الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في مديح الهزيمة

نصير عواد

2009 / 10 / 29
الادب والفن


"هزيمة واحدة هي انطفاء العمر كله"
ناصر مؤنس


كُلُّنا نُغني للنصر ونلوح له بالمناديل والأصابع، لكننا نرتبك ونتعثر بعضنا ببعض عندما يُذَكّرنا أحدهم بالهزيمة على الرغم من أنّهما، النصر والهزيمة، مترابطان ولا يأتي أحدهما من دون الآخر. ولذلك فإنّ مديح الهزيمة كبقعة سخام على عباءة تاريخنا المقدس معناه قطع العلاقة مع السائد من هتافات وتلويحات وخلق حالة من اضطراب المفاهيم وإضعاف خيوط المودة مع القارئ، إضافة إلى أنّه قد يُهيّج علينا العربان ويدفع إلى شتمنا حماة الأمة وأبطالها "السياسي والمثقف والعسكري والمؤرخ وإمام الجامع". فالأبطال ذوو الصوت العالي هم دائما على حق بغض النظر عن صحة تلك البطولات وهل تُشرِّف أصحابها أم لا وعلى كَمْ من الأكتاف والضحايا والدماء البريئة قد شُيدت.

عندما نولد ونعيش في ظروف الهزيمة فإنّ ذلك فيه الكثير من تخفيف المعاناة على ضمائرنا وأجسادنا الطرية بسبب "التعوّد" وبسبب حقيقة أننا نتيجة وليس سببا لتلك الهزيمة. استمرار الهزيمة يطمسها ويجعلها أليفة ويحولها، بمرور الأعوام، إلى ذهنية وأسلوب حياة لا تكترث كثيرا بالأسماء والأفعال والصفات والأرقام. في هذه الظروف، التي يعرفها كثيرون في شرقنا الدافئ، نعيش بهدوء في حالة سلم طويلة وأيام رتيبة نوزعها بين المقاهي والمساجد والبارات، نأكل ونتعبد ونحب ونتزاور من دون القدرة على اجتراح المعجزات التي تُغيّر مِن حالنا في التنمية والثقافة والمعرفة. نولد في ظروف الهزيمة مع مسحة حزن تعلو ملامحنا وعلى ظهورنا حمل لا نستطيع إنزاله ولا نعرف إلى أين نحن به سائرون، يجعلنا ذلك بعد عدة أعوام وهزائم لا نشعر بثقل العار ولا بعدم القدرة على النظر في عيون الآخرين بل يصنع عند بعضنا نوعا من الاستسلام المعانِد المنتج لنوبات شرف وردود أفعال من العنف المفاجئ وتأسيس أحزاب وكتابات أدبية، وقد يتوج بمقاومة لا تصل إلى حد شن الحرب والانتصار وإعادة بناء المجتمع وتغيير المناهج والخطط والأساليب. فهذه المقاومة التي يسمحون بها يجب أنْ لا توصلنا، كما يخطط ولاتنا، إلى أسوء مما نحن فيه وأنْ تُبقينا نعيش الهزيمة ونتكلم عن النصر، بما يساعد على الطاعة وعدم تجاوز الخطوط الحمر. أولياء نعمتنا يحبوننا ويريدون لنا العيش والتناسل لإدامة بقاءهم وبقاء مفردة الهزيمة عامرة في رؤوسنا. الهزيمة وولاتنا متخادمان ولا يبتسم أحدهما من دون الآخر، ولو لم تكنْ الهزيمة موجودة لاخترعوها لنا وافتعلوا المعارك الوهمية لإبقاء أسمها. وإنْ خَرَجَ أحدنا على واقع الهزيمة فسوف يسارع رعاتنا إلى اتهامه بالخروج على القطيع وتكفيره وإلغائه، فهم بحاجة إلى بطل مطيع ووفق القياسات المطلوبة قادرين على تغليفه بورق صقيل ولامع يعمي القلوب والعيون. الهزيمة من دون ضحايا ليست بهزيمة. الضحايا هم مَنْ يبقى في الذاكرة الجمعية ويتم استدعاؤهم في الأزمات الاجتماعية والأخلاقية ليسقوا الهزيمة بطاعتهم وسلبيتهم وجهلهم وفقرهم. ومع أن ولاتنا يعرفون جيدا إن زج المساكين والضحايا في الحروب لا يصنع بالضرورة الأبطال والانتصارات ولكنها قوانين اللعبة التي تضمن للجميع البقاء والاستمرار، ولذلك فإن ولاتنا معنيين بحفظ الأدوار وتوفير المناخ الملائم للضحايا الدائمين وإعادة توزيعهم بعد كل هزيمة على خارطة الحياة اليومية ليختبئ أحدهم في حزب بَهيّ الكلام والشعارات ويلجأ آخر إلى حجز زاويته في مسجد المدينة البارد صيفا والدافئ شتاء ويبادر ثالث إلى تشييد مملكته في خمّارةٍ خافتة الأضواء؛ فكثير من ملوك المرارة يحبون العزلة والهدوء والأضواء الخافتة والعيش بسلام.
السياسيون والخطباء الذين يقاتلون من خلف متاريس الكلام وزجاج النظارات لا توجد في قاموسهم مفردة الهزيمة ولن يعترفوا بها حتى لو حدثت أمامهم وشاهدوا تفاصيلها من شبابيك بيوتهم. وسوف يبرروها بشتى أنواع الكلام ويكسوها بأحلى الأثواب ويزيّنوها بالقصائد والأغاني، دافعين إلى خلف المسرح المهزومين الرثين باعتبارهم شهودا مزعجين على الخيبة، وفي نفس الوقت مسلّطين الأضواء على الأسباب والنتائج التي آلت إليها لغرض النهوض من جديد. فمن أجل قيم المجتمع الراسخة في البطولة والشهامة والاستعداد الدائم للحرب لا ينبغي للخطيب أو البطل الانشغال بالثانوي من الأفكار والعواطف والذكريات ومشاعر الضحايا بل يجب عليه تركيز الجهود على إلغاء الرخاوة والضعف والرومانسية، معتمدا في ذلك على الهتّافين والشعراء الشعبيين والسياسيين الجدد الباحثين عن أمل تافه. فالأعداء دائما على حدود الصحراء يتربصون، ويجب إقناع الفقراء بضرورة المواجهة وبعدالة القضية وبأن الأمة من الضعف ستستمد قوتها ومن التجارب نصرها حتى لو تطلب ذلك الكذب على النفس وعلى الآخرين. ولكن المحارب العتيق ما أن يرى سبابة خطيب تكيل المديح للصبر والتَحمّل والمكابرة وتصورهم كنماذج للقوة والنصر، يقول لنفسه أن الهزيمة الحقيقية لم تأتِ بعد. فما أسهل الكلام عند من يشنون الحرب وسيوفهم في غمدها، وما أسهل عليهم التضحية بالفقراء الميالين إلى الأناشيد والشعارات. السبابة الثوروية لا يؤلمها أن تكون ابتسامة المهزومين أكثر حزنا وطين هزائمهم أكثر بلةً، فهي تستعجلهم دوما للنهوض والمقاومة حتى قبل أن تستد سواعدهم وتنضج رؤاهم وتكتمل استعداداتهم، تستعجلهم لكي تستمتع بتخبطهم وتعثرهم وتتأكد من أن الهزيمة قد تحولت عندهم إلى ذهنية وأسلوب حياة في وجود الحرب أم في غيابها. السبابة المدافعة عن الله والوطن والحزب والحقيقة لا تريد هزيمتهم النهائية بقدر ما تريد شل أقدامهم وأفكارهم وتوجيه مسيرهم على هواها، وحصر مهمتهم في إيقاف الانهيار التام والبقاء أحياء في اللعبة وهم يملكون شيئا يؤمنون به ولهم مساءات يوزعوها بين البيت والمقهى والمسجد والبار. ولكن هذا الذي يتلقاه المهزوم بتعقل ويرّويه بصمت سينقلب إلى طوفان من المرارة والحزن عندما تُغلق الأبواب من خلفه في المساء وتتراكض في رأسه الذكريات والأصوات. المعركة تقع على الأرض وتنتهي لكنها ستستمر في ذاكرة الضحايا وابتساماتهم الحزينة، فحتى لو خَفُتَ الضوء وهدأت الموسيقى وعاد الجنود إلى بيوتهم وغادر الخطيب إلى حفلة عشاء فإنّ السخرية المرة هي من يحل في حضرة الموت والعزلة والذكريات والحروب. صحيح أن لا أحد يميل إلى النسيان كالمهزوم، ولكن من أين له ذلك، فمرارة الحلق المحتشدة بالصراخ وزيت تنظيف السلاح ودماء الأبرياء تُذَكّره فيها باستمرار، وتُذَكّره بأنه مطرود من جنة الآخرين، لا أحد بحاجة إليه إلى حين تدق مرة أخرى طبول الحرب وتصدح الأناشيد وتُحد السكاكين للدفاع عن الأمة وعظمتها وتاريخها. المهزوم لا يشعر بعظمة الأمة أو بعظمته هو شخصيا، ولا يشعر بأنه قَدّمَ أكثر من غيره ولا يبحث عن الأضواء والمناسبات لتأكيد حضوره، إنه ليس بحاجة إلى ذلك، ليس بحاجة إلى أن يكون أكبر من حجمه الحقيقي بقدر حاجته إلى التخفيف من خرابه الداخلي والعيش بسلام مع مَنْ يُحِب. فلو لم يكنْ للمهزوم من يحبه في بيته، مملكته الصغيرة، ليَبُسَ قلبه وابتلّت عيناه. فمن يصاحبه الإحساس بالدونية طويلا يكون قد فقد الكثير من ماء قلبه، وأمست تؤذيه كلّ الأغاني.
