الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكساح والجم: قراءة لعناصر الفساد في سورية

فريد حداد

2002 / 6 / 25
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


يستعمل المزارعون ,  في منطقة جبال القلمون السورية , تعبيري , " الكساح  " ( بتسكين الكاف ) , و " الجم " ( بفتح الجيم ) للدلالة على عمليتين زراعيتين .  ينفذون الأولى بشكل دوري , كل سنة , بنهاية فصل الشتاء , لضرورتها , وينفذون الثانية عند ضرورتها ,  اي عندما يعجز العلاج عن الشفاء .

أما " الكساح  " فهي عملية قص للقضبان الرفيعة الطويلة , في شجرة الكرمة , لأنعدام تأثيرها على حجم المحصول القادم , حيث يأتي الثمر , من البراعم الجديدة , االمنبثقة من قلب الجزع القوي , من ناحية , ولتوفير غذائها لصالح الجزع القوي , الذي يقع على عاتقه , اعادة انتاج الثمر والأغصان الجديدة .

 اما " الجم " فهي عملية لاستئصال الجذع من جذوره , وتتم عند الحاجة فقط , وتتجلى الحاجة , في تردي نوعية الثمر , او في استهلاك الجزع لغذاء الآخرين , في وقت يعجز عن طرح ثمار جديدة , أو , أو .......فيتم جمه من جذوره والقائه في النار .

في الحقيقة هذه ليست مقدمة لبحث في علم الزراعة . ولكن , الطريقة التي يمارس فيها الفساد المتعدد الوجوه في سورية , وطريقة محاربته , نبشت في  الزوايا المعتمة من  ذاكرتي واحضرت هذان المصطلحان , ووضعتهما امامي , ليساعداني على وصف وفهم ما يحصل .

فما هو الفساد ؟ نعرف الفساد بشكل أولي , بأنه خيانة الواجب المهني , ويتجلى , بأستغلال حاجة العامة من المواطنين , لموظف ما , في موقع معين , لابتزازهم , ماديا او معنويا , في سبيل الحصول على مكتسبات اضافية ,  ليست من حقه .

ماهي اسباب الفساد ؟ يتسبب في الفساد , اسباب عديدة , مجتمعة او منفردة , منها على سبيل المثال لا الحصر :

1 – ذات فردية مدمرة ( بفتح الميم الثانية ) بسبب الخوف , والقهر, والأزلال , الطويل الأمد , والتي تؤدي الى خسارة تلك الذات ,  الى القيم الأجتماعية السامية , كحب الوطن والشعب , والتضحية , والتفاني في خدمة المجتمع .وحلول غرائز الدفاع عن الذات البيولوجية محلها .

2 – الذات السابقة الذكر , مدعومة بحاجة مادية ملحة , ناجمة عن الخلل الكبير , بين الدخل الذي يجسده راتب الدولة , وحاجات الحياة الفعلية .

3 – فقدان الأحساس بالمسؤولية , الناجمة عن تربية وتوجيه سياسي خاطئ , تترجم بفقدان الرقابة , وغياب المحاسبة , وعدم الوضوح في تحديد المسؤوليات ضمن علاقات العمل , وتفضيل الأطناب في المديح الكاذب , للرئيس المباشر في العمل , ورئيس الرئيس , على حساب جودة العمل , والأخلاص للمواطنين , عن طريق انهاء معاملاتهم على افضل وجه ممكن .

ما هي نتائج الفساد ؟ يقود الفساد , وبسبب طريقة ممارسته , في استغلال حاجات الآخرين , واستغلالهم , الى نمو مشاعر الكراهية , والعدائية , بين ابناء الوطن الواحد , وفي ساحات العمل والدوائر الوظيفية , تسود حالة نزاع مليئة بالحقد والضغينة , وتحل مشاعر النفور , بدل مشاعر الألفة , ومشاعر الايقاع بالآخر والوشاية به ,  محل التعاضد والمساندة , وهذا كله يقود الى وهن وضعف وتفكك اجتماعي , ونقص في مناعة المجتمع , في مواجهة الأخطار المحدقة فيه .

وعلى الصعيد الأقتصادي , يقود الفساد الى انهيار اقتصادي شامل , بسبب نهب المال العام لصالح الفاسدين والمفسدين , وبسبب غياب فكرة النمو والتطور الأقتصادي عن بال الجميع , في هذه الأجواء المحمومة  , اجواء اللهاث وراء النهب وتكديس الثروة  الشخصية , على حساب كائن ما كان .

هل يمكن ان يتحول  الفساد , الى نهج عام وشامل في الدولة ؟ ماهي شروطه ؟ و ألياته ؟ و  غاياته ؟ وكيف يمكن مقاومته  ؟

ان الفساد بالمعنى السابق تعريفه , موجود في كل زمان ومكان .  ولكن الفساد , كنهج عام , شامل لكل مؤسسات السلطة , والدولة , والمجتمع , ظاهرة لاتحدث ,  الا في الدول ذات الأنظمة التوتاليتارية , التي يحكمها الحزب الواحد , والعقل الواحد , والقائد " الفذ التاريخي الواحد " . حيث يتم اغتيال المجتمع المدني , ومصادرة تعبيراته , وتدمير المفاهيم والقيم المدنية الحضارية , واحلال النفاق , والغش ,والتضليل , والوشاية , محلها. هذه القيم الساقطة , التي تمارسها , وتعممها , اجهزة الأنظمة الفردية , والتي تترافق مع اشاعة الأرهاب الفكري ,  والسياسي , بالأضافة الى التخويف , والتخوين , لكل من شذ عن الطريق  المرسوم " للقطيع " . هذا كله يخلق الأرضية المناسبة للمفسدين (بكسر السين ) لنشر قيمهم الفاسدة ,  وتعميمها ,  على صعيد العلاقات العامة في المجتمع , والتي ستعمل على تفكيك اللحمة الأجتماعية بين الناس , وانقا ص مناعة الوطن تجاه التحديات الخارجية ,  مما يؤدي الى استحالة او صعوبة قيام اي فعل سياسي جماعي معارض , مما يكفل للسلطات الحاكمة امنها الداخلي ضد شعبها , من اي حركة تغيير ثورية ,  او سلمية , وهذا ما حصل في سورية .

يتكون عالم الفساد في سورية , من ثلاثة  انواع من البشر . يتمايز كل نوع عن الآخرين , بدرجة الحصانة التي تحميه , وبحجم الفائدة المادية التي تصيبه و الناجمة عن ممارسة الفساد , وبدرجة قربه من مصادر النهب " أموال عامة - مواطنين – أعمال تجارية غالبا غير نظيفة "  . وعليه فيأتي بالدرجة الأولى فئة المفسدين ( بكسر السين ) اللذين يشكلون العقل المبدع للفساد , ومرجعيته , وحماته . ويتركز هؤلاء المفسدون , في المؤسسات السلطوية الحاكمة " أجهزة أمنية – قيادات عسكرية –وبنسبة أقل , حزب السلطة " وهنا لابد من التأكيد على أنه لايقصد بأن كل الأجهزة الأمنية والقيادات العسكرية والحزبية هم من المفسدون , ولكن المقصود أن كل المفسدون يتخندقون في تلك الأجهزة حصرا . وتعطيهم قوتهم واسلحتهم القادرين على استخدامها لقمع الآخرين ,  حصانتهم ضد المسائلة , ويأتي قانون الطوارئ , ليلبسهم لباس القانون , وليمنع اية  جهة كانت من مسائلتهم عن اعمالهم وممارساتهم , بحجة انهم الرجال الساهرون على أمن الوطن والمواطن , واية مسائلة لهم , سوف تفتح الباب امام العدو للتسلل الى جبهتنا الداخلية .

اما النوع الثاني في عالم الفساد , فيتمثل في الفاسدين , الذين يتخندقون في مؤسسات الدولة  الأقتصادية والادارية ( وزارات – شركات – مؤسسات قطاع دولة وغيره ) وليست المؤسسات  السياسية ,  مهما كبرت القاب  أحدهم  او اسمه , حيث  تبقى المؤسسات السياسية تلك حكرا على فئة  المفسدين ,و لسبب اساسي وهو ان السياسة تبقى مجال للتأثير في الآخرين , وهذا ما لا تسمح به الفئة المفسدة , اي انها لاتسمح لأي كان في دخول تلك المنطقة , المحتكرة لهم  .   ويشكل هؤلاء الفاسدين  أذرع اخطبوط الفساد , الذي يشكل المفسدون جسمه وعقله . كما يشكل الفاسدون ايضا  الأداة التي  تستخدمها السلطة لاستعمار الدولة بكامل اجهزتها ومؤسساتها .

