الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ايديولوجيا العنف.. تشريح البعث-االفصل الثاني-الحلقة الاولى

نبيل ياسين

2009 / 10 / 27
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق


محاولة للعدالة والعفو
ايديولوجيا العنف.. تشريح البعث

الفصل الثاني
الحلقة الاولى

1-ركوب الحزب: بساط الريح الى العلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يملك عدد واسع من العراقيين، وبضمنهم سياسيون محترفون، فكرة ان صدام حسين ليس رجل سياسة ودولة بقدر ماهو رجل عصابة .لايبني هؤلاء فكرتهم على العداء المستحكم بينهم وبين عدوهم السياسي صدام حسين، بقدر مايبنونها على اسلوب صدام في الوصول الى الحكم وفي ادارة الحكم نفسه وعلى الشواهد الكثيرة التي كانت واضحة للعيان للعراقيين اكثر من غيرهم من العرب والاجانب الذين كانوا يرونها مبالغة وتهويلا سببه معارضة النظام.
حين كانت الاخبار تترى عن (الرئيس العراقي) كان العراقيون بشكل عام يستنكرون هذه الصفة وهذا الموقع.وكان هذا بالطبع يتنافى مع الصفة الرسمية التي لابد ان تطلقها الحكومات والدول والصحافة على صدام حسين باعتباره (رئيسا).
اذكر ان زميلا يعمل في جريدة الحياة اللندية هو وليد نويهض شكا لي في منتصف التسعينات من ان اكثر المقالات التي يكتبها العراقيون ويرسلونها اليه لنشرها يضطر الى تعديلها مما يسبب اعتراضات منهم وغضبا قائلين انهم لايعترفون بصدام رئيسا. كان هذا الزميل يبدل كلمة الطاغية بكلمة الرئيس، وكلمة المجرم بكلمة صدام حسين. ولم يكن جوابه بانهم ينشرون في جريدة عربية مهنية تتعامل مع الوقائع الرسمية وليست جريدة للمعارضة العراقية كافيا. كما لم يكن جوابه بانه مسؤول مهنيا عن استخدام الصفات الرسمية بغض النظر عن موقفه، مقنعا.وكان هذا الزميل يتعاطف مع المعارضة العراقية ضد صدام حسين ولم يكن ذلك كافيا للكتاب العراقيين.
وحين كنت شخصيا استخدم في مقالاتي صفة الرئيس العراقي كان اقرب المعارضين اليّ يحتج بانني استخدم مفردة لاتنطبق على صدام حسين ولاتليق به.وكنت ابرر ذلك بمنطق عقلاني لايجد القبول، وهو اني اعارض صدام حسين ليس بصفته قصابا او معلما او مفتش بلدية او اية وظيفة اخرى لاتعني مصير العراق وشعب العراق، وانما اعارضه بصفته حاكما يمسك مقدرات العراق ورئيسا لهذا البلد بغض النظر عن عدم شرعية رئاسته وكونه تسلق الهرم البلطجي السياسي العراقي ليقف على قمته.
يروي كثيرون قصة حياته وطفولته وصباه وتشرده.كما يروي كثيرون قصة انتمائه لحزب البعث وايامه الاولى فيه وعودته من القاهرة وعلاقته باجهزة الامن العراقية في زمن الاخوة عارف في منتصف الستينات.يروي كثيرون ذلك بحيث اصبحت هذه الروايات جزء من الموروث السياسي الشعبي. اي يتداولها الناس باعتبارها مثالب صدام الذي كان نائبا للرئيس يشغل شاشة التلفزيون كما يشغل جميع مؤسسات الدولة والسلطة تقريبا.
يروون عن ابيه حسين المجيد، كمايروون عن غير ابيه حسين المجيد.يروون عن امه صبحه طلفاح كما يروون عن خاله خير الله طلفاح المعلم الذي اصبح ضابطا احتياطيا ونسب لنفسه بطولات خارقة فيما بعد لاتتحملها طبيعة معركة سن الذبان قرب الفلوجة بين القوات البريطانية والقوات العراقية، فهي معركة بسيطة حدثت عام 1941 حيث كان طلفاح معجبا بهتلر والنازية.
