الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طومي والجدة

أوري أفنيري

2004 / 6 / 2
القضية الفلسطينية


هناك من يربح العالم بلحظة واحدة وبعبارة واحدة. هذا ما حدث لطومي لبيد، حين قال العبارة التالية: "هذه المرأة المسنة تذكرني بجدتي!"

لقد تم تصوير هذه المرأة المسنة، من سكان مخيم اللاجئين في رفح، والتي هدم الجيش بيتها، بينما كانت تبحث بين أنقاض البيت، في محاولة يائسة منها للعثور على دوائها. بعد مرور يومين، وجدها الصحفيون في نفس المكان، ما زالت تبحث عن أقراص الدواء تحت الأنقاض.

لقد قتلت جدة طومي في الكارثة. طومي ذاته ولد في منطقة هنغارية شمالي يوغوسلافيا ونجا من الكارثة في جيتو بودابست. عندما ذكر كلمة "جدتي"، كان من الواضح تماما أنه يقصد فعلا جدته التي راحت ضحية الكارثة.

لقد أثارت هذه الكلمات ضجة كبيرة. يمكن أن تكون هذه الكلمات هي القشة التي كسرت ظهر البعير وأدت إلى اتخاذ الحكومة لقرار الوقف الفوري للبشاعة المتواصلة في رفح.

من الواضح أن الوضع كان مواتيا لذلك. صور القتل والدمار الوافدة من تلك البلدة البائسة قد ملأت نشرات التلفزيون وصفحات الصحف في العالم كله. لقد بثت محطة الجزيرة هذه الصور عدة مرات كل ساعة ليشاهدها عشرات الملايين في أرجاء العالم العربي. وقد ملأت هذه الصور شاشات التلفزيون في العالم الغربي أيضا. لقد كان تأثيرها المتراكم ضخم جدا – لقد صوّر الجيش الإسرائيلي كآلة لا إنسانية فيها، تسحق، بحركة يدها، حياة مئات العائلات. صورة لولد صغير وهو يجر ورائه شنطة كبيرة لينقذ شيئا من ممتلكات العائلة، تبقي أثرا أكبر من أي أثر تبقيه آلاف الكلمات الكاذبة التي يتفوه الكاذب بلسان الجيش.

قصف الدبابة للمتظاهرين الفلسطينيين غير المسلحين، الذين كانو يسيرون وهم يصفقون بوتيرة إيقاعية، وببث حي، زاد الطين بلة. الذرائع والتوضيحات من قبل المرتزقة الرسميين زادت حجم البشاعة. لقد كان بالإمكان الإحساس بالاشمئزاز العالمي.

غير أن الزعامة العسكرية والسياسية كانت ثملة من هذه الحملة. لقد أعلنت عن استمرار الحملة، بل وعن زيادة حجمها. لقد تم حشد قوات تزيد عن فرقة كاملة بهدف إنزال الضربة القاضية على رفح. لقد كانت النية، حسب ما قال الوزير لبيد ذاته، هدم 3000 بيت آخر.

تحرك الأمريكيون، من وراء الكواليس على ما يبدو. لدى جورج بوش العديد من المشاكل في العراق. سياسته آخذة في الانهيار. صور رفح زادت من تعتيم صورة الأمريكيين، أصدقاء شارون، في نظر الشعب العراقي، المتعاطف مع الفلسطينيين. لأول مرة يمتنع الممثل الأمريكي في مجلس الأمن عن فرض الفيتو على قرار يدين إسرائيل (حتى وإن كان الأمر بصورة هادئة تثير الاشمئزاز). لا شك في أن شارون قد أصغى في في مكالماته مع واشنطن إلى كلمات كحد السيف بلغة أمريكية مبسطة.

وقد تسارعت انطلاقة المعارضة داخل إسرائيل. فبعد يوم واحد تظاهرت حركات السلام الراديكالية (وكانت وحدها تقريبا على الحلبة للأسف الشديد)، وواجهت قوات الشرطة داخل المدن الإسرائيلية، وحتى أنها اخترقت حاجز عسكري على حدود قطاع غزة. لم يكن بمقدور وسائل الإعلام الإسرائيلية مواصلة تجاهل التظاهرات، وقد خصصت لها عدة ثوان. (بينما قامت محطة الجزيرة بالتبليغ عن هذه المظاهرات في نبأ مدته عشر دقائق، وأعيد بثه مرارا وتكرارا).

كما وتزايد الاعتقاد لدى زعامة الدولة بأن الحملة قد منيت بهزيمة نكراء. ففيما عدا الاكتفاء الذاتي من حب الانتقام، لم تحقق هذه الحملة أي هدف يذكر. صحيح أنه قد تم الكشف عن بعض الأنفاق (اثنان حسب بعض المصادر، وأربعة حسب مصادر أخرى)، غير أن هذا الأمر كان لتكفيه بعض الفصائل. لقد ابتعد "المطلوبون" عن المنطقة عندما شاهدو التجهيزات لهذه الحملة الضخمة. لقد زرعت الفرقة العسكرية الدمار والقتل ولكنها لم تحرز شيئا يذكر.

في هذه المرحلة، جاء ما تفوه به الوزير لبيد وكسر الحاجز، وقد تم وقف العملية وهي في أوجها.

وكما هو متوقع، انقض اليمينيون على لبيد. فكيف له أن يدنس ذكرى ضحايا الكارثة على هذا النحو؟ كيف يمكن المقارنة بين الأمرين! فهذا هو استغلال قذر من لبيد لكونه ناج من الكارثة! (من المتعارف عليه لدينا أن اليمينيين فقط هم الذين يمكنهم التحذير من حدوث كارثة ثانية. ومقارنة عرفات بهتلر والفلسطينيين بالنازيين).

لقد حاول لبيد الدفاع عن نفسه بكل ما أوتي من قوة. فهو لم يقصد المقارنة لا سمح الله. هو لم يذكر الكارثة أصلا. وعاداك عن ذلك، فجدته هي ممن نجوا من الكارثة.

فلماذا قال ما قال؟ أما الساخرون فقد كان لديهم العديد من التعليلات: لبيد هو ديماغوغ ممتاز. لقد ظهر على شاشات التلفزيون لسنوات عديدة، واشتهر بمهاجمته السافرة على اليساريين، العرب، المتدينين، الشرقيين والفقراء. فكلنا نذكر تلك الشقراء التي ظهرت في أحد البرامج واشتكت من الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها. فما كان من لبيد إلا أن صرخ في وجهها: "من أين لك النقود كي تصبغي شعرك"؟

ويقول الساخرون أيضا أن لبيد أحس بأن الريح الجماهيرية تهب باتجاه معاكس. وها هو يلائم نفسه لهذه الريح. لقد أراد أن يبرهن أنه ليس عبدا منصاعا لشارون، كما يعتقد الكثيرون. لقد أراد نفض المسؤولية عما تقترفه حكومة شارون من بشاعة عن نفسه.

من الممكن أن يكون كل هذا صحيح، ولكني أعتقد بأن العبارة التي قالها عن جدته قد صدرت عنه في لحظة تأثر حقيقية، ودون أن يحسب حسابها مسبقا، وصدرت من تحت كل الأمور الغريبة التي تميز شخصيته. لقد مست تلك المرأة من رفح أعماق نفسه، ففي أعماق السياسي والنجم التلفزيوني يختبئ أيضا ذلك الولد الذي شهد الكارثة، وهو الذي انطلق من أعماق لبيد في تلك اللحظة.

تنتاب حياة الإنسان مثل هذه اللحظات. عندما يكشف عن جوهره الدفين متخطيا كل الاعتبارات والمصالح. أنا أومن بأن هذا ما حدث للبيد في تلك اللحظة.

إن تأثير الكارثة على شخصية الناجين منها وعلى أولادهم وأحفادهم، هي ظاهرة مثيرة. لقد عرضت عليّ مديرة مدرسة ثانوية ذات مرة مواضيع الإنشاء التي كتبها طلابها وطالباتها الذين شاركوا في جولة منظمة من قبل المدرسة في أوشفيتس. وقد انقسمت ردود الفعل بين استنتاجين مركزيين، يتعارض أحدهما مع الآخر.

معظم التلاميذ عبروا عن أحاسيسهم على النحو التالي: "بعد أن شاهدت ما فعله النازيون باليهود، توصلت إلى استنتاج بأن الدفاع عن دولة إسرائيل وعن الشعب اليهودي، هي وصية عليا. ولذلك يحق لنا أن نفعل ما نريد."

أقلية من بين الطلاب استنتجت استنتاجا معاكسا: "بعد ما شاهدت ما فعله النازيون باليهود، توصلت إلى استنتاج بأن دولة اليهود يجب أن تكون أكثر إنسانية من أية دولة أخرى، وأن نكون مثالا يحتذي العالم به، فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الأقليات، لكي لا يتكرر ما حدث مرة أخرى."

يبدو أن مثل هذين الاستنتاجين يكمنان في نفس لبيد. ففي الأيام العادية يتجسد لديه الاستنتاج الأول، إلا أننا يجب أن نقول بحقه أنه في اللحظات الحاسمة، حين يتأثر من أعماقه، يتغلب عليه الاستنتاج الثاني.

لقد تحولت "جدة طومي" هذا الأسبوع إلى رمز، ليتها تتحول إلى إشارة تشير إلى الطريق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناخبون في تشاد يدلون بأصواتهم لاختيار رئيس للبلاد


.. مقتل 4 جنود إسرائيليين بقصف لحماس والجيش الإسرائيلي يبدأ قصف




.. الانتخابات الأوروبية: أكثر من نصف الفرنسيين غير مهتمين بها!!


.. تمهيدا لاجتياحها،الجيش الإسرائيلي يقصف رفح.. تفاصيل -عملية ا




.. تهديد الحوثي يطول «المتوسط».. خبراء يشرحون آلية التنفيذ والت