الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العولمة كبناء إنساني جديد

حسين عجمية

2009 / 10 / 20
العولمة وتطورات العالم المعاصر



نظرية العولمة الكونية متعمقة في الوجود الإنساني وفق مقتضيات تاريخية تفرض نفسها على البنى الاجتماعية الناهضة في التاريخ الكوني ، لأن العمق البليغ للدلالة الحيوية على الفاعلية الإنسانية ، تعبر عن نفسها في سياق تاريخي عميق التكوين ، فالحضارات الكونية كانت تمتلك حركة النزوع نحو الكونية وإقامة نوع من العلاقات التوافقية المنسجمة مع تطلعات هذه الحضارات ، ونظراً لأهمية الغاية الاقتصادية في بنية الوجود الحضاري كان الفعل التوسعي يقوم على دمج المعطيات الاقتصادية لتعميق البنية القائمة وتقوية الوجود الحضاري ولم يكن الوجود الاقتصادي هو الغاية الكبرى لتعميق العبور بقدر ما كان للفكر الإبداعي قوة العبور خارج النطاق الحضاري وبالتالي توفر الظروف المناسبة للامتداد الحضاري عبر التاريخ .
غير أن الانتقال إلى عصر التفاعل والتواصل الكوني وتنامي المقدرة الإجمالية لعمليات الربط الإنسانية على كامل المساحة الأرضية ، غيّر من طبيعة الإدراك الحضاري في عالم متنوع الحضارات تتفاعل في إطار كوني ضمن خصوصياتها وضروراتها المعبرة عن وجودها كي تعمق هذا الوجود ليصبح أكثر غناً وثراءً لمعطياته العقلية .
لا بد من توفر الاستقلالية القادرة على تحقيق الوعي الحضاري النوعي ضمن الوجود الكوني ، فالوعي العميق لنظرية العولمة في المجال الكوني يدخل ضمن مجرى التحرر من الضغوط والإملاءات المعيقة لفهم النظرية الواضح . فالوعي البشري يرتفع ويتحرر من القيود الشكلية والاقتصادية ليكون أكثر التزاماً بوعي المصير الكوني ، فالوعي القائم في الوقت الحاضر مدرك لأبعاد وعيه نظراً للأخطار الجسيمة المحيطة بالوجود الكوني والناشئة من تنظيرات غير عقلانية يمكن أن تؤدي إلى كوارث محدقة بالجنس البشري .
إن فهم العولمة بأنها تحويل العالم إلى مكان واحد وبالتالي فإنها تقيد الحضارات أو تضغطها في نمطية واحدة ، وتلغي في سياقها كافة الأفكار المتفرقة والصادرة عن فئات بشرية متنوعة ومختلفة في إرثها الثقافي ونمطية وعيها التاريخي كي تكون العولمة منطبقة على مسمياتها الكونية كالقرية الكونية المتميزة في إسهاماتها النوعية الفريدة في جميع الميادين الثقافية والأخلاقية والاقتصادية وغيرها ، بمعنى ضغط العالم عقلياً في منظور محدد ليخدم وجود محدد أمر مخالف للتوجهات الكونية في المعرفة ومعادي في أساسه للثقافة الإنسانية والحضارات الإنسانية .
فالخصوصيات الثقافية لكل الجماعات البشرية وجميع البنى الفكرية للحضارات التاريخية في إطار العولمة تأخذ مجالها الموسع وتوسع الخصوصيات الثقافية والمفاهيمية وتوحدها في مجرى كوني وبالتالي فإن العولمة هي الكل المتكامل للثقافات البشرية وتعميم بنيتها على كامل الوجود الإنساني وبالتالي يأخذ الوعي مجالاً انفتاحياً على جميع الأفكار والثقافات المنتشرة في وجوده ويعبر عن محتواها بحرية ، وتدخل ضمن نظام البنية العامة للوجود الكوني وتصبح منطلقات أساسية نحو وجود أعمق وأكثر اتساع وبالتالي فإن العولمة تبتعد عن المفهوم القائل بأن العولمة هي تخصيص الكونية .