قبل هذا يتحدث كتابه ومؤرخوه عن جرحه لاحد معلميه بسبب تأنيبه له واستعماله سلاحا نارية لتهديد المعلم
يروون عن قتله لاحد اقاربه الشيوعي حاج سعدون ابن تكريت بتحريض من خاله هذا. ويروون كيف اقحمه خاله في عملية اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم . يروون كيف اضطرب واطلق الرصاص على رفيقه الغريري وقتله ولاذ بالهرب.يروون كيف ذهب الى سوريا والى مصر . يروون كيف تعرف هناك على جورج بوش الاب في مطلع الستينات بحضور الرئيس جمال عبد الناصر.يروون كيف عاد الى بغداد بعد انقلاب 8 شباط عام 1963 والتحق باجهزة التحقيق والتعذيب التابعة للحرس القومي في الكرادة الشرقية وفي الصالحية مقابل مبنى الاذاعة والتلفزيون حيث كن يعمل في الاستعلامات.
يروون كيف وشى برفاقه وكيف خرج من المعتقل بترتيب مسبق لقاء وشاياته.يروون كيف التحق بالجهاز الامني وجهاز التصفيات الذي شكله حزب البعث باسم(جهاز حنين) .يروون كيف كان يقضي اوقاته على شاطئ دجلة مع بلطجية حزب البعث في (جرداغ) شبابي خاص للهو غير البرئ. يروون كيف انزوى تحت ابط احمد حسن البكر واحتمى به ليبدأ برنامج صعوده قبيل انقلاب 17 تموز 1968 .يروون ، والصورة الفوتغرافية والتلفزيونية تشهد على ذلك، كيف عمل مرافقا مسلحا لاحمد حسن البكر يوم 30 تموز1968 حين قاد حزب البعث انقلابا ضد رئيس الوزراء عبد الرزاق النايف ووزير دفاعه ابراهيم الدواوود. كمايروون قصة المؤامرة الغادرة لهما وكيف خططها البكر وصدام وحفنة العسكريين البعثيين .
انها الرواية ما يصيب البعثيين بالدهشة والاعجاب.
لكنه يروي كل شئ بشكل مغاير: بطولي، اسطوري، مقدس، مغامر، خارق وغير اعتيادي. يرويه وهو في سلطة تحاول تكريس عبادة الفرد منذ البداية. ترسم وتخطط لكل لحظة فيتم تصويرها كانها ابد .تصدر اوامر تحمل عبارة (لاتمحوه آثار الزمن) حين يتعلق الامر باقامة تمثال او جدارية او خط على حائط .حتى امر كتابة القرآن بدمه حمل عبارة(يقاوم الزمن).
هكذا تتكرس الرواية كنص مقدس تجلب تلاوته لذة روحية كما يجلب سماعه مشاركة وجدانية تفتح تيار الشعور بالتدني تجاه القدرات الخارقة التي يجب ان يدفع السامع ثمنها ايمانا بالعصمة وشعورا بالوله وتبنيا للمحتوى باعتباره الاسطورة للملك نصف الاله.
وتنتقل هذه الرواية اليه فقد شعر بنشوة التمتع بدور الراوي لان المستمعين يصابون بالنشوة الغيبية، فصار يجمع ادباء ليستمعوا الى القص والسرد الالهي فيبرع عبد الامير معلة وعادل عبد الجبار في جمع السرد الالهي في روايتي (الايام الطويلة) و(عرزال حمد السالم) .ثم يتطور الانتشاء عبر مدائح عبد الرزاق عبد الواحد وشفيق الكمالي فتكتمل الدروشة عبر ايقاع المغنين وغناء الرسامين الذين يجمعهم مديرا الاذاعة والتلفزيون سعد البزاز ونزار السامرائي في الفجر ليغنوا ، كما الاطفال في الروضة، للانتصارات الوهمية التي سعت لطمس الخراب والقتلى والدخان والجثث والاوصال المقطعة والخوذ التي تصفر فيها الريح ورسائل حب الجنود القتلى التي لم تصل لحبيباتهم وزوجاتهم.
