الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في ذكري ثورة اكتوبر السودانية

بابكر عباس الأمين

2009 / 10 / 21
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


ربما لم يكن من الدقة بمكان وصف التغيير الذي حدث في 21 أكتوبر 1964 بالمفردة "ثورة." وذلك لأن هذا المفهوم يتضمن منجزات ونهضة تحدث نتيجة التغيير الإجتماعي والسياسي والثقافي والعلمي, كالثورات الفرنسية والبلشفية والصينية والميجي اليابانية. ولا تعني الثورة مجرد تغيير حاكم أو نظام مع ركود المجتمع, أو الحفاظ علي العلاقات التي كانت سائدة خلال الحكم الذي سبقه. بيد أن هذا لا يعني التقليل من شأن أكتوبر, التي كانت حدثاً فريداً أثار إهتمام العالم - بما فيه الغربي - في حِقبة كان فيها العديد من دول العالم الثالث مستعمرة. وأكدت ثورة اكتوبر عِشق الشعب السوداني للحرية, وإشمئزازه من حُكم الطغاة والإستبداد بكل أشكاله ومُسمياته.

بدلاُ عن سرد تفاصيل كيف, ولماذا حدثت الثورة, وكيف تُوجِت بالنجاح, يُحاول هذا المقال تغطية المسيرة السياسية بعد الثورة. وذلك لأن الحصيلة الناتجة عن التغيير ربما كانت أهم من التغيير, كالمبني الذي هو الجزء المرئي من الأساس والأهم.

شهدت الديمقراطية التي أعقبت ثورة أكتوبر - في البداية - تطوراً عن التي سبقتها, لأنه تمّ إلغاء مجلس الشيوخ, وتخفيض عمر المقترعين من واحد وعشرين إلي ثمانة عشر عاما. كما حصلت المرأة علي حق الإقتراع والترشيح لأول مرة, وكانت فاطمة أحمد أبراهيم أول إمراة برلمانية في الشرق الأوسط. وبعكس الإنتخابات السابقة, فقد بدأ نفوذ القوي التقليدية في الضعف, حيث ظهرت في الساحة السياسية قوي حديثة ممثلة في الحزب الشيوعي والأخوان المسلمين. بالإضافة إلي ظهور الحركات الإقليمية المطلبية, كمؤتمر البجا, وإتحاد جبال النوبة الذي حصل علي تسعة مقاعد.

وشهدت تلك الفترة أيضاً نفوذ وشعبية الحزب الشيوعي بحكم وجوده الفاعل في النقابات, التي كانت عنصراُ أساسياً في نجاح الثورة, وتمثلّ هذا النفوذ في في حصوله علي أحد عشر نائباً. أثار ذلك غِيرة الأخوان المسلمين, فاستثمروا, وفي رواية, إختلقوا تلك الحادثة بإثارة حملة إعلامية وسياسية ضخمة, حشدوا فيها المشاعر الدينية لحل الحزب الشيوعي. وتمكنوا من جر العناصر اليمينية في الحزبين الكبيرين لإجازة تشريع حله. وتمّ حله, ومصادرة ممتلكاته, وطرد نوابه من الجمعية التأسيسة في 1965. ولم يكترث الحزبان الكبيران لمبدأ فصل السلطات وإحترام قرار المحكمة العليا, الذي قضي بعدم دستورية ذلك التشريع, مما أثار سخط السلطة القضائية التي فقدت هيبتها ومكانتها.