الهزيمة ليست مرضاً مُعدياً كالانفلونزة مثلا مع أنه يمكن رؤية أعراضها في الحياة اليومية للضحايا وفي كثرة الأحزاب والمساجد والخطباء والأمنيات وفي ظهور خبراء السياسة وطب الأعشاب وقراءة الأبراج. ورغم معرفتنا بالمرض وأعراضه لم نستطع الشفاء منه، وكأن حياتنا تحتاجه، وأنه قدر من أقدارنا وثوب من أثوابنا. الهزيمة المزينة بالرضى ليست وليدة حرب أو خطبة بل تشكّلها وجوه كثيرة قد تكون الحرب، على الرغم من أولويتها، أكثر تلك الوجوه سذاجة وسطحية. ففي أمة اتفقت على الوهم طوال تاريخها المدوّن ستكون ذهنية الهزيمة جزء من طعامها ولباسها وتفكيرها، ولذلك فإن الخروج من هذا المناخ يتعدى الحصول على المال والسلاح والرجال والحريات وتغيير البرامج الثقافية والخطط الاقتصادية والمناهج التعليمية والخطب الدينية، إنه يتعدى اتفاقنا واختلافنا أنا وأنت أيها القارئ، إنه كل ذلك، إنه أكثر من ذلك. فقد انهارت أشياء من حولنا ولم ننجز الكثير للحضارة الإنسانية المعاصرة، وكلما حاولنا الحراك أوغلنا في التخلف والانحطاط إلى درجة أمسينا فيها لا نفرق بين الاحتلال والتحرير في أرض السواد، ولا نفرق بين النصر في ساحات المعارك أو في غرف النوم.
الاحتقار الدائم للهزيمة والمهزوم يفترض جدلا وجود الانتصارات والأبطال والتغيّرات المجتمعية التي ترافق ذلك، فأين هو النصر وأين هي البطولة وشعوبنا تقف مذهولة بين الفقر والقمع، بين الجدار والسيف، وحتى الفرقة الناجية فيها لم تحسم خلافها بعد إن كان الماء يوضع إلى يمين المصلي أم إلى شماله وإن كان نقاب المرأة فريضة أم عادة. فقدان النصر في حياتنا اليومية يقف بقوة خلف نزوعنا لتمجيد البطولة والبحث عنها في قواميس اللغة والأساطير والأشعار والمسجد والمقهى والبار قبل أن تغلق باب الدار خلفنا في المساء ويواجه كل منا أسئلته المترسبة في داخله عن المعارك والأسماء. أين هو البطل ولماذا لا نراه في حروب مشرفة عبر البحار ونراه فقط في صولات شوارعية وانتصارات مناطقية يُذْبح فيها المواطن البريء أو يُهْدَم فيها بيت الجار الضعيف؟. البطولة تحتاج إلى خلطة من الحرية والوعي والحب والمبادرة والاستقلالية، غير متوفرة عندنا حتى الآن، ولا أدري ماذا سيحدث لو عرف البطل أن أغلب صولاته ومعاركه هي جرائم يحاسب عليها القانون وأنه قد تم استخدامه والكذب عليه والقتل باسمه؟ فهل سيترجل قليلا عن حصان بطولاته ويندم ويحزن ويشعر بمرارة الهزيمة في داخله؟. أليس هناك شكلا للهزيمة يحافظ على صورة البطل دون خدوش وسط تقاليد الكذب والنفاق الاجتماعيين؟ أليس في بعض انتصاراتنا، المشحونة بالضغينة والدم وإلغاء الآخر، تتجسد مفردات الهزيمة مجللة بالخسة والجبن والنذالة؟. ولو توقفنا عند ما يجري بالعراق اليوم من قتل مجاني وأعمى لعرفنا حقيقة الأبطال واصطبغت بالعار وجوه المنتصرين، وعرفنا أن المهزوم هو أكثر نبلا من نياشين الأبطال وأوسمة الجنرال. فعندما نتحدث عن الإنسان المهزوم لا نعني به الجبان والخائن والفاسد والجالس في بيته بانتظار الدعم الإلهي لتغيير الأمور، بل نعني بذلك من ساهم وقاتل وكافح وعمل بعيدا عن الأضواء والغنائم، نعني بذلك من حاول أن يكون مفيدا ومثمرا في مرحلة معينة إلا أن قدره وظروفه وضعاه في الجهة الخاسرة من المعادلة.
إنّ ميّلي للمهزوم يكمن فيما يؤخذ عليه من صفات ومعاناة ورزايا، ولا أرى في البطولة على أنها أفضل صفات الإنسان ما دامت لا تأخذ في الحسبان الطرف الآخر من المعادلة. فمثلما سمعت الكثير من الخطباء يحققون انتصاراتهم في الكلام، رأيت كذلك الكثير من الجبناء يبحثون عن أنفسهم في السلاح، ويحققون انتصارات أحط من الهزائم.











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مباشر.. أسئلة لازم تراجعها قبل امتحان اللغة العربية غدًا.. أ


.. جامعة كاليفورنيا في ديفيس تفتتح أول مركز أكاديمي لأبحاث وفنو




.. تفاصيل جديدة في واقعة مشاجرة إمام عاشور بالشيخ زايد..«مراته


.. فوق السلطة 394 - اتّهام جدّي لمعظم الفنانات بالعمل بالدعارة




.. ادعوا لطلاب الثانوية العامة بالتوفيق.. آخر الاستعدادات لامتح