لكنه هو نفسه لايقاوم وهو يتفرج على كل هذا المشهد الطقسي الصارخ . يفعل كل شئ ليدخل التاريخ(الزمن) لكنه يخرج منه في كل لحظة يدخل فيها.وفي كل مرة يدخل الى المكان ولكنه لايدخل الى الزمن ولايتجاوزه.هو عبارة عن صدفة تحولت الى اختيار إلهي مقدس.الى انتظار لمعجزة تحققت. في واقع الامر، كان الصعود من الحضيض الى القمة بسرعة خاطفة يحمل بريق المعجزة.ولكي تكون المعجزة ذات تاريخ ازلي فان صناعة هذا التاريخ يجب ان تذهب الى عصور العبودية السحيقة ، الى الحق المطلق، الى الاستبداد المطلق.الى الملكية المطلق. الى الظهور المطلق.
كان ذلك يقتضي اعادة ترتيب الاشياء والبشر والاماكن والشوارع والساحات ونهر دجلة الذي يشق العاصمة بغداد من الشمال الى الجنوب وتغيير الطبيعة لان المعجزة تتطلب اعادة الخلق ايضا، وتتطلب بشرية جديدة لاعدادها الى الطوفان على عكس ماحصل في الطوفان القديم .
كل ذلك يحتاج الى الحرب لاعادة الترتيب ولاعادة الخلق. الحرب التي تطهر الاخطاء وتخلق الامجاد وتلقي بمئات الالاف من البشر قتلى في الخنادق وعلى الاسوار ،الحرب التي تشعل الحرائق وتثير الغبار وتنشد من الاغاني ما يملأ حناجر امة، وتكتب من الاشعار ما يصلح لابادة المتعة ، ومن القصص ما يجعل الحكاية خرافة ودنانير.
لترتيب ذلك يعاد بناء بابل بشكل آخر. بدل ان يكون برج بابل مليئا باللغات يكون مليئا بالخرس والسكوت. جدار بابل يحمل آجرّه اسم المعجزة بدل ان يحمل اسم التاريخ. وبدل ان يذهب صدام مع صديقه انكيدو لقتل خمبابا في غابة الارز يبقى قابعا في مكانه السري ويرسل مئات الالاف ليقتلوا من قبل خمبابا ولايصلوا اى غابة الارز.وبدل ان يذهب الى جده اوتونابشتم مغبرا ويدخل على صاحبة الحانة سيدوري لتخبره ان الالهة استأثرت لنفسها بالخلود وقدرت الموت على البشر ، يخبر البشر بانه استأثر بالخلود وصعد الى سرير الالهة.وبدل ان يعود من اوتونابشتم بعشبة الخلود، ارسل اليه تعويذة الهروب الكبير وترك المدينة تسقط على اهلها ليصبح الافعى التي تدخل جحرها تحت الارض وتنتظر مصيرها الشنيع.
كان يسمع في زقورات اور ادعية الكهنة فيما الملك-الكاهن يقوم بطقوس الزواج المقدس مع خليلته الكاهنة.كان النشيد يترنم:
لعل الرب الذي دعوتيه الى قلبك
الملك، زوجك الحبيب، يستمتع بايام مديدة على حضنك الحلو،
المقدس
امنحيه حكما عظيما ومجيدا
امنحيه عرش الملك على اسا س مكين
امنحيه القدرة على تدبير شؤون الناس،
الصولجان والمحجن
امنحيه تاجا لايبلى، واكليل نور على رأسه
من حيث تطلع الشمس الى حيث تغرب الشمس
من الجنوب الى الشمال
من البحر الاعلى الى البحر الاسفل
من بلاد شجرة الحلوب الى بلاد شجرة الارز
على جميع بلاد سومر واكد امنحيه الصولجان والمحجن
لعله يكون راعيا لذوي الرؤوس السود حيثما اقاموا
كالفلاح لعله يجعل الحقول منتجة
كالراعي لعله يكثّر اعداد حظائر الغنم
لعل في حكمه يكثر الزرع ، ويتوفر الحَب
لعل النهر يفيض
وفي الحقل يكثر الحب
وفي السبخة يزقزق العصفور ويصوّت السمك
وفي الدغل ينمو عاليا القصب المسنّ والقصبُ الفتيّ
وفي السهب تنمو عاليا شجرة مشجور
وفي الغابات يكثر الايل والماعز البري
لعل الغياض تنتج عسلا ونبيذا
ومساكب البستان تنبت خسا ورشادا عاليا
وفي القصر تكون حياة مديدة
وفي دجلة والفرات يكون فيض الماء
وعلى الضفاف ينبت العشب عالياويملأ المروج
وملكة الخضرة المقدسة تجمّع الحب اكواما وتلالا
اي مليكتي
ملكة السماء والارض
الملكة التي تحيط بالسماء والارض
لعله يستمتع بايام مديدة في حضنك المقدس.
لم يعرف الطقوس السومرية ، ولم يستمع الى الترانيم البابلية، ولم يردد الابتهالات الاشورية.اراد سرقة كل هذه الاساطير ليكون معها اسطورة ، ولكن اكبر واكثر خلودا واسمع صدى.
لم يسمع النصيحة التي القتها صاحبة الحانة على آذان كلكامش:
الى اين تسعى ياكلكامش
ان الحياة التي تبغي لن تجد
حينما خلقت الالهة العظام البشر
قدرت الموت على البشرية
واستأثرت هي بالخلود
اما انت ياكلكامش
فليكن كرشك مملوءٍ على الدوام
وكن فرحا مبتجها كل مساء
واتم الافراح في كل يوم من ايامك
وارقص والعب ليل نهار
واجعل ثيابك نظيفة وزاهية
واغسل رأسك واستحم في الماء
ودلل الصغير الذي يمسك بيديك
وافرح الزوجة التي في احضانك
وهذا هو نصيب البشرية.
لكنه ، وهو الذي صنع الوهم ولون صورة الاسطورة وغذا نسغ الصعود الى المسافة الفاصلة بين الالوهية والارض ،لم يفعل شيئا من هذا. لم يستمع الى النصيحة .ذهب الى ذلك الجحر لكي يتخلد هناك.لم يجعل ثيابه نظيفة.لم يغسل او يستحم بالماء.ترك الصغير يقتل والزوجة تتشرد وجعل الارامل يلهجن بالدعاء لكي يندم ويجد عقابه والثواكل ينشدن في المآتم سرا ان يرى بام عينيه تلك المصائب.
وبدل ان ينزل الى العالم السفلي بحثا عن إله الخصب تموز ، نزل الى تلك الحفرة اليابسة لكي يجفف الابار والانهار ويسمم الهواء ويفسد الاسطورة التي اخذت تتحلل ، ويخرق المعجزة التي اخذت تتصبب عرقا.ومع هذا فمايزال هناك من يحاول ترقيع الاسطورة وريافة نسيجها الممزق دون ان يفتح عينيه على الظلمة التي يرفو بها بابرة مكسورة.
انه حادث عرضي .
انه صدفة دامية.
يعرف تاريخ العراق مثل هذه الحادثة ويمتلئ بمثل هذه الصدفة. انه ليس غموضا جديدا ، وليس استثناء فريدا.انه تكرار لحادث عرضي.انه اعادة لصدفة دامية. انه شغوف ايضا باعادة التكرار، تكرار التاريخ. تكرار الاسطورة. تكرار المعجزة. انه التكرار الذي شغف به. التكرار الذي يأتي تراجيديا ومسخرة في نفس الشكل وفي نفس الوقت.
كل من يتعدى حدود الاله شمش
عسى الاله شمش ان يوقع به الشر ويسلمه الى الجلاد
اجل. كل من يتعدى حدود الاله شمش
عسى ان يسد في وجهه مسالك الجبال
وان تصيبه السهام في الصميم
وعسى ان يقع في الفخ وتحل به لعنة شمش
لم يقرأ هذا النص من اسطورة ايتنا احد ملوك سلالة كيش الاولى.فلم يعرف ان خيانة العهد تلد خيانة اخرى ، والخيانة الاخرى تلد اغلاق مسالك الجبال والوقوع في الفخ بعد ان تحل عليه اللعنة.
لقد خان العراقيين بعد ان وعدهم بشن الحرب وتحقيق النصر، وهرب تاركا العراق والعراقيين منتظرين الدبابات الاميركية لتتحطم وتحترق على اسوار بغداد.فكيف صدقه البعثيون من قبل؟ ولكن كيف يصدقونه الان؟ كم كان الماضي يلعب دوره هنا ايضا. اسوار بغداد. اسوار بغداد التي لم تكن تحميها اسوار. لقد بعث احد ولاة الخليفة عمر بن عبد العزيز رسالة اليه يطلب فيها اموالا لكي يسيج المدينة حتى لايدخلها اللصوص، فما كان من هذا الخليفة النادر سوى ان قال: سيجها بالعدل ، ولاحاجة لك ان تسيجها بالاسوار. كما انتظر اليونانيون البرابرة

2- الوصول: مشروع الدم والجبروت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يروي وزير التخطيط الاسبق كاظم جواد في مذكراته التي نشرها في جريدة(الشرق الاوسط) في شهر كانون الاول/ديسمبر 2003 ، ان( صدام كان يقبع في حجرة صغيرة في القصر الجمهوري مثل حارس بانتظار اوامر البكر.) لكن وزير التخطيط هذا ساهم من خلال عضويته في البعث في صعود صدام من غرفة الحارس الى مكتب الرئيس.

ورأينا في التلفزيون مساء الثلاثين من تموز عام 1968 صدام حسين واقفا ممسكا بندقيته الرشاشة وراء احمد حسن البكر الذي كان يلقي خطابا ، وهي الصورة التي كانت تنشر في السنوات الاولى في ذكرى كل ثلاثين تموز ثم غابت نهائيا بعد ذلك.
فكيف نسي البعثيون صورهم وتذكروا الوهم الذي اشاعه بينهم؟
سمع صدام بالتاكيد عن خدم ومماليك وحرس لملوك اصبحوا ملوكا: سرجون كان ساقيا واسس مملكة اكد، كافور كان خادما واصبح حاكما. مماليك كثيرون وعبيد كثيرن. فهل وضع هذا في ذاكرته ووعاه ؟ ام ان هذه الطبيعة تنساق بعفوية وفطرة وقدر الى هذا الدور لتنطلق منه الى القمة؟
سمع به الاعلام العراقي لاول مرة في شهر تشرين الثاني 1968 .اتذكر الخبر من الراديو (زار الفريق حردان التكريتي نائب رئيس الجمهورية لواء(اصبح الاسم محافظة) العمارة وتفقد الاوضاع هناك.رافقه في الزيارة صدام التكريتي نائب رئيس مجلس قيادة الثورة ونائب الامين العام للقيادة القطرية في العراق.
لم يتساءل البعثيون عن الطريقة البعثية للرجل الثاني وهو يستخدم الحزب للوصول الى الرجل الاول. لقد قتل حردان في الكويت . ازاح المرشح الاقوى لذلك المنصب ، وزير الاعلام عبد الله سلوم السامرائي في اول اجتماع للقيادة القطرية بعد الانقلاب.ك ان واضحا ان التكارتة من عسكر وحزبيين يريدون الغلبة والسيطرة مبكرا: الرئيس احمد حسن البكر التكريتي، وزير الداخلية اللواء سعدون غيدان التكريتي، نائب رئيس الجمهورية الفريق حردان التكريتي، وزير الدفاع اللواء حماد شهاب التكريتي، صدام حسين التكريتي نائب امين سر القطر .
لم يكن هذا المنصب الحزبي يعني شيئا للعسكر في بداية الامر.فالدولة لم تصبح حزبا بعد.لكن المنصب كان يتيح تشديد قبضة الحزب ويتيح سلطانا واجهزة ومالا وسلطات ستتجسد رويدا رويدا اثر كل ازاحة او اغتيال او اصطدام سيارة .
كانت فكرة التآمر فكرة سياسية صرفة. جوهر كل حزب سياسي يسعى الى السلطة . فهذا هو الطريق الوحيد للوصول اليها. كان التآمر فنا ومغامرة وجرأة.كان التآمر جماعيا حيث يطيح فريق بفريق او يطيح فريق بفرد قبل ان يصبح فرديا خالصا عند صدام، وينهيه بتاليف روايات مدفوعة بفتنة القص وشهوة السرد، تشيع فيها اجواء التامر والخيانات والوشايات تآمر البكر وصدام وعماش على حردان التكريتي عام 1970، وتآمر البكر وصدام على عماش عام 1971 قبل ان يتآمر صدام وخاله طلفاح على البكرعام 1979 ، ثم انفرد صدام بخططه الخاصة للتامر والاطاحة بالاخرين.
كانت القدرة على الاحتفاظ بالسرية والوضع المعتاد السياج الذي يصون المؤامرة. ورغم ان الجميع يعرفون ان التآمر وراء مثل هذه الاطاحات، الا ان التفاصيل غالبا ماتبقى طي الكتمان وتتسرب بدلا عنها تفاصيل اخرى. غير ان التفاصيل الجوهرية التي لاتتسرب تصبح معروفة: لا احد يثق باحد. كل واحد يخاف من الاخر ويخشى ان يطيح به قبله.ومن ذلك نشآ ادب الوشايات البعثي وشاعت ثقافة السرد الامني في التقارير.
كانت السرية هي السلاح الاقوى. لكنها السرية في حكم علني ، مما جعل التناقض واضحا: الطرق السرية للتنظيم بما فيها الاغتيالات والتصفيات الجسدية السرية هي وسائل الحكم العلني الذي يمثل دولة.، فالنوايا ليست هي الجوهر رغم انها محتوى. ولكن القدرة على التحرك سريا هي التي كانت تحسم الامور في البداية.اشتهر صدام بالنوايا والحديث عنها دائما.كانت نواياه واضحة بعد اكتشافه لكل نية عند غيره: ان نية الغدر كانت تتلجلج في صدره.هكذا حدث مع جلاده مدير الامن العام ناظم كزار، وهكذا حدث مع اطاحة عضوين قطريين ووزيرين هما فليح حسن الجاسم وعزت مصطفى وقبلهما مع عبد الخالق السامرائي ومحمد فاضل، وهكذا حدث مع وزير الاعلام السابق شفيق الكمالي ومع كل وزير او قيادي قطري لدى صدام نية التخلص منه فيضع صدام نواياه ، نوايا في قلب ذلك الهدف. نوايا تصبح لدى البعثيين لعبة نارية خطرية. فمن جهة تثير الاعجاب بقدرة خارقة ومن جهة يستلم البعثي لبث الرعب في قلبه.
في عام 1976 حدثت مشكلتي مع صدام. كنت صحفيا في الف باء بعد ان وضعت في القائمة السوداء في الاذاعة. ارسل صدام في طلبي لكن نجاح صدام في بث القدرات الخارقة لدى اتباعه كانت تعمل لتهيئة الاحساس بالمصير الحتمي.كان جمعة اللامي سكرتيرا لتحرير المجلة مع فاضل العزاوي، وبعد ان دب الذعر في المجلة على مصيري جاء اللامي محذرا اياي في سياق اضعافي : نبيل، ان السيد النائب يملك عينين تخترقان مايفكر به الانسان.ابتسمت وقلت له بتهكم حذر : اعرف.
لقد وصلت الاشراقة الصدامية الى منتهاها الاعلى: الباطن. اي الاطلاع على اسرار الخلق الفردي للانسان. واذا آمن المثقف البعثي كما آمن جمعة اللامي واخرون بهذه الاشراقة يكون صدام قد الغى البعث نفسه باعتباره حزبا له اهداف ومبادئ ويكون صدام قد فاز بمثقف له قابلية على الغاء ذاته وتحويلها الى قرعة طبل.
بعد ان اكمل صدام حصار طارق عزيز فمنعني من الظهور والكتابة والسفر والعمل حثني الشيوعيون على كتابة رسالة الى صدام. كنت ارفض هذا الاسلوب الذي تعتاده احزاب سياسية.حاول عزيز السيد جاسم الضغط علي بهذا الاسلوب ايضا بعد ان فاحت رائحة القمع الذي تعرضت له في نقابة الصحفيين وفي اتحاد الادباء حيث كنت عضوا في المكانين. كان عزيز السيد جاسم يكتب لصدام وينظر له وكان بمعيته حارس لم يتردد باراقة دم شاعر مسالم مثل رشدي العامل في اتحاد الادباء بامر من عزيز نفسه.