الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القدس في ثوب نوفمبر

تامر المصري

2009 / 11 / 2
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


في ذات يومٍ، قبل ما يقارب الخمسة والخمسين عاما، كانت الثورة الجزائرية ضد الغزاة، مشتعلة بجذوة أسرت القلوب والعقول، تضع لنفسها سقفا جسد أيضا أرضية الانطلاق، في انسجام كامل مع الذات الوطنية الجزائرية، التي تنشد التحرير وجلاء قوات الاستعمار عن التراب الوطني، سعيا إلى الاستقلال وإعلان الدولة الديمقراطية. يومها، كان الجزائريون قد دشنوا ثورتهم، بمفهوم إنساني رفيع المستوى، في الفاتح من نوفمبر {تشرين الثاني} عام 1954م، وقطعوا شوطا في النضال والجهاد، ضد سُراق الأرض ومضطهدي الإنسان، فيما عاطفة الأمة تتشكل من جديد، على معاني التحرر، والتخلص من العبودية الأجنبية، وصولا إلى الخلاص الكامل، وشطب اصطلاح الاحتلال، بمفاعيله المركبة في يوميات الناس، من قاموس التداول الشعبي، من المحيط إلى الخليج، لتوازيه "الثورة" لغة واصطلاحا وتطبيقا، وتبادره بالفعل وتقابله برد الفعل.

حتى أن سنين الخمسينيات الأخيرة، كانت تحمل معها ما يؤهلها، لأن تكون موعد العد العكسي، في عمر الاحتلال، وعمر الشقاء الذي تأبدت به شعوب عربية مختلفة، كان على رأسها الشعب الجزائري الشقيق، وهو ما أعانت عليه الجماهير العربية، من خلال مسيرات المناصرة والتعاضد، الممتدة على رقعة الوطن العربي الكبير، من مراكش وحتى البحرين، فكانت إذا ما خرجت مسيرة في الجزائر، خرجت أخرى في القاهرة تؤيد مطلب مسيرة الجزائر. وهكذا الحال ارتسم بلوحة جماهيرية جامعة للأمة العربية، في ذروة الفخار القومي، المنبعث من القاهرة، على إيقاع مواقف الزعيم جمال عبد الناصر، فيما كانت الثورة الجزائرية مهماز تلك الجماهير ومحركها الأساسي، استشرافا للنصر، رغم جرح فلسطين المنفتح في جسد الأمة حديثا آنذاك، بحسابات عمر النكبة، فلم يمر عليه سوى عشرية سنوية واحدة أو ما ينوف عليها قليلا، بثلاثة أو أربعة أعوام.

في ذاك الزمن، حيث أوج الثورية، التواقة إلى التحرر، بدا للفلسطينيين أن الشعوب وحدها إذا هبت، فإنها حتما ستنتصر، وليس أوفى من درس الجزائر، التي كانت قد نالت استقلالها صيف عام 1962م، دلالة وتعبيرا، فانبرى رجال كانوا وقتها في أعمار متقاربة، يفككون المشهد الجزائري، ويحللون دروس النصر، وأسباب الفداء وتعاليله الوجدانية في سبيل الوطن، وهو فداء عظيم، ليبدأ بعدها التخطيط الرشيد لبعث الروح الفلسطينية، من فوهتي بندقية وقلم ثائر، وتنطلق الثورة الفلسطينية، في الفاتح من يناير عام 1965م، استلهاما من الثورة الجزائرية، ووصالا بها على درب مقاومة المحتل، حتى دحره، سعيا نحو الاستقلال.

كان اليائسون عربا وعجما؛ يتندرون وقتها، على المقاومة الفلسطينية في بداياتها، رغم التعاطف الجماهيري الجارف معها، في أهلية المقاومين، وقدرتهم على المطاولة في النضال، فلم يتوقع البعض منهم صمود الثورة الفلسطينية لأشهر قبل أن تندثر، فيما الثوار الفلسطينيون، يمنون أنفسهم بما حصده أشقاؤهم الجزائريون. وللدلالة، بدأت تنظيرات مستوجبة، يستخدمها المثقفون الفلسطينيون، الذين كانوا ظهيرا للثوار، استشهادا بتجارب الآخرين، لتتجلى الجزائر الأنموذج المحتذى، والمثال المقتدى. وفي الثورة الجزائرية عبر وصور أخرى، ليس أولها أن الاحتلال مهما طال فإنه إلى زوال، وأن الشعوب هي حامية أرضها، وأن التضحيات العظيمة، وإن بلغت المليون ونصف المليون من الشهداء على درب الحرية، فإنها ستؤتي أُكلها، طال الزمان أم قصُر، وأن الثورات لا ينسحب عليها، وصف الاحتلال لها، حتى وإن نعتوها بالتمرد أو العصيان أو الإرهاب، وأن المقاومة حق مشروع للشعوب الواقعة في شباك الاحتلال.

