الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلاقات الدوليه وضيق الافق السياسي وقصة حبس الجواهري الشاعر الكبير/ القسم الثاني

عربي الخميسي

2009 / 11 / 2
مواضيع وابحاث سياسية


القسم الثاني

الكاشير والطاريف وحبس الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري

في القسم الاول اعلاه تطرقنا الى مسالة توظيف الامور الدينيه بين الدول لخدمة اهداف سياسه، وبهذه السطور ، ساتحدث عن واقعه وقعت بالعراق ايام الحكم الملكي لها علاقه بذات المعنى ، واليكم تفاصيلها ولكن قبل الخوض بأصل الموضوع ابين ما يلي :

من الاحكام الشرعيه لبعض الديانات مثل الدين الاسلامي واليهودي والصابئي المندائي - وربما غيرها من ديانات لست متأكدا منها - هذه كلها تحرم على مريديها اكل لحم الضأن غير المذبوح على الطريقة التي تفرضها هي وفق شريعتها الدينيه ، وحديثنا هذا يخص اليهود تحديدا ..

فالكاشير عند اليهود يعني ، اللحم الحلال المذبوح من قبل الرابي او الحاخام حصرا ، ويباع الى ابناء اليهود ، بعلم واشراف الحاخام نفسه وبالسعر الذي يراه ويحدده ، والطاريف هو غير ذلك ، فهو لحم الضأن الذي يذبح من قبل القصابين من غير اليهود ويباع من قبلهم في محلاتهم مباشرة او في الاسواق العامه ... ، وحيث ان موضوعنا ذو علاقه بهذا اللحم ، ارتايت ان اقدم هذه المقدمه للايضاح ..

ففي سنة 1936 من القرن الماضي ، قام اللواء الركن بكر صدقي قائد الفرقه الثانية بانقلاب عسكري ، وتمكن من الزحف على بغداد واحتلالها ، واسقاط وزارة ياسين الهاشمي الثانية بتأييد ( القوى الوطنية الاصلاحية او حزب الاصلاح الشعبي ) والتعاون مع هذه القوى ، التي كانت تضم في صفوفها شخصيات مدنية من العناصر الوطنية ذات التوجهات الديموقراطية والقومية واليساريه ، من امثال جعفر ابو التمن ، وكامل الجادرجي ، ومحمد مهدي الجواهري ، وحكمت سليمان ، ويوسف ابراهيم، وعبد القادرالبستاني ، وناجي الاصيل ، ومحمد صالح قزاز ، وحسين جميل ، وصالح جبر وغيرهم ، وهؤلاء استلم بعضهم حقائب وزاريه في الوزارة الاولى التي تشكلت برئاسة حكمت سليمان بعد نجاح الانقلاب .. وبذات الوقت تولى بكر صدقي رئاسة اركان الجيش بعد ان رقي الى رتبة فريق ركن ..! وان البرنامج الوزاري الذي اعلن للشعب العراقي ، وما جاء بالبيان الاول للانقلاب ، الذي اذيع على مسامع ابناء الشعب، كان يتضمن الكثير من الوعود والعهود وادرج ادناه نص البيان
ايها الشعب العراقي الكريم ،لقد صبرالجيش المؤلف من ابنائكم ، من الحاله التي تعانون من جراء اهتمام الحكومه الحاضره بمصالحها وغاياتها الشخصيه ، دون ان تكترث لمصالحكم ورفاهكم ، فطلبنا الى صاحب الجلاله الملك المعظم إقالة الوزاره القائمه ،وتاليف وزاره من ابناء الشعب المخلصيين برئاسة السيد ( حكمت سليمان ) الذي طالما لهجت البلاد بذكره الحسن ومواقفه المشرفه ، وبما انه ليس لنا قصد في هذا الطلب ، إلا تحقيق رفاهكم وتعزيز كيان بلادكم ..، فلا شك في انكم تعاضدون اخوانكم افراد الجيش ورؤسائه في ذلك ، وتؤيدونه بكل ما أوتيتم من قوة ، وقوة الشعب هي القوة المعول عليها في الملمات ..
وانتم ايها الموظفون ، لسنا الا اخوان وزملاء لكم في خدمة الدوله نصبوا كلنا الى جعلها دولة ساهرة على مصلحة البلاد واهلها ،عاملة على خدمة شعبكم قبل كل شيئ، فلا بد وانكم ستقومون بما يفرضه عليكم الواجب الذي من اجله لجأنا الى تقديم طلبنا الى جلالة ملكنا المفدى لأنقاذ البلاد مما هو فيه ،فتقاطعون الحكومه الجائره ، وتتركون دواوينها ، ريثما تؤلف الحكومه التي ستفتخرون بخدمتها ، اذ ربما يضطر الجيش، وبكل اسف ،لأتخاذ تدابير فعاله ،لايمكن خلالها اجتناب الاضرار بمن لا يلبي هذه الدعوة المخلصه ماديا وادبيا . ... انتهى البيان الاول

