الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكابة ( الخنجر )

بديع الآلوسي

2009 / 10 / 25
الادب والفن


- من منا يكره الصيد .

تناغمت روحه باغنية الغجر التي تقول : آخر خيوط النهار تبث في الروح رغوة الطمأنينة.. الشفق الدامي بعنفوانه يثير الدهشة... غبار الرغبات يهيج الرؤية لأكتشاف نجمة الأحلام .

بهذه الهواجس الطيبة عاد نواف العريان محملا ً بأسرار عجيبة من براري الصيد المحفوفة برائحة الصراع والأثاره والترقب . تقاطعت نفسه مع هاجس الربح والخسارة متذكرا ً كلمات جده .

- الصيد لذة وذكريات وقسمة .

تسلل الى كوخه الطيني المليء بالجلود والريش والفخاخ ،أحس بارهاق البرد الذي عبث بعظامه ، قبل ان يفكر بأشعال النار.. اراد ان يعلق الخنجر في مكانه المعتاد في زاوية اسرار الموتى . ألم َ به الأستغراب حين أكتشف ان ا لخنجر في غير محله . أنصرف بهدوء ظاهري ينبش حاجات الصيد ، بعد ساعه من البحث المضني تيقن انه قد أضاعه في مكان ما ... اصيب بالصدمه ، لتلفه خيوط ألأسف والحيرة .

- لا أحد يعرف كم هو عزيز على قلبي .

كل ذلك سَربَ الى قلبه قشعريرة خرساء.

- لكن اين اضعته ياالاهي ؟

قالت زوجته المتشحة بالسواد : حان وقت العشاء .

ألحزن الثقيل ادخله في فراغ الصمت ... لفه ضجيج الاسى ... حاول ان يهرب من نفسه .. أوقد النار وأضاء الفانوس ... شروده المطعم بالاسى صار يحاصره .. لتتدحرج الكلمات بهمس يشبه البكاء.

- كيف ساجده بذاكرتي المنخورة.

حاول أن يتحلى بالصبر.. صورة الخنجر صارت تحفر في مخيلته المتوهجة ظمأ ً مقلقا ًً وحارقا .ً اليأس بمفرداته الغامضة اعادت ذكرياته الى جملة الاولى التي سمعها من الخنجر : اسطورة سيدي , اسطورتي .

بعد ان الم الجوع بالزوجة بادرت الى القول : عليك ان تهدأ ..وتفكر بعد ذلك .

سمع صدى يشبه الموج قال الخنجر : تكمن في قلبي الاضداد .

هاجت روحه .. قرر ان يعود الى استراحة دروب الله ، لكن وحشة الظلام ثبطت من عزيمته .

- هل آتي لك بالعشاء ؟ .

- لن أأكل حتى اعثر عليه .

بدأت الكابة والخواء يعصفان بمزاجه .. لم يعد يفهم تواصل حياته بدونه .

تدثر بعبائة الصوف .. انكب على مراجعة تفاصيل رحلته بروية ، محاولا ان يتذكر اخر مرة استخدم فيها الخنجر .. بصيص الفانوس اضاء في ذاكرته صوراً متعاقبة .

- نعم .. نعم .. استخدمته في قطع عرانيس الذرة .

هذه الاشراقه الصغيره بثت في رماد روحه نشوة الفرح .

أراد ان يقول لزوجته ما تغلغل في رأسه من افكار خاطفة عابرة، اعاد قراءة جروحه التى تصرخ : فقدان الخنجر او موت انسان عزيز له نفس الوقع على قلبي .

نباح الكلاب الحذرة ازداد شراسة ، رؤيتها للاشباح القادمة اهاج غرائزها ... لم يعر نواف اهتماما .. داهمه احساس إن الشياطين قد بدأت تلعق بدمائه .

قالت الزوجة : حين نفقد اشياءنا نشعر بمعزتها .

... كل ذلك حث َ قواه للخروج ومواجهة الغرباء العابرين ، تساءل في خلده : من سياتي في هذه الليله المحملة بالمرارة .

تناهى الى سمعه همهمات تحاور الكلاب لتهدىء من روعها . دفعه الفضول الى مد عنقه من الكوة .

- الاخرون يخرجوننا من العزلة .

فجأة ًدخل عزام الاعرج بضحكته النحاسية مصطحبا ً معه أبنه ذا السنين العشر, صارخا : هذه ليست كلاب انها ضباع .

نواف العريان يعرف ان البشر الطيبين كالصيد الوافر , ومنهم الثقيل كاللعنة الماحقة , لكن تقييمه للضيف القادم تمثل بنعته بالرجل الرمادي الذي بلا هوس.

