الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شرفات بحر الشمال لواسيني الأعرج : اقتراحات الشعرية، وأرشفة الذاكرة

فاطمة الشيدي

2009 / 10 / 16
الادب والفن


أيتها المهبولة ،في كل الوجوه أنتِ،
أغلقي أولا هذا الباب العاري ،سدي النوافذ القلقة،
لقد تعبت ُ….
شكراً لهبلك وغرورك فقد منحاني شهوة لا تعوض للكتابة ووهما ًجميلاً اسمه الحب، مثلك اليوم أشتهي أن أكتب داخل الصمت والعزلة،لأشفى منك بأدنى قدر ممكن للخسارة .
هكذا وبهذه الكلمات الشعرية؛ يفتتح الأديب الجزائري واسيني الأعرج رائعته "شرفات بحر الشمال"؛ هذه الرواية التي تمثل حالة من الكتابة الوعرة، الكتابة الموغلة في اللغة والذات والوطن، ومنذ الصفحة الأولى تستشعر ذاتك تتصاعد في مدارات الكلام، في حنين اللغة التي تقول أكثر مما تحتمل، وأكثر مما يقدمه المعنى الجاهز، واللفظ الخارجي، الحكاية الجديدة، والمكرورة في ذات الآن، الكتابة بالدم وبالوعي والضمير، الكتابة التي تأخذك بعيدا عنك وإليك، وعن الكتاب إلى عالم الحلكة والضيق، إلى عالم تتحسس فيه وعيك وإنسانيتك، وتشعر بالكثير من الكآبة والغضب على أوطان تتحول غابات، وأحلام تضيق بالحالمين.
إنها رواية اللغة التي تنثال بكل جماليات الحكي، وأفق التصوير الفني المبدع، فتتحول حكة في ذاكراتك وضميرك، وفي حساسية الشرف والوعي واللغة، لتقول على لسانك ما تريد أن تقوله أنت، ستدخل من الرواية لتدخل عالما من النحيب والوعي الجارح لتحب "فتنة" المهبولة التي تقدم للناس جماليات الموسيقى، وتعزف ألحانها المجنونة في رثاء أخوها "ميمون" كل ليلة إذا يذهب الناس لمراقدهم، وتشعر بوخز صوت "نرجس" يستلبك منك ويعلمك الحكمة والشعر في منتصف الليل؛ بعد أن عدت طفلا في العاشرة غير قادر على كتابة بضع سطور في حصة الإنشاء، وتسجد للأم العظيمة التي تفقد زوجها وأبنائها في صمت، وتستمر في العمل وفي صناعة الفخار.
تتعشق "زليخة" الأخت الرفيعة التي تترك المدرسة لتساعد أمها، ثم تموت لأن الرجل الذي اختارته؛ ظنا منها أنه يمتلك الكرامة والإنسانية التي يفتقدها الآخرون، ولكنه يخونها في ذاته، يخون الفكرة والحلم الذي كورتهما بروحها كما تصنع مع التماثيل وأدوات الفخار، ويتركها لأول فرصة مواتية للهروب نحو السفر والراحة.
تشعر بأنك توحدت تماما مع الكاتب (الفنان ياسين) التي تسلّح بأناه المثقفة والشاعرة ليضع القارئ في مواجهة حقيقية مع الوطن والذات والحب، في حالة شعرية متصاعدة، الفنان الذي خذله الفرح، والشرف والكرامة، فتصالح مع الحزن والخوف والتماثيل الصامتة.
الرواية التي تمتحن صبرك ووعيك باللغة الشعرية القوية والعميقة والممتدة، والسرد الدقيق والمسهب في الوصف العميق والحميم للشخوص والأمكنة في اتحاد كلي معهم، مع ماضيهم، وحاضرهم. تمثل رواية شعرية بامتياز، ولكنها ليست الشعرية اللفظية المتاحة؛ فليس أسهل من حشد مجموعة من المفردات الجميلة إلى جوار بعضها البعض، لتشكل سمطا من المفردات في سلك لغوي مجتبى ومختار، وبذلك أن تناور قارئك وتتباهى أمامه بخيلاء اللغة، فهذا ليس خيارا شعريا عالي الجودة، ولكن أن تنحو نحوه بشعرية الفكرة (التي ليست بالضرورة أن تكون خيالية أو طوباوية) الفكرة الجارحة والمستمدة طاقاتها من الواقع الغرائبي، أو الكارثي والذي في الغالب يفوق المخيلة في ابتكاراتها البكر، والمحلّقة حتى آخر حدود التهويمات والتشظي. الواقع الذي يستلب ذاتك، ويجبرك على أن تعيش ضمنه إذا رفض أن تعيشه.
