الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
البحر وراء الظهر
بدر الدين شنن
2009 / 10 / 16مواضيع وابحاث سياسية
لاأدري لماذا شدتني الرغبة في هذه الأيام إلى الكتابة عن المنفى ، ولاأدري لماذا يظهر التشابه بينها وبين الرغبة التي شدتني ذات يوم للكتابة عن السجن ..
قد يكون وراء هذه الرغبة ووراء هذا التشابه ، هو التخلص في الحالتين ، من الفضاء المشحون حولي .. بالغامض .. والمجهول .. والمخيف .. الذي يوحي بقرب النهاية .. وملاقات قابض النهايات وجهاً لوجه .
ربما تكون هذه هي الحقيقة . لكنها لاتنفي أن هناك محفزات أخرى ، تأتي قبل كل شيء في التشابه بين مؤثرات الظلم خلف القضبان في السجن وبين مؤثرات الظلم خلف قضبان المنفى . أو أن هناك حركة قطع الحال البائسة القائمة لفتح بؤرة ضوء في النفق المظلم . أو أن الإنسان المنفي صار يدق على أبواب منفاه فاتحاً ملف المنفى .. وغربة المنفى .. واختناق الروح في المنفى ..
إذ أنه في اللحظات التي تتحرك فيها الرغبة .. وتتشكل .. وتتقدم بذاتها .. تتكسر قيود الزمان والمكان .. وتتحرك المشاعر وتنطلق .. وتغدو قادرة .. محرضة على تشكيل الأفكار والرؤى الجديدة .
فحين جلست لأملأ " أوراق زمن السجن " كنت بحالة نفسية شديدة الانفعال ، وبحالة صحية شبيهة بالاحتضار . لاأعرف عند آخر أية جملة سينضب مداد العمر . كنت أتمزق ألماً على مصائر ، ومكابدة ، شباب بعمر الورد ، ورجال تركوا وراءهم زوجات وأطفال . كانت الدموع أحياناً أكثر من أحرف الكلمات . وكان شلل القدرة على متابعة الكتابة بين وقت وآخر يفرض نفسه ، بيد أن التحدي أن أفعل شيئاً من أجل حرية أحبتي في السجن .. وفي الوطن .. يعيدني إلى الورق والقلم .. ينقلني .. يحلق بي فوق السجون والمعتقلات ، وفوق أحياء الفقراء الكئيبة الحزينة . وأجدني أتجدد عزماً وإرادة .. لتغدو الكلمات فوق الورق أ سطراً وخطوطاً ترسم تشكيلاً من الكبرياء والكرامة والتوق للانعتاق .. يستعصي على الشرح والتفصيل ..
وأجدني مصمماً واعداً .. أن يكون ما أ ستطيع القيام به ، فيما تبقى من العمر .. أن يكون نسمة حرية لمن هم خلف القضبان .. وأجدني واثقاً .. أن الناس الشرفاء هم أعلى قامة من أ سوار السجون .. وأن إرادة المناضلين أقوى من الاستبداد والقهر ..
أما حين أجلس الآن لأملأ أوراق المنفى ، فإن إحساساً بالفقد يداهمني ، الفقد لأولئك الذين تقاسمت معهم آلام الجلد ، وقت التعذيب .. ووقت العقوبات التعسفية ، وتقاسمت معهم الخبز اليابس ، ومشاعر انقطاع زيارة الأهل ، وقسوة العيش والظلم خلف القضبان سنوات عديدة . وتحاصرني أمراض الموت في كل أعضاء الجسم النبيلة .. وترتسم في مخيلتي أ شكال النهاية ، وأحسب المسافة المتبقية لبلوغ المحطة الأخيرة . وأطرافي وأصابع يدي تتشنج مرات عدة في اليوم تنذرني بالتوقف عن المعتاد في الحركة اليومية ، وتضعف في ّ القدرة على تشكيل الكلمات والأسطر ، ويحفر في قلبي إزميل متغيرات جرت معاكسة لمسارات الحلم الذي وهيته عمري .. حيث أرى ..بأم العين .. البعض يغادرون المسار .. تعبوا .. شاخوا .. أو رحلوا . ومن تقدم ذات يوم بديلاً رائداً .. تخلى عن الراية ونزل عن الزبى . وهناك من أدار الظهر وعقد مع أعداء الحرية والإنسان صفقة غير نزيهة وانتهى .. وغدا من كان مثلي يقاتل .. والبحر وراء الظهر .
هنا يختل التشابه إلى حد ما في محفزات ومضامين الرغبة ، ويقتصر الحال على تداعياتها في السياق ، حيث تتوالد الأفكار والرؤى الجديدة ، والتي قد تعجز عفوية السياق عن مجاراتها ، حيث يحدث عدم التطابق بين ما يستدعيه النص في الكتابة عن السجن ، وبين ما يستدعيه عند الكتابة عن المنفى . لكنه رغم اختلاف المشهد المكاني ، يبقى القيد قيداً .. والقهر قهراً .. والسجان سجاناً . وتبقى القضبان الحديدية وسطوة الجلاد تحدان من حرية السجين . وتبقى أ سوار الحدود والأجهزة الأمنية تحدان من حرية المنفي .