جلسوا في خمول , كان الزمن ينساب بلا مبالاة , حلق حوله ضجيج الفاجعة , غمغم : آه لو لو نستطيع ان نرجع الزمن الى الوراء .

شعر ان وجود عزام سوف لا يساعده على ازاحة ثقل المصاب المطعم بالوحشة والخسارة والخوف , رغم ذلك حاول ان ينهض في روحه دوامات الانفراج .

حينها ردد في خلده :الحماقة ان نزيد من خساراتنا .

بعد ان تجاذب اطراف الحديث , اعترف لعزام بما الم َ به من ضياع .

- لا تتصور كم اشعر بالخذلان ......

- لكن هل هي المرة الأولى التي .......؟

- أضعت اشياء قليلة في حياتي ... حينها يصيبني البرد والحزن وتتلاشى غبطة روحي .

- لا تعكر مزاجك .... الصباح رباح .

- كيف لي ان انسى خنجري الذي رافقني في كل رحلاتي ، لا اعرف هل سيغفر لي ؟ .

همس الخنجر : انا واضح ، لا احب الملل أو الأهمال .

ظل عزام يثرثر بأمور جانبية ، لم يكتشف بعد وطأت الحدث في قلب نواف الحزين.

أتت الزوجة بالشاي للضيوف ....جلست بعيدا ً كعادتها قريبا ً من الموقد ، محاولة الأصغاء ، عسى ان تقبض على ما سيقرره الرجلان .

اراد الضيف ان يلطف الأجواء بمزاحه المسكون بنوع من الدعابة الخبيثة .

- أنتبهي ، الرجل الذي يضيع سلاحه اليوم ، يحتمل ان يفقد زوجته غدا ً .

حدست الزوجه أن في مزاحه نوع من المرارة .

لتقول بأسى : اردنا ان تكون لنا عونا ً ....................

تذكر عريان ما همس به الخنجر : صراع الموت والحياة يلف معدني .

بدأ يستشف بلادة ورتابة ألأسئله التي صار يطلقها ضيفه : اين المشكله ؟ .

هاجس خفي وغريب اعتصر قلبه لكنه رد :المشكله ان خنجري القديم جزء مني .

- إنسه ..... تحصل على راحة البال .

-هل لك ان تنسلخ عن ذكرياتك ؟ .

- حياتنا مجموعة من الخسارات .....أليس كذلك ؟ .

أثقلته تلك الأجوبه التي تلوثت بالامبالات ، التي كادت ان تدفعه الى تفجير البكاء المكتوم . تجلد بالتماسك ، والأمل رغم فجيعة الأنهزام .

لم يستوعب عزام جدوى الصراع ، بقى مستغربا ً إن صاحب الخجر يناحر الموت ، ويغرق نفسه في وحول الجنون بسبب سلاح تافه .

أستباحت رأسه فكرة أعتقد إنها جزء من الحل

.- سأهديك خنجرا ً جديدا ً .

- لكن خنجرك الملون ، هل فيه عبق الموتى .

وجال في خلده : لا شيء أعظم من العثور على ما فقدنا .

بدأ عزام يفهم الموقف بوضوح تدريجي . أنتابه نوع من الحرج ، قطع الصمت الذي يسحق العظام مستفسرا ً: من أي سوق أشتريت الخنجر؟ .

- أنه هدية جدي قبل وفاته .

التفت الى الصبي وبصوت مشحون بالحسره قال له :هل عرفت لماذا انا محاصر بالهم ؟ .

هز رأسه وتعثرت الكلمات لكنه رد باصرار واضح : انه لم يضع يا عم .

نشرت هذه العبارة الطيبة الأنتصار في روحه ، لتهدأ سريرته ... صار الحديث اكثر عذوبة ، تبادلا الذكريات المتشابكة ، مشاعرهم التي لفتها الطمأنينه تراقصت مع الملائكه التي تحف بالمكان ، حاولا الأجابة عن ألأسئلة المقلقة ، وحين لامسا الجوهري من الحلم شعرا بدفء المسرات ، عرجا على اهم الحكايات التي تخص الخنجر وكيف ان اهالي البادية الشرقية قد نسوا الجد الأعلى لنواف العريان لكن ذاكرتهم احتفظت بحكاية الأمير الذي قطع رأسه بذلك الخنجر .

في تلك الأمسيه تعلم الصبي ماذا يعني وجع الخساره ، وماذا يعني الأمل .

رغم احساس عزام ان كلماته ليس لها من صدى ، لكنه ردد : ما فائدة الذكريات الميته .

هذه العبارة الجارحه ايقظت في روح نواف مواجع جديدة ، استفاق كالموتى مراجعا ً سطوة الزمن ، أخذته لذه الأنتقام ...وقبل ان يذر الرماد في عيون عزام الماكرتين ، تدخلت الزوجة لقطع دابر مشادة عمياء

.- يا لوقاحة عينيك ...كفى ...كفى .

