الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تعارض ماركس مع المادية الدِّياليكتيكية - 1

أنور نجم الدين

2009 / 10 / 17
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


تمهيد

خلال القرن المنصرم، انتشرت في العالم فلسفة باسم كارل ماركس، لم يسمع أحدٌ شيئاً عنها في زمن ماركس نفسه، وهي فلسفة المادية الدِّياليكتيكية، الفلسفة التي نشأت في أحشاء الفلسفة الألمانية بالذَّات، مادية فيورباخ، ودياليكتيك هيغل.

إنَّ المسألة الأساسية لهذه الفلسفة، هي مسألة علاقة الوعي بالمادة، وسنحاول هنا، تحديد التَّناقض الأساسي بين مادية ماركس التاريخية، وفلسفة المادية الدِّياليكتيكية، فعرضنا هذا محاولة لتحديد المفترق الذي يفصل بين هاتين النَّظرتين للعالم المادي، فإذا كانت المادة ميدان أبحاث المادية الدِّياليكتيكية، وطريقة بحث هذه المادة، هي الأدوات العقلية كالمنطق الصُّوري، ونظرية المعرفة الهيغلية (الدِّياليكتيك)، ومنتجات العلوم الطبيعية، فإنَّ التَّاريخ المادي للبشر وعلاقة الوعي به، هو ميدان أبحاث مادية ماركس التَّاريخية، أمَّا الوسائط العملية للمادية التَّاريخية، المستخدمة للتَّحقق من موضوعها، فهي العمل التجريبي، وليس المنطق أو الدِّياليكتيك.

ليست المادة إطلاقاً اللب الفعلي لنظرة الماديين للعالم، كما يتصورها الماديين الدِّياليكتيكيين، ويعبر ماركس عن رأيه في الموضوع على الشَّكل الآتي:

"إنَّ القديس برونو يأخذ بصورة خاطئة، الصِّيغ الفلسفية للماديين بشأن المادة، على أنَّها اللب والمضمون الفعليان لنظرتهم عن العالم – كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية".

موضوع المادية الدِّياليكتيكية:

إنَّ اختلاف المادية التَّاريخية مع الفلسفة على العموم، والفلسفة الألمانية في أشخاص ممثليها هيغل وفيورباخ على الأخص، ثم تعارضها مع المادية الدِّياليكتيكية التي تشتق أهم عناصرها من الألمان، يتلخص في التَّعارض مع المسائل الأساسية التي تطرحها هذه الفلسفة، وهي أولوية المادة أو الوعي من جهة، والقوانين الخاصة بالمعرفة (الدياليكتيك)، من جهة أخرى، فبدل التَّاريخ، تتحقق الفلسفة من الأفكار، من خلال المنطق الصُّوري، والدِّياليكتيك الهيغلي بالذَّات، فهي لا تولى الاهتمام بالتَّاريخ وما يجري فيه، وكأنَّ الفكر ليس له أساس أرضي، وفي نقده للفلسفة الألمانية، ومنهج فلسفة هيغل بالذَّات، يقول كارل ماركس:

"بينما يتشبث الفرنسيون والإنجليز بالوهم السِّياسي على الأقل، الذي هو أقرب إلى الواقع، فإنَّ الألمان يتحركون في ميدان (الفكر الخالص). إنَّ فلسفة التَّاريخ عند هيغل، هي النَّتيجة الحاسمة الأخيرة، المختزلة في (تعبيرها الأصفى) لمجمل هذه الطَّريقة التي يتبعها الألمان في كتابة التَّاريخ – كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية".

منهج هيغل:

موضوع البحث: أنَّ الأفكار سادت التَّاريخ .. أنَّ العقل يهيمن على العالم.
طريقة البحث: الفلسفية.
أداة البحث: العقل والأفكار المحضة، أو المنطق والدِّياليكتيك.

