الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زيارة متأخرة للأندلس !

جمعة الحلفي

2004 / 6 / 3
الادب والفن


اختصر العرب والمسلمون كارثة سقوط غرناطة وضياع الأندلس (1492 م) بتلك العبارة الشهيرة،التي أطلقتها السلطانة الكبيرة فاطمة بوجه ابنها (أبو عبد الله الصغير، آخر ملوك الأندلس) عندما رأته يبكي وهما يلقيان النظرة الأخيرة على ملكهما المضاع، من فوق تلة تشرف على المدينة: "أبك كالنساء ملكاً لم تصنه كالرجال!" فقد وجدوا في هذه اللازمة الأثيرة، التي امتلأ بها الأدب العربي، قديمه وجديده، وهو ينوح ويتفجع قروناً عدة على ضياع الأندلس، ضالتهم المنشودة في تبرئة الذات الجماعية وتعليق مسؤولية الكارثة برمتها على عاتق ذلك السلطان المنكود، الذي كان قال يوماً: "لقد ولدتُ في عرش آيل إلى الغروب" لكن أحدا لم يصدق أو لم يصغ لعبارته البليغة تلك، وما بقي راسخاً في الأذهان، على مر القرون، هو عبارة والدته فقط.
وإذ يعكس هذا الوله العربي بإعلاء شأن البلاغة اللغوية ووضعها في مصاف الحقائق التاريخية، جانباً من جوانب الفكر العربي في تفسيره المبتسر للحوادث التاريخية وفي نزوعه الدائب لابتكار كبش الفداء، كمعادل موضوعي للهزائم والانكسارات، فأنه يعكس أيضا حقيقة أن جانباً مهماً من التراث العربي ـ الإسلامي قد دون وشُرح في لحظات عصاب وغضب وتوتر، وفي حمأة اصطفافات ونزاعات طائفية مقيتة. ولهذا يمكن القول أنه ماعدا النبش في معاني وإيحاءات عبارة السلطانة الكبيرة فاطمة، لم يبحث العرب والمسلمون جدياً، إلا نادراً، عن الأسباب والعوامل الموضوعية والتاريخية لضياع الأندلس مكتفين بإلباس "أبو عبد الله الصغير" قميص الهزيمة النكراء. بل أنهم لم يبكوا ضياع دولة الإسلام الكبرى في بغداد بقدر ما بكوا ضياع تلك السلطنة، التي كانت نخرتها، منذ عقود طويلة سبقت سقوطها، نزاعات ملوك الطوائف وحروب الاستنزاف الداخلية وفساد السلاطين، قبل أن يجهز عليها الغزو الخارجي.. فهل لهذه المفارقة صلة بكون الأرض الأندلسية، لم تكن أرضا عربية إنما كانت أرضاً محتلة من قبلهم؟ أم أن لها صلة بذلك الرهان التاريخي بين الإسلام والمسيحية حيث أضاع الإسلام، بانهيار الأندلس، موقعاً إشعاعيا متقدماً خارج الأرض التي قام عليها؟
في مذكراته المخطوطة على الورق القرمزي، يشرح "أبو عبد الله الصغير" بلغة أدبية ساحرة وآسرة، كل ماله صلة بصعود وانهيار الدولة الإسلامية في الأندلس، كما يشرح كيف زُج به من قبل والدته في صراعها مع أبيه السلطان وزوجته القشتالية، رغم عزوفة عن ذلك كله. ثم يجيب على الكثير من الأسئلة، التي بقيت عالقة في الأذهان، حول أسباب وعوامل ذلك الانهيار المدوي في التاريخ العربي ـ الإسلامي، وكلها تؤكد أن ضياع الأندلس، إنما كان نتيجة حتمية أملتها عوامل تاريخية ماكان بوسع أحد، بما في ذلك (أو في المقدمة من ذلك) "أبو عبد الله الصغير" نفسه، أن يمنعه أو يؤجل حصوله، ولهذا فالقول بـ "خيانة" أبو عبد الله الصغير، أو "خوفه وجبنه" وبالتالي تسليمه مفاتيح غرناطة للقشتاليين، لا يعدو أن يكون من باب تفسير التاريخ وفق نظرية "المؤامرة".
وفي كتابه الشيق ( المفكرة الأندلسية) الذي ينوس بين التحقيق الصحفي وأدب الرحلات، يعيدنا رياض نجيب الريس، إلى المعمعة ذاتها، عندما يعود بنا إلى الأندلس، ليتمرى في ذلك التاريخ، يسأل عن رجالاته، يتفحص قصر الحمراء، يتلمس نقوش الجدران، يدقق في فسيفساء القبب وقناطر الأروقة، ثم يتمشى في حدائق الحمراء التاريخية، التي بناها أجداده على صورة جنه، فيذكره هذا كله بما آل أليه العرب والمسلمون منذ سقوط الأندلس. يقول الريّس: "في غرناطة وقفت أحدق في أسواقها وعماراتها وأنا أتساءل عن تلك الصلة، التي تربط مدن الحضارة الإسلامية بتعاليم الماضي العظيمة وبالمنجزات الثقافية النموذجية، التي حققها (…) إن غرناطة تعيدك إلى مجرى التاريخ، الذي واصل السير منذ القرن الخامس عشر، على الأقل، بدون مشاركتنا كعرب وكمسلمين فيه، فتشعر كم أوهنت الضربات التي جاءت من الخارج هذا التراث الجميل العريق، فتكتشف كم أبتعد الإسلام اليوم عن فتوحاته الإنسانية وكم نأى عن ثقافته، فاتسعت الشقة بينه وبين العالم المعاصر".
لكن الريس لم يجد لنا، كما الأجداد من قبله، جواباً شافياً لسؤال ضياع الأندلس، أو لسؤال ضياعنا الراهن، غير عبارة السلطانة الكبيرة، بحق ابنها منكود الحظ والمصير! ربما لأن الريس كان ذاهباً أصلاً للبحث عن كبش الفداء ذاته، عن "أبو عبد الله الصغير. ولهذا يقول: "أتيت قرطبة قادماً من غرناطة، حيث بحثت هناك عن (أبو عبد الله الصغير) آخر ملوك العرب من بني الأحمر، الذي سلم آخر دولة عربية في الأندلس إلى إيزابيلا وفرديناند، ملكي أسبانيا، من دون معركة واحدة، فأسس بذلك مدرسة الذل العربي التي نعيش في كنفها". هذا مع أن الريس مؤمن، كما يقول، بحتمية الدورة التاريخية في حياة الشعوب والأمم، وهو ما يعني الأيمان أيضا بأن انهيار الأندلس، بل انهيار العرب السابق واللاحق والحالي، ماكان إلا نوعاً من انهيار ساحق لأسباب نهضتهم ولقيمهم وأعرافهم، لا يشكل فيه "أبو عبد اله الصغير" وسواه، غير إشارة النحس لتلك الدورة العجيبة. إلا أنه، مع ذلك، لا يقبل بأقل من خنق أبو عبد الله الصغير بيديه! هكذا عندما تسأل راقصات الغجر الريس لماذا يبحث عن أبو عبد الله الصغير بعد هذه القرون، يقول لهن: "أريد أن أخنقه لأنه صاحب هذا الزمان العربي الرديء.. صاحب مأساة التيه العربي".
وهكذا مثلما سمى الأسبان وقفة "أبو عبد الله الصغير" على تلك التلة، وهو يودع الأندلس الضائعة بـ "زفرة العربي الأخيرة" يمكن تسمية المفكرة الأندلسية بـ "زفرة الريس الأخيرة"!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بطريقة سينمائية.. 20 لصاً يقتحمون متجر مجوهرات وينهبونه في د


.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل




.. جوائز -المصري اليوم- في دورتها الأولى.. جائزة أكمل قرطام لأف


.. بايدن طلب الغناء.. قادة مجموعة السبع يحتفلون بعيد ميلاد المس




.. أحمد فهمي عن عصابة الماكس : بحب نوعية الأفلام دي وزمايلي جام