اما النوع الثالث فهم المفسدون (بفتح السين ) حيث ينتشر هؤلاء في التجمعات السكانية , ويشكلون اوبار  الأمتصاص لثروات المواطنين , تحت مزاعم (  تعقيب معاملات – صاحب معارف في الدولة – واسطة –قضاء حاجة لمواطن ) .  كما شكل هؤلاء الأداة  التي استعمرت السلطة بواسطتهم , المجتمع . ويشكل عناصر الفئتين الثانية والثالثة , أجهزة الأمتصاص والضخ للثروة الأجتماعية من المواطنين الى قلب الأخطبوط الكبير " فئة المفسدين – بالكسر " بعد اقتطاع الفتات لصالحهم .

     يتساوى جميع اعضاء الفئتين الثانية والثالثة  امام الفئة الأولى , لافرق بين رئيس مجلس الوزراء , ومعقب معاملات , فلجميعهم مهمة واحدة وحيدة , وان كان هناك من فرق بين واحد وآخر , فهو كالفرق بين خروف الضحية بالعيد الكبير , وخروف ليلة طهور الصبي .

فكلهم عيدان سيأتي اليوم الذي يصبحون فيه غير قادرين على العطاء ويصبح " كسحهم " ضرورة حيوية لتقوية الجزع , وهذا ما نشهده في محاكم الأمن الأقتصادي في سورية , ففي كل عملية كساح تقوم فيها السلطات يدان احد الفاسدين أو المفسدين " بالفتح " بتهمة الفساد والأضرار بالأقتصاد الوطني , وفي نفس الوقت يتم تسليم المفسد" بالكسر "  الحامي السابق للفاسد ,  صك البراءة بالملف الذي تم طيه ليعود بعدها المفسد "بالكسر "  الى تفريخ ذراع جديدة وهكذا دواليك .

ان الطريقة التي تمارس فيها سياسة محاربة الفساد في سورية , بين الفينة والأخرى , ماهي الا جزء لايتجزأ من سياسة الفساد العامة نفسها  التي تمارس في البلد , لأنها في مضمونها ,  لاتعدو عن كونها سياسة " كساح " تهدف الى بتر اكباش فداء انتهى دورهم , في سبيل اعطاء الصورة الجيدة للفئة المفسدة " بالكسر " على انهم يقظون وساهرون على خدمة الوطن . وهذا ذروة الفساد .

ان السياسة العامة المعلن عنها حاليا في سورية , والتي تنتهجها السلطة , وتسخر اجهزة اعلامها للحديث عنها , والمتمثلة في الأصلاح الأداري والأقتصادي , لاتعدو كونها محاولة جديدة لتفريخ ازرع جديدة للفئة المفسدة "بالكسر " داخل مؤسسات الدولة من جهة , ومن جهة أخرى ايجاد او خلق مصادر جديدة للثروة ,  لنهبها من جديد .

ان الأصلاح الجدي والحقيقي , ومحاربة الفساد بطريقة جذرية وحاسمة , لابد له ان يأتي الا من باب الأصلاح السياسي , الذي يتحدد في

اطلاق الحريات العامة والمتضمنة حرية العمل السياسي , وحرية ,  التنظيم ,  والتعبير , والغاء قانون الطوارئ ,  واطلاق معتقلي الرأي,  وعودة المنفيين ,  واعادة الحقوق المدنية لمن جردتهم منها المحاكم الأستثنائية  . هذا الذي سيفضي  الى رفع الحصانة عن عقل الفساد وحاميه , وبالتالي مسائلته وعزله عن الحياة العامة وميادين تأثيره . أي وبكلمة مختصرة , جم هذه الفئة من جذورها , لسوء الثمار التي تنتجها , ولتطفلها على المجتمع وامتصاص خيراته .