ضربه حارسه عمران حتى اسال الدم من رآسه.بعد الحاحه كتبت الرسالة واتصلت به في مجلة وعي العمال حيث كان يرآس تحريرها. حين قرآ : الى السيد صدام حسين .صاح ماهذا؟ قلت له الرسالة التي طلبتها والتي تريدني ان اساله رفع الممنوعات عني. كنت عنيدا وتقصدت ان انزع القاب عظمة صدام حتى لايجرؤ عزيز على استلام الرسالة. وهذا ماحدث.لقد قصدت ايضا ان اهين عزيزا نفسه منظر القهر والجبروت الذي دخل في حالة من الوله الوجداني مع صدام ذابت فيها شخصيته في اطار جمع الذعر والتاليه، حتى اصبح قربانا لمعبوده صدام.
كانت الاهداف في الطريق كثيرة ومتنوعة ومختلفة الحجوم. لكن كل هدف كان يلوح وكأنه عقبة في ذلك الطريق الطويل من النوايا.هذا الطريق الذي سارت فيه نيته مع نوايا آخرين في بداية الامر. فقد عملت نيته كفريق عمل: شقاة وطامعون واقارب وقتلة يكونون فريق النوايا القاتلة.قسم طريق نواياه الى محطات.لايتوقف عند كل محطة ، ولكنه يغير ادواته واصحابه مثلما يغير البريد القديم خيله.وبعد اجتياز كل محطة يسقط عدد آخر من الماضين في طريق النوايا ليظل وحده مع نيته الاخيرة.
هذ السياق جعل عناصر العمل الاساسية عند صدام هي الشك ، والخوف من الخيانة(التآمر). كان هو يمارسها ويتخذها منطلقا لعلاقاته مع رفاقه وموظفي سلطته واقاربه وقادة جيشه وحكام دول الجوار وحكام العالم الذين يتعامل معهم.ولذلك قام بناء السلطة عند صدام على هذه العناصر وقادته هذه العناصر الى السقوط كما سنرى.
لقد نحت مثقفون بعثيون كثيرون صنم صدام ودهنوه بلعاب قبلاتهم ، واسماؤهم ماتزال مرفقة بكتاباتهم اللجوجة عن القائد وافعاله الخارقة ونصوصهم موجودة في ركام ادب الحرب وادب عبادة الفرد، ولايسقط دورهم بالتقادم او بخروجهم من العراق وادعاء التضحية والنضال ومعارضة النظام وتسويقهم من جديد بناء على دورهم السابق في مناصب يحتفظ من خيراتها ادباء عرب كثيرون يردون الجميل لهم في القاهرة وبيروت وعمان ودول الخليج ودول المغرب العربي، في وقت حار فيه بعثيون كثيرون وهم يرون رفاقهم يعبدون الصنم الذي شككوا فيه لكنهم كانوا ضحية الذعر السائد الذي يشيعه رفاقهم .ليس كل البعثيين ساهموا في صناعة صدام. هذا شئ مؤكد. ففي حقلي الادب والصحافة حيث كان المثقفون العراقيون يعملون كان كثير من البعثيين يعترضون في البداية على عدد من الاجراءات لكنهم خضعوا شيئا فشيئا لتيار قمعي من رفاقهم هم.
كل ذلك لم يدفع البعثيين الى محاكمة من قوض حياتهم وحياة العراقيين بمعاول كانوا يمسكونه بايديهم هم لا بايدي غيرهم من اعدائهم.لقد غاب الشعور بالحرية الى الحد الذي اصبح فيه مستنقع العبودية يبدو مليئا بالازهار ورائحة المسك والعنبر التي صدعت رؤوس الكثيرين لكي يسكروا بنشوة الاحساس بالعبودية والامتهان.
غدا الحلقة الثانية من الفصل الثاني(عالم رمادي من تصفيات)











