الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقال الباشا

نضال الصالح

2009 / 10 / 15
الادب والفن


مدير مدرسة قريتنا يملك دارا في مطلع القرية يحيط بها حديقة كبيرة مليئة بالأشجار المثمرة. تتوسط حديقة المنزل شجرة توت ضخمة، يستقبل صاحب البيت تحتها في الصيف زواره ومحبيه من أهل القرية، يتسامرون وهم يشربون الشاي بالنعناع أو اليانسون والزعتر.
كان في قريتنا قبل الإحتلال الإسرائيلي، كما كان في معظم قرى فلسطين، مضافات حيث يلتقي فيها رجال القرية في كل مساء، يشربون القهوة المرة مع الهال أو الشاي مع النعناع ويتسامرون إلى ساعة متأخرة من الليل. المضافة عادة تحتوي على عدد من الفرشات واللحف والمخدات إلى جانب القهوة والشاي والسكر لإستعمال الضيوف المارين بالقرية. ولقد جرت العادة في قرانا أن الضيف الغريب له حق الضيافة لمدة ثلاث أيام دون أن يسأله أحد عن وجهته وغرضه وسبب زيارته.
إعتاد أهل القرية عندما يأتيها ضيف طارئ أن يقوموا بالمشاركة في إطعامه وضيافته. كما أعتادوا في رمضان أن يفطروا معا، كل يخرج ما عنده من الأكل وحسب طاقته( ولذلك دعوه خروجا) ويأكلونه معا غنيهم وفقيرهم. كان في قريتنا مضافتين، "المضافة التحتى" وهي بجانب مسجد القرية وكان يجلس ويسمر فيها الرجال من أهل القرية، خاصة بعد صلاة العشاء، و"المضافة الفوقى" التي إعتاد على الجلوس والسمر فيها بعض رجال "الحارة الفوقى".
في الصيف كانت ساحة المسجد تتحول إلى مضافة يجلس الرجال فيها على الحصير المفروش تحت شجرة التوت الضخمة التي نمت في وسطها منذ العهد التركي. أما في الشتاء فكانوا يجلسون في داخل المضافة حول موقد من النار المشتعلة من حطب الزيتون الذي يعطي المضافة جوا سحريا معبق برائحة حطب الزيتون المشتعل. كان يجري تحميص حب القهوة مع حب الهال يوميا على نار الحطب الهادئة ثم يقوم صانع القهوة بدق القهوة والهال معا في مهباش خشبي مزخرف تصدر عنه أثناء عملية الدق والطرق إيقاعات جميلة يتفنن صانع القهوة في إخراجها.
كان في انتظاري إلى جانب المضيف أو المعزب حسب ما يقال له في منطقتنا بعض من الضيوف من أهل قريتنا. قام الجميع للقائي وعانقوني مقبلين وجنتي حسب العادة في فلسطين. لم أكن أستلطف عادة التقبيل هذه، ولكن ما كان باليد حيلة، وعلى قدر المحبة يكون عدد القبل وشدتها التي تكون في كثير من الأحيان أشبه بعملية الشفط المؤذية.
كان من بين الحضور رجل اسمه حامد ولكن ندر أن يناديه أحد بهذا الإسم ولقد عرفه الناس بلقب الباشا وهو لقب لقبه إياه والدي لأنه كان يمشي مشية الباشوات. إعتاد الباشا حامد على لبس البنطلون المصنوع من قماش الكاكي وكان يضع على رأسه الحطة الفلسطينية البيضاء وفوقها عقال مبروم أسود ويرد طرف الحطة فوق العقال المحني على الرأس قليلا، فينحسر جزء من شعر رأسه بطريقة يقول لها الفلاحون في بلادنا عنقرة.
ويحكى أن سويديا مسؤولا في وكالة الغوث زار قريتنا وأعجبته شخصية الباشا فسأله من أي جامعة تخرجت يا باشا؟ فرد عليه الباشا بكل جدية: "لقد تخرجت من جامعة دومة". فهز المسؤول رأسة دلالة المعرفة وقال: هم، عظيم، عظيم، ولم يعرف أن دومة قرية صغيرة تقع على جبل مطل على غور الأردن وفيها مدرسة إبتدائية فقط.
للباشا بستان فيه بعض شجرات من الزيتون والتين والعنب وشجرة من الخوخ المطعم. يقع البستان في منطقة إسمها قربوصة، على سفح جبل تطل من على قمته قرية قريوت المجاورة. ولقد وضع المستوطنون اليهود أيديهم على قسم كبير من أراضي قرية قريوت وأقاموا فيها مستوطنة كبيرة واستولوا كذلك على منابع المياه في المنطقة ومنعوا أهل القرى من حفر أي بئر فيها. ولقد اعتاد أهل القرى المجاورة "سرقة" الماء من أنابيب المياه الممدودة للمستوطنة ليلا وفي الخفاء وذلك بقص الأنابيب وسحب مياه المستوطنة، ولطالما أطلق المستوطنون النار عليهم مما أدى إلى جرح البعض أو قتل البعض الآخر.