ان الحراك الأجتماعي الذي ترافق مع وفاة الرئيس الراحل , ومجيء الدكتور بشار الأسد الى سدة الرئاسة . كان تأكيدا على ان المجتمع السوري لم يمت بعد , بالرغم من سنوات القهر الطويلة , المشبعة بسياسات الفساد والأفساد , للمجتمع وقواه السياسية والأجتماعية . فقد عبرت المعارضة السياسية , بشقيها , الداخلي والخارجي , والمثقفين , والمهنيين , وبمقدمتهم محامي سورية . ولجان الدفاع عن حقوق الأنسان .  عن وعي متطور , وشعور عالي بالمسؤولية , تجاه ماآلت اليه أوضاع البلاد من خراب اقتصادي وتردي اجتماعي وعقم سياسي   , وطريقة اخراجها من مآزقها المتعددة . ظهر ذلك جليا في كل ما صدر عنهم , كتابيا , أو شفهيا . كما ان  ملامستهم لموطن الداء ووصفهم للدواء , الذي هو الحريات و....... الخ  آثار الرعب في نفوس الفئة المفسدة . اصحاب مراكز القوى , رجالات الحرس القديم . الذين اعلنوا الحرب على ربيع دمشق , حيث توجت باعتقال العشرة الأفاضل دعاة الأصلاح والمصالحة الوطنية , ليكونوا عبرة لمن يسول له عقله التفكير في رفع الحصانة عن هؤلاء المفسدين . وسلوكهم هذا كان منسجما مع الطريقة التي تعلموا بها ممارسة السياسة , بالأعتقالات , والسجون , وكم الأفواه .

اما ما يستحق التوقف عنده , هو ما ترافق مع تلك الحملة , من كلام للسيد رئيس الجمهورية , الى صحيفة الشرق الأوسط اللندنية . حيث حدد فيها خمسة خطوط حمراء , لايجوز الأقتراب منها وهي :

1 – عهد الرئيس الراحل . اي العهد الذي نمت فيه  وترعرعت  تلك الغيلان المفسدة .

2 – الأمن . 3 – الجيش . 4 – الحزب . اي الخنادق التي يتخندق فيها المفسدون .

5 – الوحدة الوطنية . ويقصدون بالوحدة الوطنية هو استمرار اطاعة الناس لأصحاب النفوذ واستمرار صمتهم على الخراب الذي حصل في البلد . واية اشارة تصدر عن الناس, يفهم منها بداية تململ, تعتبرها السلطات تهديدا  للوحدة الوطنية , والرد عليها يأتي من السيد عبد الحليم خدام , نائب رئيس الجمهورية , بتحزيره من جزأرة سورية  , متناسيا ان من جزأر الجزائر هم نظرائه في الحكومة الجزائرية .

السؤال الهام الذي يترتب على اجابته الكثير من الأمور . عندما تحدث السيد  الرئيس عن خطوطه الحمراء , هل كان يعبر عن قناعاته ؟ ام انها كانت قناعات الغيلان الشرهة المحيطة به ,  والتي اوحت له بضرورة رسم تلك الخطوط ؟

ان كانت قناعتهم , فما على السيد الرئيس الا ارسال اشارته – التي تأخرت كثيرا – الى جماهير الشعب التي تقوى فيه , ويقوى فيها  وعلى استعداد لأن تعمل المستحيل لنصرته في سبيل السير في تطبيق برنامج اصلاحي طال انتظاره . وان كان ذلك تعبيرا عن قناعته الشخصية , فهذا يعني ان ما وعد به في خطاب القسم قد فقد مصداقيته , وعلى قوى المعارضة الديمقراطية ان تشحذ همتها جديا , لأنه من الصعب على الشعب السوري ان يعيش ثلاثينتان من السنوات في هذه الظروف .

  

 

 المواطن : فريد حداد.

مواطن سوري يعيش في المهجر .

     








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا والتلويح بالسلاح النووي التكتيكي


.. الاتحاد الأوروبي: أعضاء الجنائية الدولية ملزمون بتنفيذ قرارا




.. إيران تودّع رئيسي ومرافقيه وسط خطى متسارعة لملء الفراغ السيا


.. خريجة من جامعة هارفارد تواجه نانسي بيلوسي بحفل في سان فرانسي




.. لماذا حمّل مسؤولون إيرانيون مسؤولية حادث المروحية للولايات ا