فالانشغال المتزايد بالقيمة العالمية للوجود الكوني في نظام العولمة يتوافق مع إظهار الجوانب الفكرية والمبادئ الثقافية والدلالية في بنية الحضارات المختلفة والأساسية حول مفاهيمها وثوابتها الكونية فكل حضارة متعمقة في الوجود الإنساني ، تحمل في طياتها مفاهيم كونية على غاية من الأهمية لأن بناءها الجوهري مبني على أساس كوني ، ومن خلال تعميق المفاهيم الكونية في الثقافات والحضارات الإنسانية تتعمق البنية الأساسية لمفاهيم العولمة في إطارها الكوني وجميع المناهضين للمفاهيم الكونية ، ينطلقون من مفاهيم متزمتة وعنصرية وهي في طبيعتها أكثر انغلاقية على الذات ، أو مفاهيم متحجرة من أصول عرقية أو ناتجة عن الخوف من طغيان شديد وكاسح لشركات عملاقة وسياسات اقتصادية ، غايتها ابتلاع ثروة الوجود وتركيزها بأيدي أقلية طاغية تستطيع من خلال ذالك السيطرة على المجريات الكونية بما يتفق مع مصالحها الأنانية .
غير أن المقاربة بين الحضارات الإنسانية من خلال النظر المحدد حول مفاهيمها عن البنية الكونية والتفاعل العالمي يوسع الأبعاد الحقيقية لفكرة العولمة ويعطيها فاعلية متوافقة مع الوعي الحضاري والكوني لوجود الإنسان القادم .
فالعولمة نظرية منفتحة على الوجود الكوني من خلال تركيزها الأساسي على مبادئ وفاقية بين البشر ، والاعتماد على كامل المظاهر الثقافية لنظام العالم ، والدراسة المنهجية للمسارات الحضارية والاجتماعية الداخلية وهي تتشكل ضمن واقع يتوجه بفاعلية نحو الكينونة العالمية والمشاركة الوجدانية لجميع الحضارات والمجتمعات في بناء الظرف الإنساني الكوني .
فالتوجهات المتزايدة للمؤسسات الدولية لوضع نظام محدد وموحد لحقوق الإنسان في العالم أجمع ، يمكن أن يوضح الرؤية القائمة حول التوجهات المستقبلية نحو تفعيل الوجود الإنساني بعد تأمين حقوق الإنسان الأساسية ، وتتعمق المطالب نحو الوصول إلى أفضل مصالح للبنية الإنسانية بكاملها .
فالحياة الإنسانية تواجه اليوم ثلاث ظواهر كبرى تهدد البناء الإنساني هي ( الكارثة البيئية والتدمير النووي والإيدز ) وكل واحدة منها هي مشكلة ملحة على النطاق الكوني .
فالحقيقة الإنسانية تتفاعل في بنية الوجود الإنساني لتعمق الوسائل الكفيلة بالتغلب على هذه الكوارث ، وخلق واقع كوني خالي من وجودها أو توفير الإمكانية لتقليص مخاطرها على التوجهات الإنسانية ، وإزالة مخلفاتها السلبية وتعميق روح المواجهة في بنية النفس الإنسانية لمنع التزايد المدمر لبقائها كونها قائمة على نفس الوتيرة من التخريب .
فالتساؤلات المنتشرة على المستوى العالمي حول بداية الحياة الإنسانية ونهايتها تعمق واقع الخوف في العقل الإنساني على كامل وجوده ويتعمق معه واقع أخر حول إمكانية خلق أساليب علمية وتكنولوجيا طبية قادرة على إطالة العمر الزمني للبشر .
فقد توصل البشر إلى قناعة راسخة بأن العلم هو الناظم والقاسم المشترك لكافة البنى الإنسانية بمختلف أشكال تواجدها وتنوع ثقافاتها ، فالمظاهر البشرية الساعية لتحقيق الشرط الإنساني العالمي تتحول إلى توجهات منظمة ضمن آفاق متنوعة ومختلفة التسميات غير أنها تميل نحو واقع إنساني موحد في وجوده الثقافي وكل حركات السلام ومنظمات أطباء بلا حدود ومحامين بلا حدود وفعاليات متنوعة أصبحت تنشط بلا حدود لتعمق الوجود الكوني وتعطية الأبعاد الكاملة لحرية الاندماج والمهام المطروحة أمام عولمة العالم .



المرجع المعتمد :
رونالد روبرتسون : العولمة النظرية الاجتماعية والثقافة الكونية – ترجمة أحمد محمود ونور أمين – مراجعة وتقديم محمد حافظ دياب – صادر عن المجلس الأعلى للثقافة – عام 1998 م .











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيطاليا: تعاون استراتيجي إقليمي مع تونس وليبيا والجزائر في م


.. رئاسيات موريتانيا: لماذا رشّح حزب تواصل رئيسه؟




.. تونس: وقفة تضامن مع الصحفيين شذى الحاج مبارك ومحمد بوغلاب


.. تونس: علامَ يحتجَ المحامون؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد لقاء محمد بن سلمان وبلينكن.. مسؤول أمريكي: نقترب من التو