أمَّا أشكال الوجود لدى هيغل، فترجع إلى ثلاث علاقات أساسية، وحسب ماركس، فتتلخص في:

"1- علاقة الوعي بالموضوع من حيث هو حقيقة، أو بالحقيقة من حيث هي مجرد موضوع (مثال ذلك الوعي الحسي، والدِّين الطَّبيعي، والفلسفة الأيونية، والكاثوليكية، والدُّولة المتسلطة، إلخ)؛ 2- علاقة الوعي، من حيث هو الحقيقي، بالموضوع (العقل،, الدِّين الرُّوحي، سقراط، البروتستانتية، الثورة الفرنسية)؛ 3- العلاقة الحقيقية للوعي، بالحقيقة من حيث هي موضوع، أو بالموضوع من حيث هو حقيقة (الفكر المنطقي، الفلسفة التَّأملية، الرُّوح لذاته). وبهذه الطَّريقة يتصور هيغل العلاقة الأولى على أنَّها الله الأب، والعلاقة الثانية على أنَّها المسيح، والعلاقة الثَّالثة على أنَّها الرُّوح المقدس – كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية".

منهج فيورباخ:

موضوع البحث: المادة.
طريقة البحث: الفلسفية.
أداة البحث: العقل، العاطفة المجردة، الإرادة.

إن التَّاريخ والمادية منفصلان كلياً عند فيورباخ، فالمادة هي موضوع فلسفته، والإنسان، والماهية الإنسانية، والعاطفة المجردة، هي الكلمة الأخيرة لفلسفة فيورباخ.

منهج ماركس:

موضوع البحث: علاقة البشر ووعيه بالتَّاريخ العالمي.
طريقة البحث: الواقعية، المادية.
أداة البحث: التحقق من المواد الاقتصادية والتاريخية، بصورة تجريبية.

فلدى ماركس، یجب أنْ یدرس ویعالج تاریخ البشریة دوماً بصورة تجريبية، أي في علاقته بتاریخ الصِّناعة والمبادلة، ولیس للتَّجريدات الفكرية أدنى قیمة إذا ما أخذت بحد ذاتها، منفصلة عن تاريخ تطور الصناعة والمبادلة.

الخلاصة:

إن الأرض المشتركة للفلاسفة، هي الأفكار المحضة والأفكار فقط، هذا ورغم كل الاختلاف في تصورات الفلاسفة عن العالم، أو رغم أنَّ هيغل مثلاً يأخذ في يديه الدِّياليكتيك، ويأخذ فيورباخ في يديه المادة لإثبات المواضيع المختلفة لفلسفتهم، ولكنهم لا يختلفون في الجوهر إطلاقاً، فهم ينطلقون من تفسير العالم، وعلاقة البشر بالطبيعة، عبر رؤوس أيديولوجية فلسفية، لا عبر الواقع، لا عبر التاريخ.

وهكذا، يجب القول أولاً، إنّ المسألة مسألة منهج ليس إلاَّ، فلا يمكننا فهم التَّصور المادي أو المثالي للتَّاريخ، من خلال الكلمات أو المصطلحات المجردة من ماركس أو هيغل مثلاً، بل من خلال فهم منهجي المادية والفلسفة، في تفسير التاريخ.

المنهج التَّجريبي والمنهج الفلسفي:

إنَ توفر المواد اللازمة للبحث عن العالم، وسبل فهم علاقات البشر بالطَّبيعة بالذَّات، يرجع إلى التَّطور الصِّناعي الذي يزودنا على الدَّوام، بوسائط التِّقنية الضَّرورية التي تحل محل الوسائط الفلسفية، أي محل المنطق الصُّوري، ونظرية المعرفة الهيغلية (الدِّياليكتيك)، ومن خلال هذه الوسائط، اكتسبنا معارف واقعية عن العالم، حيث إنَّ هذه الوسائط، تعطينا فرصة العمل التَّجريبي في المواد التي نريد إجراء التَّجارب عليها، وكلُّ هذا التَّطور، طرح على بساط البحث مسألة جديدة في التَّاريخ، وهي علاقة البشر بالعالم، بالتاريخ والطبيعة، وهذه المسألة هي مسألة المادية التاريخية.

المادية التاريخية:

مادام كلُّ تغير اجتماعي، يجري مع تغير الشروط التَّاريخية، أي مع تقدم الزِّراعة، والتِّجارة، والصِّناعة، والمبادلة، فلابدَّ أنْ تبدأ دراسة البشر، من علاقتها بالتَّاريخ الواقعي، هذا وعلى العكس من الأيديولوجيات الفلسفية التي ترتد التَّاريخ إلى مجرد عملية تطور الوعي. إنَّ العمل الإنتاجي، والأشكال التَّاريخية لتقسيمه، هي التي تشكل مسرح التَّاريخ، وميدانه التَّجريبي للأبحاث في التَّاريخ العالمي، وبادئ ذي بدء، يمكننا القول:

"لابدَّ لنا أنْ ندرس تاريخ البشر، مادامت الأيديولوجية بكاملها، ترتد إلى تفسير خاطئ للتَّاريخ – كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية".

وما هي هذه الأيديولوجية؟
هي الأيديولوجية الفلسفية على العموم، والأيديولوجية الفلسفية الألمانية، المتمثلة في ديالكتيك هيغل ومادية فيورباخ على الأخص، والتَّناقض الذي يظهر منذ اللحظة الأولى بين منهجي المادية التَّاريخية والفلسفة، بما فيها المادية الدِّياليكتيكية، هو تاريخ البشر.

وهكذا، فطريق الافتراق بين المادية التَّاريخية، والمادية الدِّياليكتيكية، هو التَّاريخ، والتَّاريخ وحده، فالمادية الدِّياليكتيكية، فلسفة تبحث الفكر لا الواقع التَّاريخي، وتستنجد بالطَّبيعة لا التَّاريخ، وتحدد تصوراته من خلال المنطق الصُّوري، والدِّياليكتيك الهيغلي، وليس من خلال دراسة علاقات البشر بالتَّاريخ العالمي، وبالقوانين المادية المستقلة عن الفكر البشري، وتطور الزِّراعة، والتِّجارة، والصِّناعة، والمبادلة، فالقضية الأساسية للمادية الدِّياليكتيكية، هي علاقة الفكر بالمادة، وهي في الأساس، قضية الفلسفة الطَّبيعية، وليست قضية مادية ماركس التَّاريخية.

إنَّ إنتاج المعرفة الفلسفية بدل المعرفة الواقعية، هو الصِّفة المميزة للفلسفة، والمادية الدِّياليكتيكية بوصفها فلسفة، أو حصيلة لتطور الأفكار الفلسفية، تبحث العالم من خلال الأفكار المجردة، المنعزلة عن شروط تطورها، أي من خلال قوانين المعرفة المعروفة بوحدة المتضادات، وتحول الكم إلى كيف، ونفي النفي، فالمادية الدِّياليكتيكية، تبحث الأشياء الظَّاهرية، تكتشفها العيون المجردة، أي لا تحتاج أي جهد لكشفها، وإن هذه الفلسفة، وكأي فلسفة أخرى، لا يمكنها تحرِّي الأشياء من خلال المكونات المادية للأشياء ذاتها، واكتشاف قوانينها الطَّبيعية، الاقتصادية أو الفيزيائية، فأنها تبحث الأفكار، أو نظرية المعرفة، بدل النزول إلى تداخل الأشياء المادية، وعلاقاتها ببعضها البعض، فالعيانية هي الصِّفة المميزة لهذه الفلسفة (أنظر: التناقض بين المادية والدياليكتيكية).

يتبع










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مواجهات بين الشرطة والمتظاهرين في تل أبيب وسط مطالبات بإسقاط


.. نقاش | كيف تنظر الفصائل الفلسطينية للمقترح الذي عرضه بايدن؟




.. نبيل بنعبد الله: انتخابات 2026 ستكون كارثية إذا لم يتم إصلاح


.. بالركل والسحل.. الشرطة تلاحق متظاهرين مع فلسطين في ألمانيا




.. بنعبد الله يدعو لمواجهة الازدواجية والانفصام في المجتمع المغ