياليكتيكيون، يتحدثون وكأنَّه ليس للبشر سبيل آخر لفهم العالم إلاَّ من خلال قوانين الدِّياليكتيكية، أو من خلال نظرية المعرفة (الدِّياليكتيك)، أو ليس للمادية التَّاريخية سبيل آخر للبحث عن التَّاريخ بوصفه حامل التَّناقضات، إلاَّ من خلال الفلسفة وأدواتها العقلية، كالمنطق الصُّوري والدِّياليكتيك، أما الدِّياليكتيك، فليس سوى حلول عقلية للغموض، والوساوس، والشُّكوك في أشكال ضبابية للعقل.

الدِّياليكتيك والعمل التجريبي:

حين يقول الماديون الدِّياليكتيكيون، إنَّ الدِّياليكتيك علمٌ، فإنَّهم يحاولون بهذه الصورة، تشويه كلِّ المعارف البشرية، حين يضعون هيغل في التَّعارض مع عالمه الرُّوحي، الذي يبحثه من خلال فكره الفلسفي الدِّياليكتيكي، والعلماء مع أعمالهم التَّجريبية، حيث إنَّ آلية أبحاثهم، ووسيلة كسب معارفهم هي ما يقومون بالتَّجربة عليه، وليست القوانين الدِّياليكتيكية، أي وحدة المتضادات، وتغيرات الكم إلى الكيف، ونَّفي النَّفي، هي الوسائط التِّكنيكية المتوفرة في مختبراتهما للنَّظر إلى ما هو موجود في العالم الواقعي بصورة تجريبية، وليس أفكارهم المجردة. مثال: كيف ننظر مثلاً إلى الفضاء الخارجي، وحركة الكواكب، والتَّغيرات في المجرات، ونشوء النُّجوم، وتاريخ نشوء الأرض، وما يجري داخل هذه الظواهر الطَّبيعية؟ من خلال نظرية المعرفة (الدِّياليكتيك)؟ من خلال العقل الدياليكتيكي، أم من خلال الأجهزة التي تقوم بتجميع المعلومات، والتأكيد على صحة هذه المعلومات، حين تقوم بتكوين صور مقربة للأجرام السَّماوية، والأجسام البعيدة؟ وكيف يتحقق عالم طبيعي مثل داروين من عالم الأحياء، ونشوء، وزوال، وظهور أشكال جديدة للأحياء؟ من خلال الدِّياليكتيك؟ وكيف بمستطاع عالم اقتصادي مثل ماركس، التَّحقق من تطور الزِّراعة، والتِّجارة، والصِّناعة، والمبادلة، والإنتاج، والاستهلاك، والعمل، والرأسمال، والأجرة، والربح، أو من الظواهر التَّاريخية، والتَّناقض بينها في المجتمع الرأسمالي كالارتفاع في الأسعار، والانخفاض في الأجور، والبطالة، والفقر، والرُّكود، والازدهار، وإفلاس الشَّركات، والفائض في الإنتاج، والأزمات الاقتصادية، والحروب الرأسمالية؟ من خلال قانون وحدة المتضادات، وتغيرات الكم إلى الكيف، والنَّفي النفي الهيغلي؟ كلا، وألف كلا، بل من خلال القوانين المادية، الطَّبيعية للمجتمع الرأسمالي، كالعرض والطلب، والمزاحمة العالمية، وقانون المعدل العام للربح، أي بالتَّحديد من خلال قانون القيمة، والتَّناقضات الاجتماعية التي تدور حولها، من خلال تطور الصِّناعة، والتَّبادل العالمي، والصِّراع الدَّولي النَّاتج منه، حيث "إنَّ تاريخ البشرية، يجب أنْ يدرس ويعالج دائماً في علاقته بتاريخ الصِّناعة والمبادلة - كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية".

وهكذا، فمادامت معارفنا ناتجة عن شروطنا الحياتية، أو مادام سير العقل، هو سيره التَّاريخي المتداخل مع القوانين المادية للتاريخ، فلا يمكننا حلُّ كلِّ هذه المعضلة إلاَّ بواسطة الأدوات الإنتاجية التي حددت علاقتنا بالطَّبيعة، أو درجة من تطورنا الحياتي والفكري المطابقة لهذه الأدوات، فلماذا العودة إلى الفلسفة ودياليكتيكها لتفسير العالم، في حين توفرت مسبقاً، التِّقنيات الضَّرورية في أحدث صورها في متناول يدنا، للتَّحقق عن الأشياء بصورة مادية في كافة مجالات العلوم الطَّبيعية، والاقتصاد، والإدارة؟