وجه الصبي احتقن بالخجل،اراد الزوج ان يدافع عن سلاحة وأرثه ...تسربت الفوضى الى روحه التي تبحث عن فرج ، اثقلته الخيبه وشعر ان صانع المطر نأى عنه بعيدا ً .

ترآى له ان الخنجر يريد ان يهمس له بشيء محدد ، حين أطال ألأصغاء سمع كلمات ممتلئه بالدم الساخن .

- مزاجي احمر .. لكني لا أتألق سوى بالمحبة .

عادت دوامات الشتاء وتأملاتها تغرق الأحياء بلذه أنستهم ثقل الحياة والموت ، وطردت عن وجوههم بشاعة ايامهم الخالية من معنى .

قال الضيف : أنا لا اريد ان ازعجك .

ذلك الصوت المسالم أعاد الحديث الى فضاءات الراحة التي تنبع من غبش الطمأنينة ،

ضحك نواف ضحكته الطفولية الحالمة .

- تذكر يا عزام إن لخنجري روح حيه .

- لم اسمع بحياتي كلاما ً بهذا الغموض .

- قد لا تصدق إذن إن خنجري يسمع ويتكلم .

- بدأت تشطح بأحلام غريبه يا نواف ، عليك ان لا تصرح بذلك امام الغرباء .

راودت نواف العريان مشاعر متناقضة لكبح قدسية احلامه التي امتزجت بالنذور والنبل والكرامات . حينها داهمته الوحده بأشاراتها المريرة والتي امتزجت بهواجس العزلة المقرونة بالوهم ، لم يعد قادرا ًعلى فهم الأنفعالات المثيرة للبشر الذين يحيطون به ،فراسته الفطرية تجعله اكثر حذرا ً ،صار مع الوقت ينزف ألما ًمقرفا ً وهو يرى البشر قد تلاشى إعتزازهم بجمرات الذكرى ، لتنفرط بهجتهم الداخلية تباعا ً .

ردد في خلده : شيء مؤلم ان يتحول العالم الى زيف .

بخمول متثائب عاد عزام يفيض بنصائحه.

- عليك ان تنساه لتوقف ألمك .

التفت نواف الى الصبي وباح له : الخنجر يغدر بصاحبه ، أخاف ان يشي بأسراري .

في هذه اللحظات الحرجة ، كان عزام غير مكترث لهذا الحديث المتداعي ،متعجبا ً من هوس الجنون الغريب الذي ألقى ظلاله على وجه وعقل جليسه ، أطال النظر الى الزوجة التي لفها النعاس الدافىء .

- عليك ان ترتاح ... وتنام ..هذا ما أنت بحاجة اليه .

- سوف أرتاح حين ......

دخل نواف في أغفاءة لذيذه ، هكذا حين هرب من نفسه إنهالت عليه الأحاسيس أللامتناهية بحضورها المتدفق ، هذا التراخي الهانىء جعل ذهنه اكثر صفاء ً وحضورا ً .

جاء صوت الخنجر واضحا ً، متألما ً : جذوري تحيا بالذاكرة .

- نعم ...نعم ، تركته قرب صخرة الدراويش .

بينما عزام يهم بالحديث عن إحتمالات طلاقه من زوجته الثانية ..إنتابته نوبة سعال .

غمرت العريان فرحة لا توصف توجها بالقول : انتهت جلستنا يا وجوه الخير .

- ماذا تقصد ؟

أنفرجت اساريره ... لم يعد يبالي بالظلام والغبار والبرد ، خرج عن طوره حين أتاه صوت الخنجر : عزائي حين تتبادلني الأيادي وليس الألسن .

- الليل غدار يا نواف .

قالت الزوجه : تعوذ الشيطان يا .........

وقف في وسط الكوخ متأملا ً الفراغ الموحش لخنجره الذي قال له : أشارك في العرس واليتم .

نفض اوجاع التردد عن قلبه ..أشرقت روحه بأبتسامة ملونة ، تلثم بكوفيته العتيقه ، حمل بندقيته ، تاركا ً خلفه آثار غياب يشبه الأنتحار المفاجىء .

صارخا ً، مرددا ً آخر همسات خنجره : جذوري تحيا بالأنتصار على الخوف الأجوف .

حث الخطى مندهشا ً من إنحسار الغبار ، متغمدا ًليل المفاجآت المقمرة .

فاضت روح الصبي بالحلم الذي يشبه صلوات العيد ، ركض وراءه كالمسحور ، صارخا ًفي وحشة السكون .

- أنتظرني يا عم سأتي معك .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال