الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تداعيات وأثار الحصار

فاطمه قاسم

2009 / 10 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


تداعيات,أثارألحصار
ما تقوله الحقائق وتخفيه التقارير
"قطاع غزة نموذجاً"
د.فاطمه قاسم
الباحثة في علم النفس الاجتماعي
رئيسة صالون القلم الفلسطيني

مقدمة:

الحصار، أي أن يقوم طرف قوي بفرض الحصار على طرف آخر "مثل جيش في جبهة قتال، أو منطقة تمرد في بلد ما، أو شعب كامل" هو فعل عنيف معروف من أقدم العصور، وهو من العقوبات الكبرى التي تتحاشاها الأمم والشعوب والدول، سواء كان هذا الحصار كلياً، أو جزئياً، وهو يهدف إلى تحطيم عناصر الحياة لدى الطرف المحاصر، والتأثير الحاسم على النسيج النفسي والاجتماعي، وإحداث تغييرات حادة في "تابو" القيم التي يتحصن بها الطرف المحاصر، وإحداث تآكل كبير في هياكل الحياة، لدفع الطرف الآخر إلى الضعف والعزلة والنبذ والاستسلام، أو جعله يتحول إلى نموذج مشوه يحذره الاخرون ويحرصون أن لا يكونوا مثله.

قطاع غزة والحصار:

في العام 2003، اتخذت دولة الاحتلال الإسرائيلي قراراً استراتيجياً غاية في الخطورة، يقضي بعزل قطاع غزة، وحصاره، واعتباره مشكلة متفاقمة في حد ذاته، وسلخه عن سياقه الفلسطيني، والتنصل من المسئولية عنه، ودفعه إلى الصحراء من أجل استمرار الحياة بحدها الأدنى، وكان الاهتمام الأول لدى دولة الاحتلال بقيادة الجنرال شارون في ذلك الوقت، ما هي الذريعة التي يتم بها فرض هذا الحصار، فكانت خطة الانسحاب من جانب واحد التي قررها شارون ونفذها في خريف عام 2005، حيث تم إخلاء أربعة وعشرين مستوطنة موجودة في القطاع من كافة مستوطنيها، ثم تدمير المباني في تلك المستوطنات، وانسحاب وحدات الجيش الإسرائيلي التي كانت عاملة في قطاع غزة، والقيام بحملة دعائية كبرى في العالم بأن القطاع أصبح غير محتل،وحلبدلا منه الرهان على تفاعل الأوضاع الداخلية، حيث انفتح الصراع بشكل واسع، الأمر الذي أدى إلى سيطرة حركة حماس بقوة السلاح على قطاع غزة، الأمر الذي اتخذته دولة الاحتلال الإسرائيلي ذريعة في فرض الحصار على قطاع غزة ابتداءً من الخامس عشر من حزيران عام 2007، بعد أن انهارت الاتفاقية التي كانت تنظم عمل المعابر مع الشقيقة مصر بعد انسحاب المراقبين الدوليين، وبالتالي إغلاق معبر رفح، وهو البوابة الوحيدة التي تربط قطاع غزة بالعالم الخارجي.

وبناءً على ذلك:

دخل قطاع غزة في مرحلة جديدة من مراحل الحياة، حيث البضائع تصله من إسرائيل عبر معابر تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة مثل معابر إيريز، وناحال عوز، والمنطار، وكرم ابو سالم، والتي اشترطت إسرائيل توريد البضائع تحت البند الإنساني، أي معادلة سد الرمق، والحياة يوماً بيوم، مع وقف كامل للموارد الاستراتيجية مثل الاسمنت والحديد والخشب وقطع الغيار والسيارات وبقية السلع الإنتاجية، كما ان المواد المتعلقة باستمرار الحياة اليومية، كانت تتم بالحد الأدنى، بحيث لا يبقى أي قدر من الفوائض التي تمكن مليون ونصف مليون من تدبر الأمور ولو لفترات قصيرة.

أما معبر المسافرين الوحيد، وهو معبر رفح، فقد استمر تحت معادلة دقيقة جداً، بحيث يتم دخول وخروج العالقين بين وقت وآخر، وليس أكثر من ذلك.