اعتاد الباشا أن يذهب يوميا لزيارة أملاكه" ليطمئن عليها. وكان يقول: " أنا رايح أطل على أملاكي وأشوف شو عملوا فيها هالقوادين اليهود"، لأنه كان من عادة المستوطنين أن يقطعوا الأشجار ويخربوا الثمار. كان الباشا يسرح إلى بستانه وعصاه تحت إبطه كالباشوات أو الجنرالات. وكان حريصا جدا على وضعية العقال والحطة على رأسه، فأهل قرانا يعتبرون العقال رمزا للشرف وإسقاطه عن الرأس تعتبر إهانة كبيرة. كان الباشا يأخذ معه في رحلته صرة من القماش فيها رغيف خبز طابون وحبات زيتون رصيع ملفوفة بورق جريدة قديمة. إعتاد الباشا أن يقوم بزيارة كل شجرة في البستان وأن يلامسها ويلاطفها ويصلح ما عطب منها وبعد أن ينهي عمله يجلس ليستريح تحت شجرة الزيتون الكبيرة، يفتح صرته الملفوفة ويضعها على الأرض ويتناول طعامه مع حبات من التين الديفور أو العنب، ثم يضح رأسه فوق حذاءه ويأخذ قيلولة يصفها بأنا أفضل من النوم في قصر السلطان العثماني.
في أحد الأيام أفاقته من قيلولته ركلات أحذية عسكرية وصرخات بالعبرية والعربية المكسرة. كانت مجموعة من المستوطنين ترعب فلاحي المنطقة وتخرب مزروعاتهم وتقطع أشجارهم. ضربوه بايديهم وبأرجلهم وبعصي غليظة كانوا يحملونها معهم ثم جروه من رجليه إلى الطريق العام ورموه هناك ورحلوا. ركض بعض المزارعين إليه وحاولوا مساعدته على الوقوف. وقف مترنحا والدماء تسيل من شفتيه وجبينه ومن جروح مختلفة في جسمه. صاح الباشا: " أين عقالي؟ أين عقالي؟ أسقط القوادون عقالي وأخذ الجميع يبحثون عن عقال الباشا حتى وجدوه. وضع الحطة الممزقة على راسه ووضع فوقها العقال ولم يكن مهتما لأي جرح أو ألم في جسده وظل يكرر: " لقد أسقط العرصات عقالي."
بعد أن شربنا الشاي بالنعناع دار الحديث بين الجالسين عن مختلف الأمور والأوضاع في فلسطين والإحتلال وما شابه إلى أن تطرقوا لقصص الباشا مع المستوطنين. قلت للباشا: " أخبرني يا باشا هل ذهبت بعد الحادثة تلك مع المستوطنين إلى البستان؟" قال: طبعا. وأضاف مدير المدرسة قائلا: كل مرة بوكل قتلة وتاني يوم بروح." نظرت إلى الباشا مستفسرا فقال: " بوكل قتلة بس بعد هديك المرة ما بوقعوا عقالي."
علمت منه أنه بعد صدامه الأول مع المستوطنين صار عندما يذهب للبستان يقوم بلف الحطة على رأسه فوق العقال ويربطها بشدة فلا يسقط العقال عن راسه عندما يتعرض له المستوطنون. قلت له ومتى آخر مرة ذهبت إلى هناك. فرد عنه احد الحضور قائلا: مبارح كان هناك وضربوه، مش شايف كيف شلاطيفه ورمانه مثل حبة البندورة البلدية. فقال الباشا: ورمانه معلش، بس مقدروش يوقعوا عقالي.
بعد فترة قام الباشا ليودعنا، سألته إلى أين؟ فقال إلى البستان، قلت له سيضربوك أو يقتلوك فضحك وعلق أحد الحضور قائلا: إتعود وتمسح. لف الباشا حطته فوق راسه وربطها ربطا محكما حول العقال، وضع عصاه تحت إبطه و تركنا وذهب وبقيت أراقبه حتى تحول إلى فراشة صغيرة في فضاء فلسطين.
د. نضال الصالح/ فلسطين











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريم بسيوني: الرواية التاريخية تحررني والصوفية ساهمت بانتشار


.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة




.. سكرين شوت | الـAI في الإنتاج الموسيقي والقانون: تنظيم وتوازن


.. سلمى أبو ضيف قلدت نفسها في التمثيل مع منى الشاذلي .. شوفوا ع




.. سكرين شوت | الترند الذي يسبب انقساماً في مصر: استخدام أصوات