الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الخبز- بين خميرة الفن وشحّ الواقع في معرض بالقاهرة

يوسف ليمود

2009 / 10 / 23
الادب والفن


- الشعب جائع وليس ثمة خبز!
- ولم لا يأكلون البسكويت؟
إنها الجملة الشهيرة التي قالتها الملكة ماري أنطوانيت. هل نتمثلها خارجة من فم زوجة رئيس عربي يتضور شعبه جوعاً اليوم، وقد تُلُفّظ بما يقاربها سخرية: ألا يحمدون الله على أننا نحكمهم؟! وكأن الحاكم وأسرته هبطوا من السماء بأجنحة ولم يتدحرجوا الى الدنيا من صلب الشعب!

لا علاقة مباشرة بين تلكم السطور أعلاه (لم أستطع حذفها) وبين ما اكتب عنه هنا وهو معرض فني، الخبزُ عنوانه وموضوعه، إذ في الأخير يبقى الواقع الاجتماعي السياسي واقعاً اجتماعياً سياسياً، والفني فنياً، رغم الخيوط الدقيقة التي تربط الفني بالواقع، والتي تلتمع فيها ما يبثه الفنان من لسعات روحه الجمالية. في هذا المعرض الذي افتتح السبت، 10 اكتوبر ويستمر حتى 7 نوفمبر، فى قاعة (درب 17 - 18)، المركز الثقافي التى أنشأه ويديره الفنان معتز نصر الدين، والذي دخل نشاطه الفني عامه الثاني، مولياً وجهه قِبَلَ المعاصر، بحراكه وتعددية ميدياه، يقدم اثنا عشر فناناً اثنتا عشرة رؤية منسولة من عجين الفكرة: الخبز. الخبز علف يومي لمليارات البشر، يخرج من الأرض، يدخل الجسم، تُمتَص عصارته وتخرج فضلاته سماداً إلى الأرض في دروة لن تنتهي الا بتوقف الأرض عن دورانها أو بانقراض البشر. الخبز، معنىً، يحيل على الأرض، العرَق، الدم، التنفس، الروح، الحياة؛ ومن منظار أسود، الخبز يعني الجوع، الفقر، القشف، الاستغلال... كما أنه يمكن أن يكون رمز أو واجهة الشعوب: (الباجيت) في فرنسا، (الشاباتي) في الهند، (الرغيف البلدي) في مصر... (شخصياً، في زياراتي إلى بلدي الحبيب، لم أشعر مرة أنني وصلت إلى مصر إلا بعد أن تقع عيني على الرغيف البلدي الذي شكلُه ورائحته يختصران تاريخ هذا البلد وحاضره).

قبل ستين عاما، رسم الفنان المصري الذي رحل في شبابه، عبد الهادي الجزار، لوحة زيتية متوسطة الحجم مستطيلة، يصطف فيها تسعة أشخاص غاية في البؤس والجوع والتشرد، أمام كل منهم، على الأرض، صحن معدني فارغ يحيل على الشحاذة إن لم يكن هو الشحاذة. "الكورَس الشعبي" اسمها، وبسببها سُجن الجزار لتصويره الواقع الذي جرح عين الملك. في معرضنا هذا، تناول كاتب هذه السطور شخوصَ لوحة الجزار ورسمهم بالفحم على حائط كبير (أربعة أمتار في ارتفاع متر ونصف المتر)، متخلصاً من اللون والبعد الثالث والصحون والتفاصيل الزائدة عن حاجة تجهيزٍ فراغي، وفرشتُ أمامهم مستطيلاً كبيراً من كسارات وبقايا الخبز القديم المتعفن (يُجمع من المطاعم ليقدَّم للبهائم)، فانبجست في المكان طاقة تعبيرية مصدرها التفاعل الحدسي بين عنصريْ الإنستليشن: الرسم بالأسود على الحائط (المريد)، والخبز على الأرض (الشيء المراد). هذان العنصران مفصولان أحدهما عن الآخر بحكم الخامة والتنفيذ: أشباح على الحائط، وخبز على الأرض. المسافة التي بينهما وهمية في حيز العمل، لكنها واقعية في حيز الواقع. س: لماذا تناولتُ بؤساء لوحة الجزار ولم أرسم شخوصاً من واقع الحاضر؟ ج: أنجز الجزار لوحته سنة 1948، أي في نهايات الحكم الملكي الاستبداي، حين أتواصل اليوم مع عمل فنان أصيل انشغل بالحياة الشعبية مثل الجزار، فكأن هسيس سؤال يتسرب من هذا التواصل وهذا التناول الفني المعاصر: ما الذي تغير في منظر الكورس الشعبي بعد كل هذه السنين؟ لن يبالغ من يقول إن المنظر ازداد شناعة وبؤساً، حاسباً استفحال الظلامية والشعوذة والارتداد المريع إلى الايمان بالخرافة وكل ألوان الدجل. والنتيجة حاصلة: الوقوف في طابور الخبز لم يعد مجرد انتظار في الوقت، بل قتال يسقط فيه الأكثر هزالاً. هذا ما حدا بأيمن السمري إلى أن يكتب في واحدة من لوحاته الثلاث المتوسطة الحجم، بأحرف متقطعة (إلى أول شهيد سقط في طابور الخبز حدث هذا في أرض مصر)، إحالةً على من سقطوا إعياءً أو عراكاً في أزمة الخبز التي عصفت بالشعب قبل أقل من عام في 2008). كعادته استخدم السمري الكتابة عنصراً بصرياً إلى جانب أشكاله الخطية التي يستلهمها من ظله هو نفسه، أو تفصيلة منه، كشكل يدٍ أو ذراع، معكوساً على السطح الذي يعمل عليه والذي يتمثّل طلاء جدران البيوت الخارجية لأهل الريف، في مساحتين مجردتين بملمسٍ لوني كأنه الجير.

مِن تمثّل طلاء الجدران في السطح، إلى تمثل الرغيف في الحجر، قدّم ناثان دوس خمسة أرغفة من حجر الكوارتز، تكاد العين، لولا الحجم المضاعف أربع مرات، لا تفرّق بينه وبين صورة الرغيف البلدي، بكل ما فيه من بقع وحروق وانبعاجات وتضاريس. الاهتزاز الفني في هذا العمل يأتي من المفارقة بين طراوة الرغيف في الواقع (رغم أنه عرضة للجفاف)، وبين صلابة الحجر وصلادته، ناهيك عن مفارقة وزن كليهما. قريبا من هذا الحس، رغم اختلاف الوسيط، صوّر محمد خليفة الرغيف فوتوغرافياً بحجم كبير، وباستخدام الفوتوشوب، قام بالعمل على البقع المحروقة على السطح جاعلاً منها مايشبه القارة الافريقية، في إحالة بليغة على جوع واحتراق هذه القارة، بكلمة واحدة.
في خمس لوحات ثنائية متوسطة الحجم، وسبع لوحات صغيرة، أرجعت ياسمين سليمان الخبز إلى عنصره الأوّلي: القمح ونخالتة (الرَّدَّة)، استخدمتهما خامةً على قماش لوحاتها في تشكيلات عمودية غالباً، وأفقية أحياناً، بين الهندسي الذي يحيل على الثابت في الموضوع وهو الاستهلاك، والحسّ العفوي الذي يكاد يكون عضوياً ويحيل على الطبيعة والأرض. بين ذهبي التفتّح وأسود الاحتراق. تمنيت لو أنها أحرقت القمح في المساحات السوداء بدلا من طلائه بالدهان!
بلونٍ يشبه نخالة القمح وملمسه، نفّذ هشام الزيني لوحتين من الكولاج متوسطتي الحجم، احداهما مدّورة والأخرى مربّعة تتوسّطها دائرة تشبه الرغيف شكلاً وحجماً. ورغم أنهما يمكن أن يُنظر إليهما، في سياق عرضٍ آخر، كعملين تجريديين مشبّعين بحسٍّ زخرفي شعبي، إلا أنهما، في هذا السياق، يستقطبان الذهن في دائرة موضوع المعرض، بتعبير ناجح وحسٍّ رقيق.

بعدسة زووم غير مركزية، أي شبه مهزوزة، صورت شيماء عزيز،، سطح الخبز ولبابته الداخلية في اثنتي عشرة صورة أصغر من المتوسط، ثم رسمت، بالرمادي، شخوصها النحيفة العارية التي تفاعلت حركاتها مع تضاريس السطح تحتها، فكأنها شخوص سابحة في فضاءٍ كونيٍّ حروقُ الرغيف فيه بدت وكأنها ثقوب سوداء ومجرات والتماعات شموس مبصومة بوجود بشري خفيف لا يخلو من حس هزلي عابر. في حين تعامل عاطف أحمد مع تقنية سطحٍ هو بين الكولاج والفوتوغرافيا، في لوحة كبيرة تصور امرأتين من الشعب من ظهرهما تقول هيئتهما الخبز، وإن بشكل غير مباشر. كذلك لوحتان كبيرتا الحجم لخالد سرور يصوران بواقعية بشراً كما لو في السوق، حددت الخطوط السوداء العريضه اطارهم، وملأت الألوان الصريحة تفاصيل شكلهم، في حس يقترب من التناول اللوني لفناني البوب.

أما الفيديو، تعامل ثلاثة فنانين مع الموضوع من خلاله وسيطاً: معتز نصر الدين صوّر رغيف الخبز داخل الفرن وهو ينتفخ بحرارة النار، ثم، بحركة تقنية في آلية تقطيع الصورة وتحريكها، يعود ويهبط ثم ينتفخ ثانية وهكذا؛ مع صعود وهبوط سطح الرغيف، نسمع حشرجة صوت آدمي يشهق ويزفر، وكأن الصوت صادر عن الرغيف نفسه، في تعبير مفتوح على طرفَيْ عصا أحدها حياة والآخر موت. الفيديو الثاني لإيناس صادق، فيه استخدام مماثل لمغايرة الصوت مع الصورة، لكنهما يلتقيان في التعبير الساخر، الصورة: تفاصيل السيطرة على الحريق الهائل الذي التهم مجلس الشورى المصري مؤخراً، والصوت: حوار ضاحك لممثليْن في مسرحية كوميدية يتلاعبان فيه بالألفاظ، فيما يسمى بالعامية المصرية (القافية)، يصف أحدهما للآخر كيف نسي الرغيف في الفرن فاحترق... المعنى سخريتُه واضحة ولاذعة، في إحالته على المسرحيات الهزلية العبثية التي تدور في اجتماعات مجلسي الشعب والشورى، هذا غير مهزلة الحريق نفسه الذي التهم مبنى المجلس، ناهيك عن الاحتراق اليومي المجازي للشعب. الفيديو الأخير هو عمل تفاعلي لإيما بناني، رصّت فيه صفاً من الأرغفة على طاولة تحت يد المشاهد، وأمامه شاشة تعرض منظراً من تفاصيل الواقع اليومي، ما إن يلمس المشاهد الرغيف حتى يتحول المنظر في الشاشة إلى آخرَ يعكس اختناقاً أو مفارقةً أو تفصيلةً من أشلاء واقعٍ انهار بالفعل.

يوسف ليمود
النهار اللبنانية









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى