الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل 23 (رواية أسوار مملكة السر)

سعد الغالبي

2009 / 10 / 17
الادب والفن


منذ’ ان خرج شلال من دياره , والسماء ترسل ـ بكل ما لديها من قساوة ـ برد الشتاء , ولكنهم وبعد ثلاثة أيام , يكاد الركب أن يصل بعد أن بانت آثار الديار الجديدة, وتكاد تتكشف شيئا فشيئا , وكأنها ترتفع عن الأرض ... صاح أحد الفرسان : انها الديار , ديار سعد آل منصور .
وجوه أتعبها طول الطريق , تكاد تصل الى الديار , فهل لها أن تستريح؟
اقتربت تلك المرأة الطاعنة في السن من أولئك القادمين , انها (أم سعد) ... الى أين تتجه ؟!
نحو (سليمه) زوجة شلال , رق قلب المرأة العجوز, حين شاهدت بطنها المرتفعةـ تكاد تصل الى صدرها ـ قالت لها :
ـ أظن , لم يبقى لك الكثير من الوقت !.
تحسست بطنها براحة يدها ,ثم قالت برقة : كان الله في عونك .
تقدمت المرأة الطاعنة في السن خطوتين ,ثم توقفت أمام (جميله) , شاعت على وجهها نظرة انبهار , وهي تشاهد جمال ذلك الوجه .
قالت أم سعد :ما أسمك يابنيتي ؟
قالت :أنني جميله .
قالت : وأنت كذلك , وقد صدق من دعاك بهذا الأسم .
قال شلال , والذي يقف قريبا : انها أختي .... قالت : وستكون ابنتي , وبيتي سيكون بيتكم , وهذه الديار سيكون دياركم .
قال شلال : ليس غريب على أخي سعد أن يحمل تلك الأخلاق , انني أعرف الآن أن الأخلاق تنبت كما الأشجار الكبيرة .

أيام تتلوها الأيام الأخرى , بعضها يتشابه , وربما يحدث بينها اختلاف ...والوقت يمضي وعائلة شلال تسكن الديار الجديدة.
فهد وسعد والبقية الباقية من الرجال ,في شد وتراخي عندما يقيّمون ما يدور في الجوار ,فأحاديث الليل تأتي طويلة , وهي تنتقل من هنا وهناك , تتناقلها ألسن العائدين من تلك الأرجاء .
عاد فاضل من ديار أبيه , بعد زيارة قام بها ـ بتكليف من عمه فهد ـ وهو يحمل أخبار القرى ومدن الطريق ... سأله عمه .
فقال : شيوخ العشائر تتبارى , أيهم يحظى بأستضافة( ملك العراق) القادم من ولاية بغداد... وإن كانت وليمة العشاء عند أحدهم , فالغداء كان لزاما أن يقبل به الملك عند الآخر , حتى وان لزم الأمر على قطع الطريق أمام الملك .
قال سعد ( وهو يجلس في ذلك المجلس , ببيت مصنوع من وبر الأبل , منصوب في العراء ) وقد بدى في حيرة من أمره :
ـ عجبت’ لأمرين , أولهما , كيف يكون لملك لا يعرف شيئاًً عما يدور في مملكته , ويقول أنا ملك البلاد , وثانيهما , هولاء الشيوخ , يظن أحدهم بأن وجوده على غير مايكون لباقي البشر , فأضحى بعضهم يمارس دور الخصم والحكم ... فأنظروا كيف جلب البعض منهم مآساة لبسطاء الناس , حين ساندوا أولئك الشيوخ , تجار الحبوب

كي يشتروا ما استطاعوا وتركوا الأفواه جائعة , وأدخلوا العامة في زمن القحط .... انها والله مأساة تتلوها أخرى , وضياع ما بعده ضياع .
قال فهد : أجل ياسعد , انه الضياع , ولكن لهذا الضياع سر .
قال سعد :الأسرار كثيرة في هذه الأرجاء.... يرى متى يحين الوقت حتى نتعرف على هذه الأسرار, لا أدري ! ربما لن نتمكن فيأتي الآخرين, وقد يعانوا ما نعانيه اليوم.
عاد سعد الى بيته متعبا , وقد التقته أمه في غفلة من المحيطين به ... قالت : أراك متعبا , وقد أخذت منك الهموم مأخذاً... ماذا ياولدي ؟
قال : انها الدنيا وهمها !
قالت :بعض همومها يزول بوجود المرأة , ولاسيما الصالحة منهن ....أما آن الأوان لتتزوج ؟ أظن اني وجدت لك ما أحب , وإني لأرجو أن تكون من نصيبك .
ضحك سعد وقال :وجدت لي ! من تكون تعيسة الحظ تلك ؟!
قالت : بل قل السعيدة .... إنها إسم على مسمى , إنها جميله أخت شلال .
صمت سعد, وكأن والدته قد أيقظت أمرا كان غافلا عنه ..... قالت الأم : ها... إنها فرس’ أصيل .
قال :نعم , انها كذلك , ولكن خيّالها لست أنا ..... بل ابن عمها فهد , وتلك هي رغبتي ياأماه .