ومما فاقم الأوضاع على كافة المستويات في قطاع غزة، انه بعد سنة ونصف من بدء الحصار نفذت إسرائيل حرباً بربرية بمعنى الكلمة ضد القطاع، وكان من النتائج المباشرة، تدمير البنية التحتية، والقضاء على القاعدة الاقتصادية المتمثلة بالمصانع والورش والعديد من المزارع، وإحداث مجزرة على صعيد الإسكان بتدمير أكثر من خمسة عشر الف مسكن، وتشريد عشرات الآلاف من السكان إلى مناطق إلجاء أخرى بعد إفقادهم عناصر الحياة التي كانوا يعتمدون عليها، وإلحاقهم بنظام الإغاثة الطارئة الذي تتولاه وكالة UNRWA، وانسداد الأفق بالكامل أمام مليون ونصف المليون فلسطيني، مع بقاء الانقسام الداخلي بأبشع صوره، لكي يهدم ما تبقى لدى الناس من إرادة وأمل.

التكيف مع الحد الأدنى:

في هذه البانوراما القاسية، أصبح الفلسطيني فرداً أو عائلة أو حتى تشكيلاً سياسياً أو مؤسسة أهلية، يتكيف مع الوضع الجديد، الحد الأدنى، وحين يهبط هذا الحد الأدنى فإنه يجري التكيف معه بصورة تلقائية، بحيث وجد الناس أنفسهم في صورة جديدة، مشوهة، لا تتطابق مع صورتهم التي كانت قائمة قبل سنوات قليلة فقط.

فمثلاً:

- نظام الإغاثة الطارئة الذي تعتمد عليه آلاف العائلات، أدى إلى الشعور بالتهميش، وانعدام ثقة الإنسان بنفسه، وإفقاد الأباء دورهم في الأسرة لأنهم لم يعودوا طرفاً في أي نظام انتاجي، لأن الإغاثة الطارئة هي شبيهة بالتسول على نحو ما، وهذا بدوره أدى إلى اضطراب التراتبية في نظام الأسرة التي هي الخلية الأساسية في المجتمع، وما يترتب على هذا الاضطراب من نتائج وآثار تمس في الصميم هيكل القيم.
سيكولوجيا المكان الضيق:

- الشعور باختناق المكان،لأن قطاع غزة أصلاً مكان ضيق، ويعتبر أعلى كثافة سكانية في العالم، ولكن ارتفاع معدلات الفقر، وارتفاع أجور المواصلات بسبب ارتفاع ثمن الوقود او ندرته، جعل المسافات القريبة تبدو أبعد، وأصبح التواصل الاجتماعي أقل، وشبكة العلاقات الاجتماعية أصبحت ضيقة، وهذا بحد ذاته يعتبر طوقاً نفسياً واجتماعياً يفاقم الشعور بالحصار.
- العودة إلى الوراء عدة عقود على مستوى أنماط الحياة اليومية، مثل استخدام موقد الكيروسين "البربموس" أو مواقد الحطب، وانتشار ظاهرة استخدام عربات الكارو، وتراجع معدلات النظافة العامة في الشوارع والأحياء، وعدم القدرة على التخلص من الأنقاض في المدن والقرى والأحياء، وبقاء هذه الأنقاض كتثبيت للصورة القاسية التي تشبه الكابوس، واستخدام أنواع متعددة من الوقود بما في ذلك الغاز أو زيت السيرج لتشغيل السيارات، وما يحدثه ذلك من أثر مروع ليس على الصحة العامة فقط، وإنما على الصحة النفسية، حيث يشعر الإنسان أنه جزء من منظومة متراجعة.
- معدلات البطالة التي تتجاوز كل المعايير، وانسداد الأفق، وعدم وجود بديل في السفر إلى الخارج، أدى إلى ارتفاع معدلات العنوسة، وعدم الإقبال على الزواج، والخوف من المستقبل الذي يشكل ضاغطاً نفسياً، ونتيجة لذلك ولعوامل أخرى ارتفع معدل محاولات الانتحار بين الشباب من الجنسين.
- الاتجاه إلى التطرف في السلوك المجتمعي، نتيجة الاحباط ومحاولات تفريغ الشحنات السالبة نفسياً في الأقربين "الأهل أو الجيران" وانفجار مشاكل اجتماعية لأتفه الأسباب، وانحدار التوتر اليومي من العناوين السياسية إلى عناوين اجتماعية، وانتشار الإشاعات وتضخيمها، وسهولة ثقافة الاتهام ضد الآخر، والحكم على الأشياء والأحداث بالسلبية حتى قبل أن تقع، والدوران في حلقات مفرغة من الإحباط المجتمعي.
- تحول الناس تدريجياً إلى مجموعات تنتمي إلى هيئات الإغاثة والمنظمات غير الحكومية الأجنبية، وتحولت وكالة الغوث UNRWA، إلى عنصر حاسم ومستقطب، أيضا إستطاعت وكالة الإغاثة الدولية والخارجية من النفاذ إلى نسيج المجتمع الذي أصبح مكشوفاً بسبب الفقر.

