الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أزمة اليسار في بلادنا ..هل توجد أفاق للخروج منها

ابراهيم حجازين

2009 / 10 / 16
التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية


لا يختلف إثنان من المهتمين بالعمل السياسي ومن كافة الاتجاهات سواء في بلادنا العربية أو في بلدان العالم أن أحزاب اليسار تعيش أزمة عميقة . وتجري في هذا الشأن نقاشات حادة في مختلف الأوساط المعنية بالنشاط اليساري، كما وأصدر العديد من الباحثين ثمرة جهدهم في كتب وصل بعضها إلى أيدينا وبعضها لم يصل بعد.وكل هذه النقاشات والمداخلات تكشف وتتكشف عن أبعاد عميقة في هذه الأزمة وتعداعياتها التي لم تنتهي بعد.حتى ان هناك بعض التساؤلات تطرح مسألة إذا كان هناك دواعي لوجود اليسار أصلا .
قد يكون هذا االطرح سليما لو ان الرأسمالية حلت المشكل الإنساني وهيأت الظروف المعيشية والاجتماعية الأفضل لأكثرية البشرية ،وتوقفت عن إستغلالها البشع وحروبها العدوانية التي تدفع ثمنها كافة الشعوب بمافيها شعوب بلدانها .لكن ليس هذا هو الواقع، فالإستغلال الرأسمالي اشتد وأصبح أكثر وحشية مما سبق والحروب العدوانية مستمرة وتراكم الثروات في جيوب المستغلين يتضاعف بالإضافة إلى ان الرأسمالية كفت منذ زمن عن التفاعل مع الإنسان ككائن مدهش فاعل في واقعه وبإختصار لا تستطيع ان تواكب التطور الذي يفرضه التقدم الحالي للعلوم والتكنولوجيا إلا بقدر ما تحققه من أرباح على حساب الحاجة الإنسانية لحياة جديدة روحيا وماديا، سقطت الرأسمالية نهائيا في مسألة الأنسنة، وهذا يكشف عن حاجة موضوعية لمواجهة هذا الفشل بمشروع أخر نقيض للمشروع الرأسمالي، إن الصراع مع الرأسمالية لايزال قائما على جدول أعمال التاريخ، وبالتالي فإن المشروع النقيض لها مبررا تاريخيا.
ليست هذه هي المرة الأولى التي ينكفئ فيها اليسار عالميا وكان ذلك يترافق عادة مع ازدهار وزيادة قوة النظام الرأسمالي وقدرته على جذب الجماهير بسد حاجاتها وإحلال النموذج القادر على التصدي لمشروع الاشتراكية القائم بسلبيياته وعجزة عن طرح نفسه كبديل منتصر،كما كانت الرأسمالية بديل منتصر للنظام الاقطاعي.إلا أن اليسار على المستوى الدولي وخاصة في الدول المتقدمة كان في حينها شعلة من النشاط في مجالات الفكر والفلسفة والنظرية. وبالعكس كان اليسار يحقق انتصارات عندما تعيش الرأسمالية أزماتها المختلفة .لكن في هذه المرحلة حيث تتعمق أزمة الرأسماية ويدب الانسداد في شراينها نجد ان اليسار لا يزال منكفئا لا يسمع له صوت أو مشاركة جادة في دراسة مختلف جوانب هذه الأزمة ليخرج باستنتاجات وحلول نظرية وعملية لأفاق تطورها .فاليسار لا يزال قابعا يناقش أوضاعه الخاصة.
والملاحظة التي قدمها العديد من المهتمين وخاصة في البلدان العربية التي تقول ان النقاش الذي يبحث في أزمة القوى والاتجاهات اليسارية ينصب أساسا على الجوانب السياسية والتنظيمية وقليل منه يمس جوانبها النظرية والفكرية صحيحة. في حقيقة الأمر تعوز اليسار الجرأة لمحاورة الأزمة ،إما بسبب عدم القدرة أو الخوف والهروب من مجابهة سقوط الصنمية التي ترسخت طوال سنوات القرن الماضي.مع ان الماركسية بجوهرها الديالكتيك ترفض السكون فهي عملية نقدية مستمرة لا تستقر وتزداد ابداعا بتعمق روحها النقدية إلا ان اليسار في بلادنا حولها لثمرة عقيمة غير منتجة على شجرة المعرفة. لهذا في وقت ما عالميا وليس دوما على المستوى العربي ارتبط تطور الفلسفة ومدارسها بممارسة ونشاط اليسار ، اما الآن فيصمت هذا اليسار صمت الموتى الأحياء.