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اين الثيمة؟
جهينة ( 2009 / 10 / 27 - 21:28 )
كلام مرسل وإنشاء رثّ


2 - اين الثيمة؟
جهينة ( 2009 / 10 / 27 - 21:29 )
كلام مرسل وإنشاء رثّ


3 - اذا رأيت العلماء على ابواب الملوك
أحمد السيد علي ( 2009 / 10 / 27 - 21:35 )
ربما هذا القول ينسب لامام الصادق ولا أدري ... اذا رأيت العلماء على ابواب الملوك ...فبئس العلماء وبئس الملوك...وإذا رأيت الملوك على ابواب العلماء... فنعم الملوك ونعم العلماء...فالتاريخ الحقيقي يصنعه العلماء وليس الملوك، فهؤلاء وعاض السلاطين
في زمن البعث المباد ، كان هناك شويعر اسمه ... غزاي درع الطائي... وكان نقيب في الجيش العراقي...تصور نقيب بالجيش... يزحف جنود... يكون شاعر... وقد كتب قصيدة في سنة1983 يقول

ثلاثة
شهداء القصف ثلاثة
الاول سوداني
والثاني مصري
والثالث من طينة نهر ديالى.
وكان احد اصحابي في الساتر الامامي من الجبش العراقي وقرء القصيدة في الصحيفة التي تصل الى السواتر الامامية، فقال صاحبي بعد ما قرءت القصيدة فما علىّ الاّان أمسح البسطال بهذه القصيدة...اصبح هذا العسكري النقيب... بعد ترفعة الى مرتبة عالية في الجيش، واليوم هو أحد الكتاب والادباء والنقاد في جريدة الزمان حفظها الله ورعاها


4 - الى جهينتي
كريم الدهلكي ( 2009 / 10 / 28 - 19:51 )
الى الانسه جهينه ان كان لديك القدره وسعة الاطلاع على الكتابه اكثر من العزيز الدكتور نبيل اقحمينا بافكارك لكي نتنور بها اما ان كنتي بائسه فارجو ان تتهذبي اكثر وتقرائي وتصمتي

اخر الافلام

.. البرازيل.. سنوات الرصاص • فرانس 24 / FRANCE 24


.. قصف إسرائيلي عنيف على -تل السلطان- و-تل الزهور- في رفح




.. هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟.. أندري


.. رفح تستعد لاجتياح إسرائيلي.. -الورقة الأخيرة- ومفترق طرق حرب




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا قصفت مباني عسكرية لحزب الله في عي