لنأخذ أمثلة أخرى: كيف نتحقق مثلاً من هزيمة أعظم ثورة في تاريخ البشرية، وهي ثورة الكومونة؟ أمن خلال قوانين هيغل الدِّياليكتيكية، أم من خلال التَّحقق من العلل التَّاريخية لحدوث الثورة وأسباب هزيمتها؟ كيف نتحقق من الأسباب التَّاريخية لنشوء أو انهيار الإمبراطورية السوفيتية؟ أمن خلال وحدة المتضادات، وتحول الكم إلى كيف، ونفي النفي، أم من خلال العلاقات التَّاريخية التي تتحكم مادياً في العالم بأسره، أي من خلال التِّجارة، والمبادلة، والمزاحمة العالمية؟ كيف نتحقق من انتقال البشر ومعارفهم عبر التَّاريخ من الميثولوجيا، إلى الفلسفة، ثم إلى المسيحية، والعلوم الطَّبيعية، والمادية التَّاريخية؟ أمن خلال نفي النَّفي الهيغلي، أم من خلال دراسة علاقة البشر بتاريخ الصِّناعة والمبادلة؟

ولنرَ الآن كيف يبحث كارل ماركس تاريخ نشوء، وتطور، وتكامل العالم الرأسمالي؟

"اكتشاف مناطق الذَّهب والفضة في أمریكا، وتحویل سكان البلاد الأصلیین إلى حیاة الرِّق، ودفنهم في المناجم أو إبادتهم، وبدایات الفتح والنَّهب لجزر الهند الشرقیة، وتحویل إفریقیا إلى نوع من الجحور التِّجاریة لاصطیاد الزُّنوج، هذه هي الطُّرق (الغزلیة الطاهرة) للتَّراكم الأولي التي تبشر بالعهد الرَّأسمالي، في فجره"، "وبعد ذلك بزمن وجیز، اندلعت نیران الحرب التِّجاریة، ومیدان هذه الحرب هو المعمورة بأسرها"، "إنَّ مختلف أسالیب التَّراكم الأولي التي أدى العصر الرَّأسمالي إلى انبثاقها، تتوزع، في البدء، على أساس تاریخي إلى حد ما، بین البرتغال، وإسبانیا، وهولندا، وفرنسا، وإنجلترا، إلى أنْ دمجتها إنجلترا جمیعها في مجموع منظم، یشمل معاً النِّظام الاستعماري – كارل ماركس، رأس المال".

أين نجد الطَّريقة الدِّياليكتيكية هنا؟ أين نجد الصِّلة السَّببية بين المادية التَّاريخية، والفلسفة التي ليست في يدها أداة للتَّحقق من حركة الفكر، ثم التَّحقق من صحة أو خطأ هذه الفكرة أو تلك، سوى المنطق الصُّوري والدِّياليكتيك الذي يستعيرونه الفلاسفة من اللاهوت؟ فكما نرى هنا، لا نحتاج إلى اللجوء إلى الغموض الدِّياليكتيكي للتَّحقق من كيفية تطور المجتمع، والتَّناقضات الاجتماعية فيه، وكيفية إنتقال شكل اجتماعي إلى آخر، ثم التَّحقق من صحة هذه الفكرة التَّاريخية، التي تبحث هذه الحركة التَّاريخية، لأنَّ هذه الحركة والتَّناقضات النَّاشئة منها، تعبر عن نمو القوانین المادية للتَّاريخ نفسه، أي السَّير الطَّبيعي لقوى الإنتاج، والحالة الاجتماعية، والوعي المطابق لها.

وهكذا، ينطلق المفهوم المادي للتَّاريخ من علاقة الكائنات الواعية بالتَّاريخ العالمي، وهذا التَّاريخ يتألف من قوى الإنتاج والحالة الاجتماعية والوعي، أي من تلك المظاهر التَّاريخية الثلاثة، التي لا تملك أي منهما قوانين خاصة بها ومنفصلة عن بعضها البعض، ولا تتطور أو تناقض بعضها البعض، إلاَّ ضمن نفس القوانين الطَّبيعية التي تحكم العالم الواعي أيضاً، فليس الدِّياليكتيك الهيغلي، وقانون وحدة المتضادات، وتغيرات الكم إلى الكيف، ونفي النَّفي الهيغلي، هو الذي يعطينا مدخل فكرة التَّناقض، مع أشكال تاريخية أخرى لهذه المظاهر التَّاريخية، بل دراسة القوانين المادية التَّاريخية، هي التي تعطينا مفتاح فهم كلِّ التَّطور، والتَّناقض، وسبل حله، ثم فحص صحة أو خطأ الفكرة النَّاتجة عن هذه الحركة التَّاريخية، فالنُّزول إلى باطن التَّاريخ والتَّحقق من القوانين المادية التاريخية، وعلاقات الأشياء ببعضها البعض بصورة تجريبية، وليس إلى باطن العقل المجرد، هو الذي يعطينا فكرة صحيحة عن العالم وما يجري فيه، وهذا هو تعارض المنهج المادي للتَّاريخ مع المنهج الدِّياليكتيكي.

أنظر (التَّناقض بين المادية والدِّياليكتيكية): http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=187675











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القلق والترقب يهيمنان على الفرنسيين خشية وصول اليمين المتطرف


.. الأحزاب اليسارية في فرنسا تتوحد لمواجهة صعود اليمين المتطرف




.. فرنسا...اليمين المتطرف في الصدارة | #غرفة_الأخبار


.. الشرطة الإسرائيلية تصد متظاهرين يطالبون الحكومة بعودة المحتج




.. اشتباكات عنيفة بين قوات من الجيش الإسرائيلي وعناصر من الفصائ