أصيب فهد بالذهول , عندما أعلمه ذلك الصديق سعد برغبته تلك ....قال فهد في تلعثم , وكأنه يخشى النساء :
ـ أنا أتزوج , أنا وكما تعرفني بلا عنوان يهتدون بيه الي .
قال :أراك تخشى النساء, عندما تتكلم هكذا , هل تخشاهن حقا , أم انك بت بلا احساس اتجاههن؟!
قال : أظن اني فقدت هذا النوع من الأحساس بدون نية مسبقة , ربما لأن همي كان كبير , أو مسالك الدروب التي سلكتها كانت متشعبة .
تكاد الشمس تنحدر نحوالغروب ,عندما أعلن فهد موافقته بالزواج أمام سعد.... كان فرحه لايوصف , ذلك الصديق سعد حين أخبره شلال أيضا برغبته في هذا الأقتران لو تم بين أخته وابن عمه فهد.
الأيام تمر بسرعة , وموعد الزواج قد اقترب , وثمة أعمال قد جرى تنفيذها .... حيث أوفد فهد ابن أخيه فاضل , يرفقه راضي الى ديارهم لكي يدعوا الرجل الضرير لحضور مراسيم الزواج .
كان سعد منشغلا ,بتجهيز مايلزم لأقامة وليمة , أرادها أن تكون كبيرة, تليق بهذا الصديق , وتلك الأرادة السخية كانت محل اعتراض من قبل فهد , معللا ذلك , انه بذخ كثير, ولكن سعد اعترضه قائلا :
ـ بودي القول , كما قال سيد البلغاء إمامنا علي ابن أبي طالب(عليه السلام) , ولكن بطريقتي .... أقول ان إقبلت , فكثرة العطايا لا تنقصها , وان أدبرت , فالبخل لابيقيها ...... اذن ياصديقي , هكذا هو حال الدنيا , بين إقبال وإدبار , ثم إن الأمر عائد لي وأنا أريد أن أبرهن على علو شأنك عندي , وأفاخر بيه أمام أهل الديار... فلا تعترضني .


اليوم موعد العرس .... وعلامات الفرح بدت واضحة في كل أرجاء ديارسعد آل منصور , لأن فهد يعني لهم الكثير , فهو مالك للشجاعة إن تطلب الأمر , وقد إختبروه فوجدوه كما ظنوا , ولم يكن فهد مجرد الضيف الصديق على كبيرهم (سعد) ... أجل إنه’ كبير القوم , رغم وجود منهم أكبرمنه سنا, وكانوا كثر .... إلاّ إنه ابن كبيرهم (منصور) الذي كان ـ في زمانه ـ راعيا لكل من سكن وتوطن في تلك الديار .
حين بدأت الشمس تقترب من الزوال , نظر فهد الى السماء , فأرجع بصره وفي عينيه قلق....إنَ أخي قد تأخر وصوله !
هكذا أخبر سعد وشلال , حين كانوا بقربه.
قال شلال وهو ينظر بأتجاه الدرب القادم الى الديار : لازال هنالك متسع من الوقت , فالعصر لم يحن بعد .
وجاء العصر ..... حينها امتلأ الفضاء الواسع والذي يقع أمام البيوت الطينية بالوافدين , وبين هذا الجمع , وقف فهد وقد ارتدى أجمل حلة, لم يرتديها منذ زمن بعيد .... عيناه تترصدالدرب وهو يبحث عن ضالته التي لم تزل مفقودة .
حين نظر سعد,فجأة ,بوجه فهد فرآه وقد توهج فرحا , فأدرك أن ثمة أمر قد طرأ, فنظر كما ينظر فهد , فعلم أن أبا فاضل قد وصل , برفقته ابنه فاضل وثالث معهم , انه راضي .
اخترقت الخيول الثلاث ساحة الأحتفال وركابها, حينها تقدم فهد مسرعا نحو القادمين , وخلفه سعد يحث الخطى .
عناق حار يتبعه تبادل التهاني بعد الترجل عن الخيول , وفي ركن قد هييء ,أجلس فهد أخاه ليسمع ويستمتع .
مراسيم العرس قد ابتدأت ,قبل غروب الشمس بقليل , نظام دقيق قد وضع في حيز التنفيذ , يشرف عليه رجال أكفاء ,فوليمة العشاء جاءت بوقتها ,لتوضع أمام المدعوين, وبطريقة خاصة .
الليل بدأ يخيم على المكان .... أذن لابد من الضياء أن يحل مكان الظلام ... جاء الضياء ساطعا , عندما بدأ عدد من الشباب برفع المشاعل بأدوات صيد الأسماك , تلك التي يسمونها (الفاله) .
ساعات الليل تتقدم , وموعد الزفاف قد اقترب , أصوات زغاريد النسوة تعلو في المكان الذي تجلس فيه جميله , وتكاد تلك الأصوات تتقدم زاحفة في الهواء لتصل الى مسامع أبي فاضل , فتزيده فرحا .... نسوة وقفن بصفين .
أحد الصفوف ينشد قائلا :(جبنه عروسك يسباح القلب )...فيأتي الرد من الفريق الآخر (صفكه وهلاهل على طول الدرب) .
لم يتمكن الرجل الضرير (أبا فاضل )من كبح جماح ذلك الحب الذي يكنه لأخيه الأصغر ،في تلك اللحظة , حين أرغمه هذا الحب ليبرهن ... نهض أبو فاضل من مجلسه , وسار بمفرده عدة خطوات وهو ممسك بعصاه التي يتحسس بها طريقه.
وحتى أصبح في منتصف المكان ,وقف هناك والجميع يراقب ماذا سوف يصنع ! .
أطبق الصمت على المكان , والرجل الضرير في مكانه , وكأنه ينتظر شيء ما سوف يأتيه ليعلمه ما سيقول .
وفجأة ر فع عصاه, وهو ممسك بها من الوسط , فوق رأسه.... هزج بأصرار عنيد ثلاثا :(عريس أو ربعه ايزفونه..... عريس أو ربعه ايزفونه ..... ) .