هناك تساؤلات مشروعة تطرح في بعض الأوساط اليسارية عن كيفية وصول أوضاع اليسار على المستوى العالمي إلى هذا الحالة ؟ وعن ماهية الأسباب التي أدت بيسار بلادنا إلى هذا التراجع. وفي ظل تراجع تاثير الفعل اليساري وإنفضاض الجماهير من حوله وتراجع عضويته يطرح البعض أسئلة حول مشروعيته التاريخية ؟وهذه التساؤلات إلى جانب الوقائع الدامغة توضح أن قوى اليسار تعاني من أزمة فعلية تستعيد السؤال الهاملتي أن يكون أو لا يكون. وتتمثل بعدم قدرته على تعميق رؤيته لما وصل إليه من أوضاع عداك عن إيجاد الحلول لها. فهو يفتقد لأدوات نظرية ومعرفية تساعده على فهم واقعه أولا وبالتالي صياغة برامج لإمتلاك المبادرة للقيام بدوره التاريخي كمدافع عن مصالح أوسع الجماهير و كحامل تاريخي للفكر التنويري، برامج وممارسة قادرة على اقناع قاعدته الطبيعية من عمال وفلاحين وصغار الكسية ومثقفين بالالتفاف حوله وحمايته.لكن تعمق الازمة بالهروب من بحثها الجدي وفقدانه لكفاحيته وابتعاد الناس من حوله وفقده لعنصر الشباب الذي انفض عنه واتجه متاثرا بكل امراض المجتمع: العنصرية والمذهبية والطائفية والعشائرية والتغريبية فأدى باليسار إلى مزيد من التشظي والانشقاق في صفوفه،والأدهى من كل هذا أن اليسار استمر بتقاليده في التعامل مع من يختلف مع قياداته بنفس تقاليده غير الديمقراطية التي اعتاد على التعامل بها قبل انهيار تجربة الاتحاد السوفياتي وكان شيئا لم يحدث، وكأن الديمقراطية التي يطالب بها في المجتمع لا تخص حياته الداخلية.
في إحدى جوانبها ترتبط أزمة اليسار الاردني بأزمة اليسار العالمي وفي جواب اخرى تظهر خصوصيات المجتمع الأردني بكل ما تعج به من صعوبات وتناقضات باقتصاده وتاريخه السياسي وبنيته السكانية والاجتماعية وموقعه بالمنطقة وارتباطه بالقضية الفلسطينية ومكانته على سلم التطور الحضاري، وهنا لا بد من الإشارة أن هذا الوضع مقعد فعلا، لكنه تحدي في نفس الوقت والعمل على إدراكه ووضع حلول إبداعية له يعد إسهاما حقيقيا في الحقل النظري والفلسفي.
كيف استجاب اليسار في بلادنا لهذه التحديات ؟ على صعيد التاريخ ودراسة تجربة اليسار لا يزال الأمر في بدايته وهو في الأصل نشاط فردي ورغم ذلك يقدم الباحثون اليساريون الأردنيون مساهمات جدية وجديرة بالاهتمام ولا يزال امامهم الكثير ليعملوا في إيطار منهجي منظم ، أما على صعيد بحث الأزمة فلا يزال الأمر متأزم ! فهي تظهر في هذا المجال بشكل واضح، وتنكشف عن ضعف هائل في القدرة والجدية على مناقشتها .
لنغوص أكثر عمقا في مسببات هذا الوضع .أزم الماركسيون الماركسية بإخراجها من إيطارها التاريخي كظاهرة متحركة متغيرة متطورة وحولوها منهجا ونظرية إلى عقيدة جامدة متحجرة ووضعوها في قالب صنمي للعبادة وليس لفهم واقع متغير متحرك يتبعه تغير في الفكر وحركة وتطور في النظرية والمنهج. أزمة الماركسيين في بلادنا تنبع من أن معالجتهم للماركسية تمت بخلفية وعيهم المتأثر ببنية المجتمع البطريركية فظهرت العشيرة الماركسية كما تمركست في بعض الأحيان العشيرة.أزمة الماركسيين تمثلت بانغلاقهم على الأيديولوجية السوفياتية ورفضهم التعرف على ما قدمته المدارس الأخرى .أزمة الماركسيين تمثلت أيضا بعدم إطلاعهم على الفكر الإنساني قبل وبعد ماركس. أزمتهم أيضا سببها ضعف الحصيلة الثقافية -النظرية مما صعب فهم مختلف جوانب العملية التاريخية فأسقطوا وعيهم الغيبي والميتافيزيقي على معالجتهم للنصوص النظرية، ونتج عنه ظهور الأصولية الماركسية كباقي مختلف أنواع الأصولية في مجتمعنا.