"شرفات بحر الشمال" الرواية التي تمثل هزة عنيفة بامتياز لروح القارئ وفكره وشعوره، وحالة مشاركة وجدية ووجدانية ووجودية معه.
القصة:
"أستطيع اليوم أن أقول أنني ضيعت موعدا حاسما مع الحياة، فقد سلكت طريقا غير الذي كان يجب أن أسلكه"
القصة التي تتحدث بضمير السرد (الأنا المباشر) ويسردها (ياسين) بطل الرواية، الفنان النحّات الذي يعيش واقع الجزائر بعد أكذوبة التحرر، مذ سنين طفولته الأولى إذ يفقد والده، وتربيه أمه وأخته العظيمتين، حتى تولعه بصوت "نرجس" في الإذاعة ليتعلم منها الكلام، ويربي اللغة في روحه وذاكرته، حتى دخوله الجامعة فشغفه بـ"فتنة" سيدة الموسيقى والعشق، معايشا على هامش حياته الخاصة أو متنها الفقد المتوالي، والبشاعة الحتمية للإنسان، ولكل المسميات التي تأخذ أشكالا أخرى للمعنى. حتى يفتح له المنفى ذراعيه للهرب من حضن الوطن "لأمستردام" فـ"أمريكا"، هروبا بفنه وببقايا إنسان وبقايا عاطفة، باحثا عن " فتنة" التي سبقته إلى هناك، في صفقة زواج هروبية، لتنجو أو تموت في المنفى، ليجد هناك "نرجس" الحب الذي ظنه سرابا.
ثلاث نساء وذاكرة:
"أنا لا أتذكرها إلا في ارتباكاتها وهشاشتها، لا أعرفها إلا في حالة تعلقها وهبلها...كانت تدرس عند أخيها الذي كان أستاذا بكونسرفتوار بلدية وهران، هو أستاذها الأول الذي علمها العزف وكيف تضع أناملها الرقيقة على ذراع الكمان، كانت مولعة به، وكنت مولعا بصوت نرجس. كلما زارتنا في البيت لتلتقي بأختى زليخة التي تحبها"
الرواية تبدأ من المنتصف تماما، حيث البطل في عمره العشريني، عمر الفورات الشعورية والتكون المفاهيمي سياسيا وثقافيا ومعرفيا، وتتشكل ذاته في العشق من خلال تعلقه المتيم بـ"المهبوله" الهبل، الجنون المرادف لجمالية الإنسان، وانشطاراته، وخروجاته على قيد التعقل الكاذب، والمفتعل، "فتنة" المرأة التي خرجت على قانون السائد في العرف الاجتماعي، وكانت تداوي جراحها بالعزف على آلة الكمان، المرأة التي علمته المعنى الحقيقي للعشق، والذي أصبح في دروبه كلها يسير منها وإليها، المهبولة كما أطلق عليها أهل القرية، لعدم قدرتهم على فك شيفرات عمقها، ووعيها وغربتها.
وتنسل الرواية نحو الماضي بخفة الحكاية، والإيغال في السرد الموجع، والحافر في المخيلة بوعي ووجع، من "فتنة" نحو "نرجس" وهي المرأة التي تفتحت ذاكرته اللغوية على مفاتن صوتها، ولغتها من خلال متابعته لها عبر أثير الإذاعة، وأخته "زليخة" التي علمته النحت وجعلت منه نحاتا، تماما كما علمته معنى الموت من أجل المحبوب وهي التي ماتت بعد ثمانية أيام من فراق عشيقها..
الموت ذاكرة النص:
"كذلك أريد أن أنسى. كلنا على حافة بحر منسي مثل فتنة و كنزة و الأخريات . الفرق الوحيد بيننا هو أنّ بعضنا ماتوا بينما الآخرون ما يزالون في قائمة الانتظار "
"قلوبنا لا تعرف التواطؤ . عندما تتعب تصمت و تنسحب "
الرواية التي تسير في كتابتها بشكل لغوي فاتن ومثير لمحبي اللغة والنقش؛ بشكل نمنمات دقيقة أو فسيفساء لغوية رائقة؛ لتحكي عن وطن يقتل عشاقه وينتصر لقيم أكثر وضاعة. فالموت يتربى بشهية حتى لكأنه الخلاص، فعزيز (الأخ الأصغر) الذي يصدق كذبة التحرير والوطن؛ يذهب مغدورا برصاصة ، والعم غلام الله، الذي فلسف الحياة بعد أن ذهبت ابنته الوحيدة، شنق على يد المشرعين للموت باسم الله، والذين رأوا أن في كلامه كفرا، لأنهم لم يفهموه، والفنان الذي حرق نفسه، وفتنة، وزليخة وغيرهم.
فالموت المعادل للشرف والمروءة كما يقدمه واسيني يأتي في الرواية ليكون نصرا ضد الحياة الفاسدة، وخروجا عليها، وزهوا بالانفلات من براثنها الوحشية، وحالة أكثر عدلا وشرفا وقيمية، لذلك فكل من يذهب، يذهب مخلفا وراءه قصة عظيمة ستحكى، ودرسا مستفادا، وعبرة تجرح الشعور والإنسان، وتنمذج للخلود الحي والحقيقي خارج الحياة الزائلة.
الهجرة أو المنفى الاختياري:
"المنفى هكذا ، يبدأ بمزحة ثم بليلة رومانسية نتذكرها طويلا قبل أن نتهاوى كالورق اليابس في العزلة التامة "
"أبدا.تعرفين أنّنا عندما نرحل لا نأخذ معنا إلا قصصا اليتيمة التي نصارع بها الأقدار الصعبة"
وتنفرج الأحداث حين يقرر النحات الذي يخشى على أعماله أكثر من حياته الخروج من الوطن للمنفى، من الضيق للسعة، ومن الموت للحياة، إذ يتلقى دعوة للسفر لحضور معرض في أمستردام، وبعدها يهاجر (بدعوة أخرى) لأمريكا ليترك الوطن للأبد.
يقرر أن يذهب ولا يلتفت إلى الوطن والحب، ولكنه يحمل كل شيء معه، ويعيش ما تبقى من عمره في مواجهة حقيقية مع ذاكرته وكائناتها الجميلة، مع ذلك الماضي وعذاباته المورقة في الروح والجسد، يعيش فيه وضمنه، ويحمله معه إلى كل بقاع الدنيا، يحمل رسائله وأفكاره وصدى العابرين في مقلته الزائغة بالعشق والولع، والوعي الإنساني العظيم، ويبدأ ذلك الماضي في التجلي والحضور في الأمكنة الجديدة؛ منذ أن بدأ بحثه عن حبيبته "فتنة" التي سبقته من عشرين عاما لأمستردام، ولكنه وهناك تحديدا يجد ذاته في مواجهة أخرى أكثر دهشة وغرابة؛ إذ يتعثر بـ"نرجس" الصوت الذي عشقه طفلا، وعلمه كيف يكتب، وكيف تصير اللغة وطنا وعشقا، يجدها بعد أكثر من ثلاثين عاما.
وفي ختام الرواية؛ وبعد حوارات كثيرة داخلية وخارجية، بعد النحت في ممرات اللغة، وأغشيتها وأدمعها وضحكاتها، وتقليبها في مداراتها الكثيرة يمنة ويسرة وذات الحياة، وذات الموت، يترك لنا واسيني نهاية معلقة على أطر الحياة، وليس على أطر الحكاية فقط، يترك القارئ بعد هذه المعاناة (الرواية) الجارحة والموغلة بأشد المعاني جمالا وروعة، ليتدبر فكرة الخلاص من براثنها العظيمة والجميلة، كما يتدبر فكرة محاولة تملصه من ماضيه الخاص بأقل الحالات فداحة، ونبلا.
"أحياناً أشعر أنه من فرط حبنا للحياة نتركها تنسحب من أيدينا كحبات الرمل. متشعنقين بشغف بين لحظتين محكوم عليهما قسراً بالموت الأكيد. اللحظة الأولى عندما نلتقي ويكون للحب سحر الاكتشاف والإحساس بالديمومة، فيأتي العشق حاراً، واللحظة الثانية عندما نهم بالافتراق والإحساس بالخسران. لليلة الأخيرة دائماً مذاق الفقدان، مثل الأولى تماماً. الهوة التي تعقب ذلك، كثيراً ما يصعب ترميمها. نلتصق بكل التفاصيل الصغيرة لحفظها وفي الصباح عندما نستيقظ، وقبل أن نتحسس سعادتنا الطارئة، تكون مدارج المطارات قد سحبتنا نحوها ومكبّرات الصوت في المطارات تختصر علينا همّ التفكير. يبدو أننا نمضي العمر بين لحظتين تتكرران باستمرار، صرخة الولادة وشهقة الموت وعيوننا ما تزال مفتوحة على الدهشة. لماذا يحدث هذا لنا نحن فقط؟‍‍!!""








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رحيل الممثل البريطاني برنارد هيل عن عمر 79 عاماً


.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع




.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو


.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05




.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر