الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن الكتابة والحلم والفراغات التي لا تنتظر من يملؤها إلا بوردة أو برقصة شغف

فاطمة الشيدي

2009 / 10 / 25
الادب والفن


كثيرا ما يسألك أحدهم لماذا تكتب؟ وكثيرا ما نتردد في الإجابة! في الغالب نكتب لأننا نريد أن نكتب، وبهذا فالكتابة هي خيار الكائن الهش الإرادي، فنحن نكتب (ربما) لأن الكتابة هي الأكثر خفة وإرادة، ولأن الأشياء الأخرى أكثر قدرية مما نحتمل، وأكثر رعونة مما نطيق.
ولكن أيضا! الكتابة ليست خيارا سهلا، فليست ممكنة كلما رغبنا بها، فقد تأتي بسرعة، وقد تتمنع عمرا كاملا كما يحلو لها. وقد تمنحك كل العشق والفرح والحلم، كأن تهبك أصابعها الطويلة لتعبر النهر بمحاذاة حلم جميل، أو تحك مساحاتك الهشة بأظافرها الناعمة، وتلاطف قلبك المبلل بالوجع بدلال اللغة ومطر الكلمات، فتترك فيه آثار حضورها العذب المستحيل على الغياب. ولكنها أيضا! كثيرا ما تأتي وجعا فتقبض أصابعها على روحك الغارقة في الوجع فتشهق بها حتى الرعاف أو الموت، أو تغرس أظافرها الحادة في جرحك فتوسعه خدشا، وتأكل من خبزك القليل المعّد للفرح والنشوة، وتطالبك بطقوس الدمع ما حلا لحزنها البهيج. وقد تقرضك طبولها وصلواتها ما شاء لها الغنج حتى إذا اشتهيت التوغل في مجاهلها القصية، أفلتت قبضتها العصية وحزمت صرتها نحو ضفة أخرى وعوالم لا قبل لضعفك بالسير نحوها.
فتأتي مراوغة في تشكلها بين غجرية تغرقك في محيط ذؤابات شعرها الكستنائي، وطفلة تقضم أصابعك بعد كل قطعة حلوى، وعجوز تشفّعك في بكاء موتاها ونبش قبورها التي لا تعد، ومفجوعة بحبيب في صباها العذب، وأي قلب يحتمل كل هذا التناقض والوجع!
وهي أيضا ليست الأشهى والأجمل، فأن تعيش الحياة والحب والحلم، وربما حتى الحزن والفقد، والوجد والحنين أجمل وأشهى وأسهل من أن تحوّل كل هذا إلى حالة من الشعور المتصاعد، والمخطط له سلفا ليصبح مادة كتابية، وتحوّل مشاعرك إلى رموز وحروف مكتوبة. الكتابة هي المستحيل المتحقق في صورة جسد، الجسد الحي واللامرئي معا، والكلمة هي الشيء الأكثر تجريدا، والشعر هو اللغة الأكثر ذهنية ولا محسوسية.
فلماذا نكتب إذن؟! يعيد السؤال ذاته!
نكتب لنوازن الخطوات التي على وشك الانزلاق، والمتهادية بحذر على الأسطح المائلة، و(كل الأسطح مائلة).
نكتب لنرتقى بالحياة من الهش للصعب، ومن الممكن للمستحيل، ومن المحسوس للمجرد، ومن الواضح للغامض، ومن الفرح للحزن، ومن الحضور للفقد، ومن الحقيقي للذهني. نكتب لننظر للأشياء من الأعلى للأسفل، ولنتعاطى معها من الأعقد للأبسط، ومن الأشمل للجزئي، إنها القراءة المقلوبة للأشياء، والحالة المغايرة للواقع.
نكتب لنعرف! وما أصعب تفنيد الأشياء الموزعة بين فوضى العدم واللاشيء، ووجوه الحقيقة المتعددة والقاسية والغائبة، ما أصعب البحث عن حقيقة الحقيقة، وخلاصة الخلاص، والفكرة الناصعة للهرب بها من واقع مريض وحالات ميتة كي لا تبيعنا الصروف في مزاداتها الرخيصة، وتهدهدنا المراجيح في تأرجحها الصامت و الميت، حين ترتفع درجات الحرارة في ذاكرة الجمال فنمرض بالقبح، وتعترينا دهشة البدايات، ويرتفع عواء الأسئلة، وتنخفض ساعات الجزع حتى الموت بلا دهشة تليق به، وبعبورنا المضمّخ بالحيرة المهلكة. نكتب لنحتمي بدهشة الكتابة، تلك الطاقة الحرارية التي تحرر الحقيقي منا من هيمنة اللزوجة التي تسربل الكائنات الجامدة، وتمد عفونتها عميقا نحو بؤرة اللب، فيغدو كل شيء متصلبا، أو بسيطا وذو وجهة واحدة غير صالحة للقراءات الأكثر تأويلا من قراءة مباشرة.
نكتب لندرب أرواحنا على الحلم، كي لا يضمر داخلنا كأي حاسة إضافية، أو غير مستخدمة، لنمارس حالة التمرد الصامتة واللذيذة على السائد والثابت، لينبت فينا ما يشبه أقداما إضافية، تتناسل في الوعي لتهب المبدع قدرة على المشي الأسرع في الفراغات التي لا تنتظر من يملؤها إلا بوردة أو برقصة شغف، المشي المؤسس لبراءة اختراع في عالم يشرع غرابيله بسطوع فج، وضمور وقح لتأسيس معاييره العامة وأحكامه الكليّة، فتكون الكتابة هي الأجنحة التي تمنحنا الثبات في مايشبه الهزة الكونية والصدمة العدمية التي أصابت كل شيء بالصدع.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب