الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خارج السرب

صبحي حديدي

2004 / 6 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


لأنه يغرّد خارج السرب في معظم ما يكتب (وكيف لا يفعل هذه الأيام بالذات!)، فإنّ الصحافي الكندي ـ الأمريكي إريك مارغوليس خاطب الأمريكيين بنبرة قاسية قارسة قُدّت من صقيع الحقيقة: ليس ما فعله أبناؤكم في سجن "أبو غريب" جديداً أيها السادة! عودوا إلى تاريخ، بل تواريخ، علاقتكم بالشعوب ما وراء المحيط، واهنأوا بالاً... لا جديد تحت الشمس! ولا تعللوا النفس بآمال كاذبة من النوع الذي يزيّن لكم أنّ أبطال مباذل أبو غريب هم حفنة شاذة لا تمثّل الجيش الأمريكي، ولا الأخلاق الأمريكية، ولا "الحلم الأمريكي" دون سواه... ثمة نظام كامل متكامل يقف خلف ما جرى في "أبو غريب"، يتابع مارغوليس، وذلك النظام هو المتهم الأوّل.
والحال أنّ الرجل يتابع كيل "الصدمات العلاجية"، إذا جاز استخدام هذا التعبير بالطبع، عن طريق إثقال الضمير الأمريكي بالمزيد من المعلومات والتفاصيل التي ينبغي أن تهزّ الجلمود:
ـ الأمريكيون يعتقلون اليوم 15 إلى 20 ألف سجين عراقي أكثر ممّا كان يعتقل صدّام حسين!
ـ أنماط التعذيب التي استُخدمت في "أبو غريب" اقترحها مستشارون إسرائيليون، وهي تستوحي تقنيات التعذيب التي تعتمدها أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين. والمرء في هذا السياق يتذكّر صورة امتنعت "واشنطن بوست" عن نشرها، رغم أنها لا تنطوي على أي نمط من أنماط التعذيب: جندي أمريكي يقف أمام زنزانات أبو غريب وقد شمّر عن ساعده، متفاخراً بالوشم الذي يمثّل نجمة داود والعَلَم الإسرائيلي!
ـ أنماط التعذيب هذه، خصوصاً الجنسية منها، تستهدف إنزال أشدّ العقوبات النفسية بالسجين المسلم بصفة خاصة، خصوصاً حين يُجبر على الكفر أو الارتداد عن عقيدته و الاهتداء القسري إلى ديانة أخرى.
ـ هي أنماط لا تسعى إلى انتزاع المعلومات بقدر ما تستهدف في الجوهر تحطيم إرادة المعتقل عن طريق إهانته جنسياً ومعنوياً. وهي لا تُمارس في العراق فحسب، بل أيضاً في قواعد وسجون عسكرية أمريكية في دييغو غارسيا وأفغانستان ومصر وأمكنة أخرى، فضلاً عن غوانتانامو بالطبع...
وهكذا، ومن جديد، يغرّد إريك مارغوليس خارج السرب لكي يكون تغريده خروجاً صاخباً عن الرأي العام السائد، وانتهاكاً صارخاً لقناعات راسخة رسوخ الجبال، وتسفيهاً بليغاً ومُرّاً لآراء ثقاة العلم في شؤون السياسة والإجتماع والإقتصاد والثقافة. ويحدث مراراً، كما في مثال هذه الأيّام، أن يكون تغريده الشاذّ أقرب إلى جرح مشاعر السواد الأعظم من قرّائه، وربما ارتكاب الخيانة الوطنية العظمى أيضاً.
و آثام هذا الرجل تبدأ من انتقاده الدائم للسياسات الإسرائيلية، وموقفه الحازم ــ السياسي، ولكن الأخلاقي في الجوهر والأساس ــ المؤيّد لحقوق الفلسطينيين، وشجاعته المدهشة في توصيف العنف الإسرائيلي بما يليق بفاشيّة هذا العنف من مفردات وصفات. وهو اليوم يعتبر أنّ خيارات قمع الإنتفاضة، كما اعتمدها رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون بصفة خاصة، تعيد إنتاج سياسات فرنسا أثناء "معركة الجزائر" في الخمسينيات، وسياسات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في فييتنام أثناء أطوار تنفيذ "برنامج العنقاء" السرّي، اللذَين تضمنّا كلاهما ممارسة التعذيب وقتل المدنيين بأعداد كبيرة، واستهدفا فرض حلول سياسية عن طريق سفك الدماء.
الإثم الثاني أنّ مارغوليس يتابع القضايا العربية أوّلاً بأوّل، ومن منظار ينشقّ تماماً عن الأسلوب الأمريكي المعتاد في التغطية الواسعة سيئة الطويّة التي تضرب عشرات العصافير بحجر واحد، أو التغطية المحدودة المحايدة البلهاء التي لا تسعي إلى ما هو أكثر من رفع العتب. وعلى سبيل المثال انفرد مارغوليس بموقف متميّز في إدانة ما جرى في سورية بعد وفاة حافظ الأسد وتوريث بشار وتعديل الدستور بطريقة مسرحية أتاحت انتخاب الأخير رئيساً للجمهورية، أو "تتويجه سلطاناً على الجمهورية" كما عبّر مارغوليس في مقالة بعنوان "المجد للسلطان الجديد".
الإثم الثالث أنه متعاطف مع الإسلام والمسلمين والعرب، وللمرء أن يتخيّل ما يمكن أن يجلبه عليه ذلك التعاطف من غضب وغيظ وتشكيك وتشنيع. وفي أيامنا هذه بالذات، أيام الإمبراطورية الأمريكية، تبدو آراء مارغوليس مثل حجر ثقيل يحرّك المياه الآسنة في مستنقعات الرأي العام السائد هنا وهناك في الولايات المتحدة وأرجاء الغرب عموماً. ذلك لأنّ هذه الأيّام لا تحتمل الكثير من الإنشقاق عن المألوف، ليس فقط لأنّ مكارثية غير مباشرة أخذت تترسّخ رويداً رويداً في الخفاء، بل لأنّ المشاعر الوطنية التي تُطلق علانية لا تبدو البتة وكأنها تسمح بالكثير من الإختلاف، أو تسامح عند الإختلاف.
والشيء بالشيء يُذكر، أو هو يذكّر بالنقيض في أقلّ تقدير. ولهذا فإنّ آراء ومواقف إريك مارغوليس وأمثاله تحيل المرء إلى كتابات من طراز آخر، سائدة مهيمنة بائسة سقيمة مطبّلة مزمّرة، يوقّعها المعلّق ـ الأفاق والمحلّل ـ النصّاب وكاتب الافتتاحيات ـ البوق، والمفكّر ـ البهلوان. غنيّ عن القول إننا، نحن العرب، لا يُشقّ لنا غبار في إنتاج البضائع السابقة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. رهان ماكرون بحل البرلمان وانتخاب غيره أصبح على المحك بعد نتا


.. نتنياهو: سنواصل الحرب على غزة حتى هزيمة حماس بشكل كامل وإطلا




.. تساؤلات بشأن استمرار بايدن بالسباق الرئاسي بعد أداءه الضعيف


.. نتائج أولية.. الغزواني يفوز بفترة جديدة بانتخابات موريتانيا|




.. وزير الدفاع الإسرائيلي: سنواصل الحرب حتى تعجز حماس عن إعادة