وفي تلك الحقبة, بدأ الصادق المهدي مسيرته السياسية بإقصاء محمد أحمد المحجوب من رئاسة الوزارة عند إكماله الثلاثين. أدي ذلك لإنقسام حزب الأمة إلي جناحين أحدهما برئاسته, والثاني بقيادة عمه الإمام الهادي المهدي. وكان سبب الإنقسام أن المهدي إعتقد بضخ دماء شابة في الحزب, وبفصل السلطة السياسية من سلطة الامامة اللتان يجمعهما حاليا. وقد ساهم إنقسام حزب الأمة في عدم إستقرار تلك الفترة لأنه تسبب في تعدد الإئتلافات, الأولي بين جناح الإمام الهادي والحزب الوطني الإتحادي, والثانية بين جناح الصادق والإتحادي, والثالثة بين جناح الإمام والإتحادي الديمقراطي. ودعا حزب الأمة إلي جمهورية رئاسية بدلاً عن النظام البرلماني. وبمبادرة من الصادق المهدي, تمّ إلغاء دوائر الخريجيين في إنتخابات 1968.

وتمّ خلال الفترة الديمقراطية الثانية دمج حزب الشعب الديمقراطي مع الوطن الإتحادي وكونا الحزب الإتحادي الديمقراطي في نهاية 1967, رغم إعتراض عدد من قادة الوطني الإتحادي. ولو لم يتم هذا الدمج بين هذين الحزبين, لتطوّر الوطني الإتحادي إلي حزب يمثل الوسط الحقيقي, ويعمل علي نمو قوي الوسط ويسار الوسط كحزب المؤتمر الهندي, الذي ظلّ عاملاً اساسياً في إستقرار الهند السياسي والإجتماعي منذ إستقلالها عام 1947.

وقد أدي دمج الشعب الديمقراطي مع الوطني الإتحادي إلي ميل الإتحادي الديمقراطي إلي اليمين وتقاربه مع الأخوان المسلمين, مما أضرّ بالحزب وبالنظام السياسي. كما أدي إلي تحجيم العناصر التي تميل إلي العلمانية أوالتحول الإجتماعي في الحزب الإتحادي الجديد. ورغم أن وجود حزبين كبيرين يتبادلان الحكم والمعارضة يؤدي إلي إستقرار الديمقراطية - كما أثبتت التجارب - إلا أن وجود حزبين كبيرين لا يختلفان في التوجه الإجتماعي يكاد أن يكون غير ذي مغزي.

وفي عام 1968, إقترح الأخوان المسلمون دستوراً إسلامياً تقول المادة الثالثة منه بأن الإسلام هو دين الدولة الرسمي, مما يعني إقصاء الأديان الأخري. وقد نسفت هذه المادة أهم بند في مقررات لجنة الإثني عشر لحل مشكلة الجنوب وهي حرية الأديان, رغم أن الأخوان قد وقّعوا علي توصيات تلك اللجنة. وإقترحت المادتان 123 و115 بأن الإسلام هو المصدر الرئيسي للتشريع, ومراجعة القوانين التي تتعارض مع الشريعة. وتحالف جناح الصادق المهدي مع الأخوان المسلمين في هذا المشروع, وركب الركب العناصر الإتحادية ذات التوجًه الإسلامي.

كما إقترح الأخوان المسلمون مادة تحرِّم الإلحاد في بلد به قبائل لا تعرف الله. ولما إتضح لهم أنها غير كافية لإزالة الشيوعية, إقترحوا مادة تنص علي تحريم الشيوعية تحديداً. وخِلاف أنها ضد الحقوق المدنية والدستورية, فهي مادة سخيفة, لأن الشيوعية فكر يتواجد في الذهن, مما يعني عدم إمكانية تحريمه. ولم يكن هدف حسن الترابي من تحريم الشيوعية إنطلاقاً من الحرص علي الإسلام أوالتوحيد, بل لأن الحزب الشيوعي أصبح منافساً له وسط القوي الحديثة. وكان من البدهي أن ينسحب ممثلو الجنوب من لجنة الدستور بعد طرح الدستور الإسلامي.

ويمكن تلخيص عدم الإستقرار السياسي بعد ثورة أكتوبر في تعدد الإئتلافات, وعدم النجاح في وضع دستور دائم, والزج بمشروع الدستور الإسلامي, الذي أدي لإقصاء الجنوبيين والعلمانيين, وحل الحزب الشيوعي, مما مهّد لإنقلاب مايو 1969.

ولا تعني تلك الإخفاقات سؤ النظام الديمقراطي, أو عدم ملائمته للسودان, أو أن يكون مبرراً للإنقلابات العسكرية والأنظمة الشمولية. وذلك لأن رسوخ الممارسة الديمقراطية البريطانية مثلاً, قد جاء بعد قرون بدأت في القرن الثاني عشر. كما أن طبيعة الشعب السوداني تأنف من الحكم الشمولي المتسلط كما أثبت التأريخ. وربما كان أكبر عامل أضرّ بالديمقراطية هو عدم إكمال أي جمعية تأسيسة لدورتها, مما أدي لعدم منح الناخِب فُرصة لتغيير أو تمديد تفويضه لنوابه.

ورغم عدم الإستقرار السياسي فقد تمّت بعض الإنجازات. وتتمثل تلك الإنجازات في توسع السكة حديد الذي شمل خط الرهد - نيالا, والرهد - بابنوسة, وبابنوسة - واو. كما تمّ تعديل الشراكة في مشروع الجزيرة من 40 في المائة للمزارع و60 في المائة للحكومة, لتصبح 40 في المائة للمزارع و40 في المائة للحكومة و20 في المائة للضمان الإجتماعي.

تمّ أيضاً تطوير الشرطة وتطوير وتوسيع التعليم العالي بإنشاء جامعة أم درمان الإسلامية ومعهد الموسيقي والمسرح, ومضاعفة البِعثات والمِنح الدراسية للخارج. وقد تمت إجازة مشروع الأقمار الصناعية الذي بادر به الوزير محمد عبدالجواد, وتوسيع الصناعات التحويلية, وتطوير سودانير وتحديث وتوسيع أسطولها. بدأت أيضاً مشاريع الإعاشة في تمبول وغزالة جاوزت وجبال النوبة. وقد إستحدث الشريف حسين الهندي بند العطالة, وهو مفهوم متقدم جداً في العالم الثالث في ذاك الزمان.

وبعكس كل الأنظمة التي تعاقبت منذ مايو 1969, فقد إتسمت السياسة الخارجية في تلك الفترة بالتوازن رغم وجود الحرب الباردة. ونأت تلك السياسة عن الأحلاف أوالإرتماء في أحضان أي من القوي العظمي أو الإقليمية. وبعكس نظام المُحافظين الجُدد الحالي, لم تُفرّط تلك الحقبة في التراب السوداني. وكانت القيادة حاسمة عندما حشدت الجيش في الجزء الشمالي الشرقي, بعد أن أمر جمال عبدالناصر بتحريك القوات المصرية صوب حلايب, مما أدي إلي تراجعها إلي العمق المصري.

وكان من المتوقع, ومن الطبيعي, أن تستفيد الأحزاب من إخفاقات التجربة الديمقراطية الثانية بعد إزاحة نظام جعفر النميري. إلا أن هذا لم يحدث, بحيث كانت الديمقراطية الثالثة أسوأ من التي سبقتها لعدة أسباب. أولها: هيمنة الميرغني علي الإتحادي الديمقراطي بعد وفاة الأب المؤسس للجمهورية والحزب, إسماعيل الأزهري والكاريزمي الشريف حسين الهندي. أدّت تلك الهيمنة إلي عدم ممارسة الديمقراطية في داخل الحزب - لغياب المؤسسة - مما أدي إلي ضعفه وتشرزمه. ثانيها: كان الإئتلاف أحياناً ينفض بسبب وزير سعي لكشف الفساد كيوسف أبو حريرة. لم يؤدِ ذلك إلي فض الإئتلاف فقط, بل إلي طمع رئيس الوزراء أن يحصل علي سلطات فوق الدستورية بتفويض برلماني, كأنما الأُمم, حينما تواجهها "الأزمات", تحلها بمزيد من الفردية بدلاً عن الجماعية والشوري.

ثالثها: سمح رئيس الوزراء للفئة التي قوّضت الديمقراطية الثانية, وأضرّت بالوحدة الوطنية, وبالنظام المصرفي والإقتصادي وتحويله إلي طفيلي - خلال زواج مصلحتها مع النميري - أن تساهم في الحكم, كأن سيادته لم يدرِ سبب إنتفاض الشعب في أبريل. رابعها: عدم تحلي بعض الحزبيين بالمسئولية, منها ذكر أحد وزراء حزب الأمة: "البلد حقتنا ونحنا أسيادها" كأنها ضيعة مسجّلة بإسمه. ونصرالدين الهادي, القيادي في حزب الأمة الذي ضُبط في حوزته يورانيوم - ثروة قومية - فقال إنه لا تُوجد مادة دستورية تمنع حيازة اليورانيوم! خامسها: تصاعد الحرب في الجنوب بعد مشاركة الجبهة الإسلامية في الحكم. سادسها: بدلاً عن تبني سياسة خارجية متوازنة مؤسسة علي المصالح, كان الخلاف يدب حول هل يتقارب السودان أكثر مع مصر أم مع إيران وليبيا.

لذا كان حتمياً أن يعود السودان يوم 30 يونيو1989 إلي أسوأ مما كان عليه يوم 24 مايو 1969, وأكثر سُوءاً مما كان عليه يوم 20 أكتوبر 1964, عندما أتي المُحافظون الجُدد, الذين خصهم الله بعناية منه "لإنقاذ السودان", وإقامة "المشروع الحضاري" و"تطبيق شرع الله." وقد نجحوا نجاحاً باهراً في تحقيق كل هذه الأهداف في فترة قياسية هي عقدين فقط, بحيث أن التأريخ سيخلّدهم بأحرف من نور.

بيد أنّ القوي السياسية الوحيدة التي إستفادت من التجارب هي القوي الجنوبية. وذلك لأنها تعلمت من الإستهتار بها, ومن نقض العهود, وعدم الوفاء بالوعود. لذا فقد تقدّمت - بعد هزيمة الجيش الحكومي - بأعلي سقف من المطالب وحصلت عليها بضمانات دولية. وهي أعلي مطالب تحصل عليها حركة إقليمية علي نطاق العالم: المشاركة في السلطة المركزية والثروة, وحكم إقليمي مكّنها من بناء مؤسسات دولتها بما فيها الجيش, ثُمّ الإنفصال إن شاءت.

ومع أن هذه فرضية غير متوقعة, ففي حالة فوز نفس الأحزاب والقيادات في الإنتخابات القادمة, فستكرر نفس الممارسات - كما برهنت التجارب - رغم الإنشاء والبلاغة التي سمعناها مؤخراً, خاصة في مؤتمر جوبا. وذلك لإنفصالها عن قضايا الشعب وهمومه الأساسية, وتطلعاته المشروعة, وعدم عملها علي ترسيخ الديمقراطية, فبدلاً عن تطورها ونموها, كانت الثالثة أسوأ من الثانية, وكانت الثانية أسوأ من الأولي.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - افضل ما قراءته
حاتم ( 2012 / 2 / 20 - 14:16 )
هذا المقال يجسد الحالة السياسية فى سوداننا الحبيب ومن افضل ما قراءته فى تاريخ السودان الحديث
لك الشكر

اخر الافلام

.. مفاوضات القاهرة بين الموقف الاسرائيلي وضغط الشارع؟


.. محادثات القاهرة .. حديث عن ضمانات أميركية وتفاصيل عن مقترح ا




.. استمرار التصعيد على حدود لبنان رغم الحديث عن تقدم في المبادر


.. الحوثيون يوسعون رقعة أهدافهم لتطال سفنا متوجهة لموانئ إسرائي




.. تقرير: ارتفاع عوائد النفط الإيرانية يغذي الفوضى في الشرق الأ