صمت بالثالثة قليلا ... نهض سعد من مكانه مسرعا , ووقف خلف الرجل الضرير, وبعد أن أحس بوجوده , أطلق الثالثة , وهو يضرب بر جله اليمنى الأرض قائلا : ( عريس أو ربعه ايزفونه ) , وسعد يدور حوله ويردد كما هو يقول .
ألتحق فاضل ,ثم راضي , وتبعهم جمع كثير ليكونوا حلقة كبيرة حول الرجل الضرير , يدورون كما الرحى حول قطبها .

فهد بالقرب من زوجته (جميله), لوحدهما لأول مرة .... انقطعت زغاريد النسوة , وهدأت أهازيج الرجال , وبدأ كلام آخر , قال فهد وهو يتقدم نحوها : كم أنت جميله , وأشهد أني لم أرى , وما رأت عيني مثل هذا الجمال .
بدأ فهد يحدق بوجه(جميله ) ويتفحص معالمه, يخالجه شعور فرح قد امتزج بالرهبة من شيء ما يكاد هو لايميزه بدقة
في تلك اللحظات .... عاد ثانية الى الكلام , بعد أن جلسا باقتراب , قال : أنا لست شاعرا , لكني أستطيع القول ....... نور وجهك يكاد يضيء المكان , واني لا أرى نورا غير هذا النور الذي يشع أمامي ... حين امتزج هذا الجمال بصفة أخرى تملكيها , الا وهي الشجاعة والتي عرفتها منك عن كثب , يكون الأمر خيال... وهذا ما لا أستطيع أن أصفه .
جميله كانت تصغي , ولكنها لم تكن لتتحرر من خجلها ... تارة ترفع رأسها , وتنظر بوجه فهد , وأخرى تخفي وجهها, الا انها أصرت لتقول: عندما أريد أن أقول شيئا سأقول ..... انك تملك قلبا كبيرا , الى حد يمكنه أن يستوعب كل عذابات الآخرين اللذين لا يستطيعون البوح بتلك العذابات ... وذلك القلب يستطيع أن يحمل الأحلام...... أنني أمتلك براعم لم تورق بعد , احاول أن أجعل الأوراق تنمو على تلك البراعم حين تكون بقربي .
مضى فهد تلك الليلة وقد انقضى ثلثها , وهو يتحدث الى تلك القادمه الجميلةالى حياته .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. منزل فيلم home alone الشهير معروض للبيع بـ 5.25 مليون دولار


.. إقبال كبير على تعلم اللغة العربية في الجامعات الصينية | #مرا




.. كل الزوايا - وزارة الثقافة تعلن أسماء الفائزين بجوائز الدولة


.. كل الزوايا- المخرج محمد فاضل: في اهتمام كبير من الدولة بالف




.. كل الزوايا - أ.د محمد صابر عرب وزير الثقافة الأسبق: الثقافة