الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة موت مقارن .. إلى شهداء المنفى

بدر الدين شنن

2009 / 10 / 22
الادب والفن


لم يكن مفاجأة لي ، أن أجد نفسي ممدداً على الأرض ، بجوار موقف الترام ، الذي كنا ننتظره أنا وزوجتي ، لنعود إلى البيت ، بعد أن تسوقنا حاجاتنا الأسبوعية ، كما نفعل كل سبت ، من الخضار وغيرها .. فقبل قليل أصابني إعياء شديد .. ثم دوار أخل بتوازني .. ثم لم أعد أعي شيئاً ..
المفاجأة ، أنني أحسست بضغط قوي على صدري .. وكأن محاولة تجري لتكسير أضلاعي . كان أحدهم يضغط بكفيه على صدري . وحين لاحظ أنني فتحت عيني .. توقف .. ثم هم أن يضغط مرة أخرى ، لكنه أحجم عن ذلك عندما بدأت أتنفس بعمق .

لحظات وبدأت أكتشف بعض ما حولي . لكنني لم أتعرف على أي من المحتشدين حول جسدي الممددعلى الرصيف ، سوى زوجتي التي كانت تبكي وترتجف وتحرك يديها باتجاهي وباتجاهات عدة وإلى جانبها تقف امرأة تشاركها البكاء . ثم وجدت رجلين يلبسان ألبسة سوداء وصفراء يحيطان بي .. كان أحدهما يسألني مكرراً ، " كيف حالي " ويتكلم بشيء مع زميله . ثم جاء رجل ، يلبس لباساً خاصاً أيضاً ، وجلس بجانبي ، وأخذ يدي ، وكشف عن ذراعي ، وبدأ يستخدم أدوات إ سعافية ، ويحاول هو أيضاً أن يستفسر مني عما أشعر به . لكنني لم أتمكن من النطق ، أو من ا ستخدام يدي لأعبر عن حالتي .

كان ما هو شد من الصداع أو الدوار يسيطر على رأ سي ويسمّره إلى الأرض ، وجسدي كله مشلول الحركة ، كنت أ سمع فقط بعض ما يقال ، وعيناي تشاهدان ما يجري قربي بشكل مشوش . كنت أ سمع أنيناً متواتراً مخنوقاً صادراً عني .. يأتي من أعماق صدري وروحي . وأحسست أني بأمس الحاجة لأن أبكي . لكن نفسي لم تطاوعني ، ورحت أطبق بقوة على أ سناني ، حتى لاتنهار زوجتي أكثر .. ولأحافظ ، إن ا ستفسر البعض عني ، على صورة أكثر احتراماً للمنفي من أجل الحرية . لكن الدموع كادت أن تخذاني .. لقد تسرب بعضها من عيني رغماً عني ، وسالت على الصدغين خطين رفيعين .

لاأدري كم من الوقت مضى ، حتى بدأت أدرك أكثر من قبل ما يجري . جاءت امرأتان .. يبدو أنهما من البيوت المجاورة ، تحمل كل منهما حراماً ، لتغطيتي وحمايتي من البرد . رأيت عدداً من الشباب والصبايا يقدمون قطعاً من ثيابهم لتوضع تحت رأسي .. وقفز أكثر من شاب الحاجز المعدني وسط الشارع ، معرضين أنفسهم للخطر ، عارضين المساعدة بأي شكل كان مطلوباً .

وعندما رفعوني عن الأرض ، ليضعوني على سرير كان إلى جانبي ، وجدت أكثر من سيارة ا سعاف وأكثر من سيارة شرطة واقفة على خط الترام قاطعة للسير .. وجمهرة من الناس في الجهتين من المكان ترقب مايجري عن بعد .

داخل سيارة الإسعاف ، ا ستكمل رجل الإسعاف ما بدأه على الرصيف . وكان كلام يدور بينه وبين زوجتي عماجرى لي وكيف جرى . وبينما كانت سيارة الإسعاف تشق طريقها إلى المشفى ، بدأ وعي يتحسن قليلاً . وبدأت أتفهم ظرفي الذي يكتنفني . وأدركت أنني قد فقدت الحياة لفترة ما .. ثم ’أعدت إليها مرة أخرى . وتذكرت كيف أنني في نهاية إحدى جلسات التحقيق .. التعذيب .. ضربني أحد الجلادين بشيء غليظ على رأ سي وكليتي . وكيف صرخت من الألم صرخة كانت الوحيدة في حياتي بعمقها وحدتها وقوتها . وفي جزء من الثانية قبل الافتراق بين الموت والحياة ابتسمت لأنني بموتي أنتصر على الجلاد . لكنني لم أربح الموت المفرح ، إذ سمعت أحد الجلادين يقول أغرقوه بالماء .
بعد أن أغرقوني بالماء وجدت نفسي أعود إلى الحياة مرة أخرى . ثم جرني إثنان من الجلادين من يدي على الأرض إلى زنزانتي لأكابد فيها احتضاراً جافاً بلا موت .. وليأخذ مفعول التعذيب الوحشي ، الذي صار بديلاً للموت ، دوره بتحرض الآلام في الجسد المرتعش .. وبإثارة التشنج الشبيه بالشلل لليدين والرجلين .. وبا ستنزاف الدم من أحدى الأذنين .

بعد أن وضعوني بغرفة في مقر الإسعاف ، قالت لي زوجتي :
- بعد أن أصابك الدوار وفقدت توازنك ، مددناك على الأرض أنا وامرأة هولندية كانت تنتظر الترام مثلنا . ورحت أصرخ طالبة النجدة . وعلى صراخي جاءت امرأة من الجوار .. لم نتبادل أية كلمات لأنها ايطالية لاتتقن الهولندية . بعد أن نظرت إليك ، ركضت مسرعة إلى عيادة طبيب قريب من المكان وجاءت به إليك . وهو الذي ضغط على صدرك مرات عدة ، حتى أعاد الحركة إلى القلب .. وأعاد التنفس إلى الصدر . وخلال دقائق جاء البوليس أولاً .. ثم جاء الإسعاف .. .
كل المارة الذين لفت انتباههم الحادث .. هولانديون .. هنود .. سورينام .. كثيرون .. أبدوا ا ستعدادهم الصادق للمساعدة ..

على الرغم من أن يوم السبت هو عطلة أ سبوعية ، إلاّ أن حركة شبه آلية من الأطباء والممرضات بدأت تتدوال جسدي .. لتشخيص ما حدث لي . تحليل دم .. تخطيط قلب .. تصوير صدر .. تصوير بآلات حديثة عملاقة .. أ سئلة ذكية دقيقة .. لتعيد جذور الحياة إلى طبيعتها في قلبي وروحي وإنسانيتي . لم يبدو أن هناك حساب لتكلفة مادية أو لجهد ، سوى أن أعيش .. أن تضمن حياتي بأكثر ما يمكن من الضمانات .

سؤال لافت طرحته إحدى موظفات القسم على زوجتي ، أعادني بقفزة سريعة إلى بلدي الأصلي . قالت الموظفة إن الشرطة يسألون عن عنوانكم فهل تسمحين أن أعطيهم إياه . ردت زوجتي بالإيجاب . لكن الموظفة عادت وسألت منوهة أنه سؤال شخصي . سألت عن موطني الأصلي . قالت لها زوجتي إنه من سوريا . قالت الموظفة .. سوريا بلد جميل .. لكن .. للأسف الشديد .. ونظرت إلي بحنو وذهبت ..

وإذ غادرت الموظفة الغرفة تذكرت ، كيف أنهم نقلوني إثر نوبة ( موت عابر ) من السجن إلى المشفى ، هناك طلبت الطبيبة دواء من الحراسة ، التي كانت توجه الرششات نحوي وأنا ممدد على طاولة الإسعاف . فرد أحد الحراس " نحن ليس عندنا أدوية " . قالت الدكتورة ، " إن لم تؤمنوا له الدواء سيموت " . أجابها الرجل الأمني .. " ليمت .. إنه ليس أول ولاآخر كلب يموت عندنا " . تذكرت كيف ذات مرة في المشفى العسكري انتزعوني من سرير العناية المشددة ، وأعادوني رغم اعتراض الأطباء إلى زنزانتي . حتى مات جزء من عضلة القلب .. وا ستعصى على أي عمل جراحي تقديم المساعدة .

في اليوم التالي .. قال لي الطبيب " ليس هناك خطر جدي على حياتك الآن .. كل شيء لديك من أدوية كاف .. وقريباً لك موعد الطبيب المختص " . وعندما شد على يدي مودعاً ، تفاءلت ، أنه مازال أمامي فسحة من الزمن سوف أعيشها .

وانتهت رحلة موت لم يكتمل في المنفى .. لكن ليس كما إنتهت رحلات ( موت عابر ) كانت تحدث لي خلف القضبان . تلك الرحلات التي لم يشأ الجلاد أن يتحمل مسؤوليتها ، فأطلق سراحي من السجن .. بعد أن تكون لديه اليقين ، بتشخيص أطباء جلادين ، أنني على شفا الموت .

وبينما يجمع الأصدقاء أمتعتي استعداداً لمغادرتي المشفى إلى البيت .. كنت أفكر لا إرادياً بالنهايات في السجن والمنفى . جرحتني المقارنة بين موت في السجن وموت في المنفى .. لقد آلمني .. رغم وفاء زوجتي النادر السمو .. ورغم العلاج المتطور الذي حصلت عليه في المنفى .. آلمني موت المنفى أكثر من موت السجن .. لأن موت المنفى ، هوحرمان أبدي من العودة إلى الدار .. وكل ما تعنيه الدار من أرض وأهل ورفاق وأصدقاء ..

وما آلمني حتى أعمق أعماقي .. هو عدم الثقة بالرهان .. على أنني لن أموت مرة أخرى .. ونهائية .. على أحد أرصفة المنفى .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم الحلقة كاملة | حملة هاريس: انتخبونا ولو في السر و فن


.. -أركسترا مزيكا-: احتفاء متجدد بالموسيقى العربية في أوروبا… •




.. هيفاء حسين لـ «الأيام»: فخورة بالتطور الكبير في مهرجان البحر


.. عوام في بحر الكلام | مع جمال بخيت - الشاعر حسن أبو عتمان | ا




.. الرئيس السيسي يشاهد فيلم قصير خلال الجلسة الافتتاحية للمنتدى