أخطر ما في الموضوع:

أن هذه الظواهر والأعراض والعوامل التي حاولت أن أرصد جزءاً يسيراً منها، لا تبقى في حالة استاتيكية، بل هي تتفاعل وتنتج مضاعفات أوسع، وهكذا فالمضاعفات نفسها تعيد انتاج غيرها، وهكذا في دوران مستمر، مثل الثوب الذي يتعرض نسيجه إلى الاهتراء، فيؤدي هذا الاهتراء نفسه إلى خلل جديد، وهكذا، ونرى أنفسنا في نهاية المطاف امام واقع جديد نحتاج ربما إلى عقود من الزمن للخلاص والعودة إلى نقطة البداية من جديد.

ولذلك، فإن منهج المكابرة، وعدم الاعتراف بالواقع يزيده تفاقماً، كما أن التصرف على أساس أن هذه المظاهر والأعراض هي نقاط معزولة، ما ان ينتهي الحصار حتى تختفي من تلقاء نفسها، هو أمر خاطئ وخطير في آن واحد.

بل إن بعض المظاهر والأعراض ترسم صورتنا بشكل دمر في بعض الأحيان، وعلى سبيل المثال فإن تجارة الأنفاق وهي تجارة من طرف واحد وليست تبادلية، رسمت لنا صورة مشوهة في نظر الكثيرين، فنحن ندفع مدخراتنا القليلة في تجارة لا نختار فيها اولوياتنا، فالانفاق لا تقدم لنا سلعاً انتاجية، أو إنشائية، مثل الاسمنت والحديد مثلاً، أو قطع الغيار الرئيسية التي تقوم بتشغيل مصانع معطلة، وإنما تقدم لنا أنماطاً من المواد التي تساعد في تدهور السلوك مثل الآلاف من الدراجات النارية التي أصبحت مصادر جديدة للموت.
أوأنها تقدم لنا فيضاً من سلع الاستهلاك الباقي من تاريخها الافتراضي القليل مثل الشيكولاتة، والعصير، والمعلبات غير المضمونة صحياً، ومواد ترفيه أخرى، تثير الدهشة لمن يقومون بزيارتنا لتقييم الواقع الذي نعيش فيه.

الحصار كان عبر التاريخ عقوبة قاسية، وواجبنا أولاً التحقيق في تداعيات وفداحة و نتائج واثار هذا الحصار، ولكن المهمة الرئيسية هي إنهاء هذا الحصار بجهد وقرار فلسطيني صادق وواضح، وهذا هو معنى المصالحة الوطنية، فالمصالحة في أهدافها الرئيسية تعني إنهاء الحصار قبل أن يتحول إلى كارثة تنهي حياة شعبنا بطريقة لايستطيع احدا من صانعي الانقسام الهروب من المسئولية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تصعيد إسرائيلي ضد حزب الله.. هل نشهد غزة جديدة في بيروت؟ | #


.. الرئيس التنفيذي لدائرة الحلول منخفضة الكربون في -أدنوك-: نست




.. المتحدثة باسم البيت الأبيض: الإدارة الأمريكية تشعر بالقلق إز


.. رصد لأبرز ردود الغعل الإسرائيلية على اغتيال القيادي في حزب ا




.. وزير الخارجية اللبناني يتهم إسرائيل بـ-الإرهاب- بعد انفجارات