وهكذا تلاحظ اخي القارئ الكريم ، المبررات والخطوط العريضه التي اتى بها الانقلاب المذكور ، والاهداف النبيله التي توخاها ، والتي خططت لها الحركة الاصلاحية والحزب
الاصلاحي الشعبي ، وعلى قمة هذه الاهداف ، التوجه بالبلاد نحو الحكم الوطني الديموقراطي ، والقيام بالاصلاحات السياسيه والاجتماعيه والاقتصاديه ، واعادة توزيع الثروه الوطنيه ، ورفع مستوى معيشة الفرد ، وتوسيع الخدمات العامه، والاهتمام بالامورالصحيه ، وتوزيع الاراضي على الفلاحين ، واطلاق كافة الحريات الديموقراطيه ،وضمان حقوق الانسان ، وحرية التنظيم الحزبي والنقابي ، وحرية الرأي واصدار الصحف ، وحقوق المراة ، وتحقيق العيش الكريم للفرد العراقي وكثير غيرها كانت قد تبنتها الحكومه ولكنها بالنتيجة كانت حبر على ورق وشيئ من الديكور وهي لا تعدو ان تكون ( شيئ جميل ومنمق من الكلام المعسول لدغدغة الاحاسيس والاماني المغيبه لتطلعات واحلام الناس البسطاء والفقراء كما سنبين ادناه –

كل ذلك دفع بالشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري الى اصدار جريدة ، تدعم الوزاره اعلاميا ، وتساند الحكم الجديد بقوه ، والتي اطلق عليها اسم ( جريدة الانقلاب ) تيمننا بالحركه الانقلابيه ، كما خرجت الجماهير الشعبيه بالمظاهرات الحاشدة ، لدعم وتأييد الحكومة الجديده التي ستغير من واقعهم المزري كما كانوا يعتقدون ...!

ولم تمض مدة طويله حتى تبين ، ان ما وعدت الحكومه به من اصلاحات مجرد سحابة صيف ، وان الفريق الركن بكر صدقي كان هو الحاكم بامره ، وهو الذي يأمر ليطاع ، بعد ان احكم سيطرته على مقدرات البلاد ، وقد استهوته شهوة الحكم ، متجاوزا حلفائه الاصلاحيين ( القوى الاصلاحية اوحزب الاصلاح الشعبي ) وقد جعل من نفسه ( آتاتورك العراق ) امتثالا بآتاتورك تركيا حينذاك ..! فقد كانت اولى بواكير نشاطه العسكري وتحت غطاء النظام السياسي المدني( الشكلي ) القائم ! ، تحريك الجيش العراقي لضرب انتفاضة ابناء عشائر الظوالم ، والحجامه ، وبني حجيم في معركة شرسة غير متكافئه دارت رحاها بين الطرفين في منطقة العارضيات شمال مدينة الرميثه ، وفي جنوبها بمنطقة ادبيس ، سقط من جرائها عدد من القتلى والجرحى من كلا الجانبين ، وذلك على اثر ابداء تلك العشائر معارضتها لقانون الخدمة الالزاميه ، الذي كان قد صدرحديثا، ومطالبتها للحكومه ببعض الاصلاحات بالمنطقه، وبدلا من السماع لرأيهم او حتى طرحه امام مجلس البرلمان للمناقشه كطلب مشروع ، قامت الحكومه كما قلنا ، وبأمر رئيس اركان الجيش الفريق الركن بكر صدقي استخدام القطعات العسكريه ضدهم ، وتم سحقهم دون رحمة ، مما ادى ذلك في حينه الى خيبة امل والشعور بالاحباط في نفوس وزراء الاصلاحيين المشاركين بالحكومه ، كما اثار حالة من التنديد والغضب من قبل كافة اوساط الشعب العراقي ... !
وحين ادرك الاصلاحيون ان الحكومه المدنية لا تحكم ولا سلطان لها ، ولم تنفذ ما عودت به ، واستهانت بحقوق الشعب ، ولم تكن سوى مجرد واجهة لحكم دكتاتوري عسكري متجبر لا غير، لذا فلم يكن من البد من استقالة عناصرها من الوزاره ،والانتقال الى صفوف المعارضه .

ومن الطبيعي ان الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وهو من الاصلاحيين قد غير رأيه بهذه الحكومه التي اعيد تشكيلها بعد استقالة الاصلاحيين منها ، وبدأت جريدته جريدة الانقلاب تهاجمها ، وتنتقد ممارساتها التي تقوم بها ضد الشعب ، خلافا لتعهداتها التي قطعتها على نفسها ، واخذ يوجه لها انتقادات شديدة اللهجه واللاذعه احيانا ، مع التحفظ بعدم اعطاء الحكم ذريعة قانونيه للنيل منه، مما اغاض هذا الامر السلطه والفريق الركن بكر صدقي بالذات ، واخذت الجهات الحكومية تراقب الجريده وتترصد ما تكتبه على صفحاتها من مواضيع واخبار ..!

ومن سؤ الصدف ، ان شبابا من فقراء اليهود في العراق ، قاموا في تلك الايام بانتفاضه احتجاجا على الحاخام ساسون خضوري رئيس الطائفه اليهوديه الموكله اليه مهمة تسعير اللحم الكاشير ( الحلال ) ، التي هي من ذبح رجال الدين اليهودي كما اسلفنا ، وكانت اسعارها لا تناسب الاسعار الزهيده لللحوم التي تباع بالاسواق العامه من ذبح القصابين المسلمين ، وقاموا هؤلاء الشباب بتهديد الحاخام بانهم سيتناولونها نكاية به وباسعاره ، ويعني هذا بالنسبه له تصرفا تخريبيا ،وحالة من التمرد داخل الطائفه غير مسبقه ،يمكن اعتبارها خروجا غير مألوف على شرع الدين اليهودي ،
الا ان الجواهري ومن موقعه الوطني دفع بجريدته الانقلاب مساندة الانتفاضه كمطاليب عادله للفقراء من اليهود ، وبذات الوقت محاولة النيل من السلطه بشخص الحاخام ساسون احد العناصر المواليه لها ، وعلى اساس توفر مبدأ حرية الرأي والنشر للصحافه كما جاء بمنهاج الوزاره .
واستمرت الجريده متابعة الانتفاضه ، ونشر تطوراتها يوما بعد يوم ، وهنا استغلت الحكومة هذا الموقف من الجواهري وجريدته ، ووجدت ضالتها ، فقامت بالاتصال بواحد من مواليها المخلصين الحاخام ساسون نفسه ، واشارت عليه بتحريك شكوى التحريض ضد الجواهري ...!

وحيث ان الجواهري حقيقة كان قد اعطى الدليل المادي للأتهام بحجة التحريض ، عندما ايد في جريدته فقراء اليهود في نضالهم ضد الاسعارالعاليه لللحوم التي كانوا يشترونها من الجزارين اليهود المختصيين ، والتي لا تتناسب ودخولهم الماليه ، وبموقف الحكومه المساند لرئيس الطائفه اليهوديه ، وبتشجيع منها ، قام بتحريك الشكوى على الجواهري امام قاضي التحقيق ، والذي بدوره احالها الى محكمة جزاء الرصافه لمحاكمته بتهمة التحريض واثارة الرأي العام ..! وفق مواد قانون العقوبات البغدادي كما كان يسمى آنذاك ..

وامام قاضي الجزاء عبد العزيز القصاب ، وفي اليوم المعين ، وقف الجواهري في قفص الاتهام ، وبعد توجيه التهمة ، وسماع اقوال الجواهري وعدد من محاميي الدفاع على رأسهم المحامي البارز حسين جميل ، اصدرت المحكمة حكمها على الجواهري بالحبس البسيط لمدة شهرا واحدا مع اغلاق جريدته ( الانقلاب ) وذلك إستنادا الى قانون الصحافة الذي كان قد شُرٍِِِع في بداية عهد الاحتلال البريطاني للعراق .

الا ان الجواهري ( الوطني والثائر العنيد ) سخر من الحكم والمحكمة ومن قاضيها ، باعتبار التهمه تهمه كيديه وتافهة ، مما حدى بالمحكمة وقاضيها اعتبار ذلك اهانه بحق المحكمة، فقررت تبديل العقوبه وجعلها شهران باضافة شهر اخر اليها ، وهكذا يكون قد خرج الجواهري من المحكمة الى السجن المركزي في بغداد ، لقضاء مدة عقوبته الشهرين بدلا من شهر واحد وهكذا ايضا يكون قد وظفت المسالة الدينيه لأغراض سياسيه للنيل من الخصم حقدا وكيدا ..

واما عن ردة فعل الجواهري عن الحادث وتعليقه على التهمة والعقوبه وتأثير ذلك عليه سيأتيكم لاحقا في القسم الثالث








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجبهة اللبنانية تشتعل.. إسرائيل تقصف جنوب لبنان وحزب الله ي


.. بعد عداء وتنافس.. تعاون مقلق بين الحوثيين والقاعدة في اليمن




.. عائلات المحتجزين: على نتنياهو إنهاء الحرب إذا كان هذا هو الط


.. بوتين يتعهد بمواصلة العمل على عالم متعدد الأقطاب.. فما واقعي




.. ترامب قد يواجه عقوبة السجن بسبب انتهاكات قضائية | #أميركا_ال