وعندما كتبت عن زمن السجن .. عن الحياة خلف قضبان الحديد .. عن الانفعالات النبيلة نتيجة الكبت ، وعن ردود الفعل الجريئة إزاء الظلم ، وعن المحاولات لكسر القهر والخوف ، وتحدي الزمان والمكان ، وخلق حياة خاصة بالسجين ، تحتوي على الكثير من الكبرياء ، والكثير من الأمل .. والكثير من السراب ، كانت الكتابة فصلاً من فصول الصراع مع الاستبداد والقهر .. كانت حركة لرد الاعتبار للذات الإنسانية ، التي تعرضت لكثير من الآلام الموجعة جسداً وروحاً ، ورد الاعتبار كذلك للقضية ، التي حملتها منذ أن بدأت أتلمس الوعي ، مثلما تحمل الجواهر والألماس والكتب المقدسة ، بعدما فهمتها بسيطة ، بساطة تقارب معادلة النحل والعسل ، فهمتها ، أن العالم الذي نعيشه ، هو عالم ظالم ، ينبغي أن يستبدل بعالم آخر .. عالم صوّره وعي اليافع ، بما يشبه الأعياد والأعراس والموالد ، حيث يتمتع الجميع بجمالية المكان .. ونشوة اللحظة وهالة الحضور المباركة .. ويتشارك الجميع باللقمة والحلم والفرح .
كنت أريد التعبير عن أن التحدي الذي يريد أن يثبته السجين أمام السجان .. هو .. أنه رغم ما تشي به الدوائر السوداء المتموضعة حول العينين انعكاساً لعذاب داخلي متمكن .. ورغم الشحوب اللافت ، الذي يكسي الوجه كله حزناً على حرية اغتصبت بالاعتقال وأ سى على كرامة ديست بالأقدام تحت التعذيب . ورغم مؤثرات الجوع والأمراض والتوتر النفسي الدائم .. أنه باق على قناعاته .. أنه صامد .. مهما كابد من العسف والظلم ..
كنت أريد التأكيد على أن الإرادة ، والقلوب ، والعيون خلف القضبان تستعصي على سطوة السجان ، وتتواصل عبر أثير خاص مع قلوب وعيون الأحبة خارج عالم القضبان . لقد سما أحد السجناء هذا الأثير التخاطري بالحلم ، دون أن يدري أنه قد أضاف بعداً نبيلاً لتخاطر المقهورين ، فالتخاطر عندما يتجسد بالحلم يصبح تعبيراً من تعابير الإرادة .. يصبح قوس ألوان بهية ، أجمل من قوس قزح يأتي بعد زخات مناخية ، ينقل فوق خطوط ألوانه الممتدة من الأفق إلى الأفق .. ينقل رموزاً لايفهمها إلاّ المحرومون والعاشقون والمقهورون .
فهل يختلف ما ينبغي كتابته عن المنفى عما كتب أو يكتب عن السجن ؟ قد يكون الاختلاف ، أن مظالم وحقوق المنفي مضاعفة .. هي .. حق العودة الآمنة الكريمة وا ستعادة حق المواطنة وحق التغيير .
وعلى أجنحة التخاطر والحلم أيضاً ، كتب أوما سيكتب عن المنفى ، طالم أسوار المنفى قائمة ، ذلك أن الكتابة عن المنفى محكومة بخلفيات وآليات الظلم الذي فتح دروب المنفى . فلا أحد يستطيع في الخارج أن يتحدث عن أي شيء في الداخل مما قد يفيد الأمن ويلحق الأذى بالآخرين في الداخل , ولايستطيع أحد أن يجتاز الحدود إذا كان مطلوباً للتحقيق والاعتقال ، ولا أحد من الداخل يجرؤ أن يفتح علاقة مكشوفة مع من يعارض النظام في الخارج . الأمر الذي يشكل سجناً للإنسان المحكوم بالنفي . إذ أن الحدود والمسافات البعيدة تمحى أمام امتدادت القهر الاستبدادي وتتضاعف الأسلاك الشائكة والأسوار بوجه المنفي .
والسؤال الحارق حرقة دمعة شوق للوطن ، ما الفرق بين أن يحرم السجين من الحرية والعودة إلى بيته وحياته الطبيعية ، وبين أن يحرم المنفي من حياة الحرية في بلده ومن حق العودة إلى وطنه وأهله ؟ .
ويجسد هذا السؤال المركب كل مآسي ومعاناة وكبرياء الإنسان المنفي . ويكتمل هذا السؤال بسؤال أساسي وجوهري ، من المسؤول عن كل ذلك .. عن عالم الظلم الممتد من الداخل إلى الخارج ؟ .
لنتابع معاً في مقالات أخرى البحث عن الجواب .. أو الأجوبة .. على السؤال السوري .. المرهق .. المزمن ..
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. الانتخابات الرئاسية الأمريكية: نهاية سباق ضيق
.. احتجاجًا على -التطبيق التعسفي لقواعد اللباس-.. طالبة تتجرد م
.. هذا ما ستفعله إيران قبل تنصيب الرئيس الأميركي القادم | #التا
.. متظاهرون بباريس يحتجون على الحرب الإسرائيلية في غزة ولبنان
.. أبرز ما جاء في الصحف الدولية بشأن التصعيد الإسرائيلي في الشر