عاش اليسار العربي بمختلف فصائله أزمة عميقة كانت تكشف عن المازق التاريخي الذي وصل إليه معرفيا وكفاحيا قبل إنهيار الاتحاد السوفياتي وباقي منظومة المعسكر الشرقي لكن مع الانهيار بدا الامر وكأن عاصفة قد اجتاحته، كانت تلك الاحزاب تبدو وكانها أوراق خريف لا حول لها فيما تجابهه.
وبدلا من طرح الأسئلة الجريئة دخلت في متاهة انقسامات من نوع جديد سببها الرئيسي عدم القدرة أو توهم القدرة أنذاك على التصدي للوضع الجديد، وبدلا من دراسة طبيعة الانهيار ومتطلبات الاوضاع الداخلية والبحث المتسائل عن طرق للخروج من المأزق، غيب القادة الجوهر لصالح التصدي للتساؤلات الجريئة التي بدا اعضاء الاحزاب بطرحها بأساليب أقل ما يقال عنها غير ديمقراطية وغير نزيهة واستعاد البعض لغة التخوين ضد المعارضين .فتشرذم اليسار ولا يزال متشرذما وغير قادر على النهوض حتى الآن.
تمزقت قوى اليسار إلى أحزاب إذا صلح هذا المفهوم لوصفها ومجموعات وتجمعات توحدها سمة واحدة الفشل في استئناف أوبناء مسار يساري جديد قابل للحياة في هذا البلد.وهنا نستطيع ان نصنف هذه القوى بعد تسعة عشر عاما من سقوط التجربة المحققة في الدول الأروربية الشرقية إلى:
1-مجموعات أو أحزاب ترى أو كانها لا ترى انه قد جرى أي تغير في الاوضاع يدعو لبحثه فهي لا تزال تغفو على وسادة الأوهام، وإن أشارت على مضض إلى ذلك فتتم الإشارة له إنشائيا للتعمية فقط دون ان ينعكس على موقفها النظرية او السياسية أو المسلكية،ولعل مرد ذلك الضعف والخوف والمناكفة والاستعلاء.استمرت هذه بنفس الخطاب السابق غير قادرة على الاقتراب من الجماهير مما يعكس استعلاء المثقف على الكادحين. بقي هذا الصنف كما هو وكما كان قبل عاصفة الانهيارات الكبرى في نهاية التسعينات.
2-صنف أخر يشمل مجموعات تحسب شكليا على اليسار وإن جاءت من صفوفه لكنها بذريعة الواقعية ارتمت في حضن النظام العالمي الجديد وأصبحت من ادواته وهي ذات نشاط خطير ورؤيتها اكثر خطورة .فهي تنحى منحى تيئيسي باسم الواقعية في نشاطها الفكري والسياسي وداعية لقبول الواقع الذي لا مفر منه في العلاقة مع ما تفرضه سياسة التفرد الامريكي وبعضهم ساهم في تغلغل نفوذ الاستعمار الحالي في بلدانهم ويرر العدوان على البلدان العربية في العراق ولبنان وفلسطين .الخطير في الامر ان هذه القوى مصرة على الاستمرار بالتستر بعباءة اليسار إمعانا في خداع الجماهير ولكي توسع من نفوذها في الاوساط اليسارية . ولهذه القوى نفوذ في التصنيفات الأخرى لليسار.
3-مجموعات ثالثة تبحث عن ادوات فكرية وسياسية جديدة لكنها لا تزال تفتقد لرؤية واضحة لما يجب عمله، حتى الآن لم تتملك الجديد وتعاني من التخلص من أخطأ الماضي ولم تضع اقدامها في المستقبل بعد.
الاوضاع في الاردن تشير غلى ضرورة ان تحزم اليسار الحية أمرها لكي تخطو خطوة عملية نحو البحث عن أدواتها لمواجهة الاوضاع التي تنبئ بمستقبل غير مشرق للمنطقة وفي عدادها بلدنا الاردن.وعلى سبيل الاستدلال من تجربة الماضي فبلادنا تحتاج لحزب أو تيار قادر على الدفاع وتبني مطالب ومصالح أوسع القطاعات الجماهيرية التي تمثل أكثر من 80 بالمئة من السكان بحاجاتهم وهمومهم المختلفة والمتناقضة وهم الذين ينتسيون لبيئات اجتماعية مختلفة ويتبنون ثقافات مختلفة ويسكنون المدن والقرى والمخيمات والبوادي ومن مختلف الطبقات الكادحة بمعيار المداخيل ومستوى المعيشة فنسبة من بعيش تحت خط الفقر مرعبة وفي حالات غير قليلة يتناوب افراد العائلة الوجبات . فمن سيدافع عن هذه الجماهير أحزب من الطراز القديم أم حزب جديد قادر على تبني مطالبها وقادر على البحث عما يوحد مصالحها الجذرية.إن ضرورة قيام حزب عريض واسع يضم ممثلي كافة الفئات التي تعاني من سياسات الليبرلية الجديدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والوطنية والقومية اصبحت مطروحة على أجندة الواقع بكل قوة.
في ظروف اليوم يكون قد آن الاوان لنظرة نقدية الموقف اليسار من القضية القومية والخلاف الفكري والسياسي المصطنع الذي ساد في الفترات السابقة بين اليسار والقوى القومية والذي خدم العدو كما اصبح مطلوبا التقارب والتوحد على أرضية الاتفاق لمواجهة متطلبات الظروف الحالية والمستقبلية.
الحزب الذي يستجيب لكل هذه المتطلبات يجب ان يكون حزبا ديمقراطيا في حياته التنظيمية ومرنا يتمتع بتجرية وحنكة وآفاق سياسية واسعة، حزب يناضل من اجل الديمقراطية في المجتمع ويكافح من أجل التنوير والحداثة ، حزب للبناء والتقدم الاقتصادي والاجتماعي . حزب كفاحي يدافع عن مصالح اوسع الجماهير الشعبية ،حزب وطني اردني يدافع بشراسة عن الاردن ضد العدو الصهيوني ومخططاته العدوانية،حزب يقف الى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الهمجية الصهيوينة المستمرة ومن اجل استعادة كافة حقوقه الوطنية التي اغتصبها العدوان المستمر، حزب قومي بإنتمائه للأمة العربية وتراثها وتاريخها وفي نفس الوقت يحترم التعددية الثقافية والإثنية والقوميات الأخرى في الوطن العربي، حزب يعزز الوجدان الوطني والقومي والإنساني لجماهيره، حزب المستقبل يتبنى نظام تعليمي ديمقراطيي وحديث وعادل ويعتمد على ارقى ما انتجه الفكر البشري من انجازات علمية والأهم حزب عصري منفتح على ما انتجه الفكر الانساني العالمي يرفض التمييز والانغلاق والتعصب على مختلف أشكاله.
هذا يحتاج لمدخل جديد في النظرة لمكونات الحزب السياسية فمفهوم اليسار بهذا المعنى تغير والفكر المعلن للحزب لم يعد يضفي هوية اليسار على حامله فمفهوم اليسار اليوم اكتسب مضمون جديد يعبر عن مصالح الناس الاجتماعية والاقتصادية وافاق مستقبلهم يقبل التعددية في المجتمع وداخله وقادر على استقطاب افضل ابناء الوطن على أساس برنامجه السياسي برنامج النهوض والتغييرالديمقراطي .
يبقى السؤال الدائم هل اليسار القائم قادر على تخطي الماضي والانفتاح على المستقبل وتبني هذه المواقف ؟ فهل هناك من سيقرع الجرس ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية الفرنسية: اليمين المتطرف يتصدر الاستطلا


.. فرنسا: هل يمنع حزب التجمع الوطني مزدوجي الجنسيات من الولوج إ




.. هل يعتمد ماكرون استراتيجية تشوية اليسار في الدورة الأولة للت


.. مظاهرات بتل أبيب والقيسارية ضد نتنياهو هي الأضخم منذ بدء الح




.. الناصرية 1 حزيران 2024 - مشاركات الحضور - ندوة سياسية لمنظم