بافتراض واقعي، جسد استقلال الجزائر، درسا عظيم الأثر في نفوس كل الأباة الساعين لحرية أوطانهم، فكانت الرمزية الجزائرية مستوفاة الشروط، في استلهام فلسطين وشتاتها لها. وليس من قابلة التصادف، أن تكون جبهة التحرير الوطني، عنوان الشرف والجهاد، ورأس حربة الجزائريين في مقاومتهم للمحتل الفرنسي، وأن تكون حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، رائدة الكفاح الفلسطيني المقاوم المقدس، وعنوان النضال والتضحيات الجسام، على خطى منظمة التحرير الفلسطينية، فللاسمين اصطلاح مركب وموحد (التحرير الوطني)، وللاصطلاحين سمة مشتركة، تتضح في قيادة ثورتين، نبتتا من رحم المستحيل. بينما تؤكد أيديولوجيات كل من الجبهة والحركة للتحرير الوطني، أنهما انحازتا منذ البداية، إلى الحاضنة العربية، بوصف العرب الجدار الحامي لهما، وأنهما كانتا على قدر زمام المبادرة، والأكثر استشرافا بنية العدوين على اختلاف المعطيات، بانتزاع عروبة فلسطين ومن قبلها الجزائر، فكان الانحياز القومي لهما أسمى من أي انحياز آخر مُدعَى.

في مصر، كان رجلان قلما يجود الزمان بدورة تاريخية تفرز مثلهما، يدرسان ويخططان أيضا، لطريقة يكون فيها الخلاص من الاحتلالين، الفرنسي في الجزائر، والإسرائيلي في فلسطين. تقاسما خطا زمنيا متقاربا، ولا أدري إن كانا قد تعرفا إلى بعضيهما البعض، في قاهرة المعز لدين الله الفاطمي تلك الأيام، ولكن المؤكد أن كلا منها كان يحمل قضية في ضميره. الأول كان يدرس في جامعة الأزهر الشريف، واسمه محمد إبراهيم بوخروبة، بينما الثاني يدرس الهندسة المدنية في جامعة القاهرة، واسمه محمد عبد الرءوف عرفات القدوة الحسيني. فيما القدر يخبئ لهما المزيد من خطوات النضال، ليتحولا بعد سنين إلى رمزين عربيين، تبكيهما الشعوب ما بقيت الذكرى، فيصبح الأول؛ هواري بومدين، قائدا وطنيا تحرريا جزائريا متفردا، ويصبح الثاني ياسر عرفات "أبو عمار"، رمزا وقائدا ثوريا فلسطينيا مقاوما، وكأنهما قد أسقطا عن نفسيهما عبودية الذات، فأنكراها، وخلعا عنهما أسميهما الحقيقيين، إيمانا بقهر الأنا عند عتبات الوطن، واستبدلاهما بأسماء سيعرفها العالم جيدا، لتعبر عن ملامح ثورية، مبنية على البذل والعطاء والإيثار. حتى في صعودهما الأخير، تتمثل أسباب استشهاد الرجلين، في لغز التسميم غير المعلوم حتى الآن، مع فارق زمني مقداره ستة وعشرون عاما، من 27 كانون الأول من عام 1978م، وحتى 11 تشرين الثاني من عام 2004م.

يكاد لا يختلف في الروح، النصان الموجهان في بيانين مختلفين لهدف واحد هو التحرير، الأول المحرر بنكهة ثورية من جبهة التحرير الوطني الجزائرية عام 1954م، والثاني الذي بثته حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح عام 1965م عشية عملية عيلبون الشهيرة. وتكاد جميلة بوحريد تستنسخ جميلات أخريات في فلسطين، بعد حين، دخلن على خط الكفاح المسلح، منذ ما قبل ليلى خالد وما بعد دلال المغربي. إنها علامات فارقة، في أحداث تملي نفسها بالتشابه والإلهام في البلدين الشقيقين، عسى النصر أن يكون شبيها لفلسطين فيما بعد بنصر الجزائر، ونعلن الدولة الفلسطينية المستقلة فوق ترابنا الوطني، على غرار إعلان استقلال الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية عام 1962م.

أما اليوم، فإن فلسطين وهي تزف أبناءها الشهداء، أحياء عند ربهم يرزقون، فإن القدس تتزين في ثوب عروس العرب الثقافية، كعاصمة يستوجب الاحتفاء بها دائما، وهو ما استحث الذاكرة بما استوفت، لتبوح بما يخالجها، من مقاربة فلسطينية مع النموذج الجزائري، أصل الإلهام، سيما ونحن نرى حجم الاهتمام الصدوق، الذي توليه الجمهورية الجزائرية، للقدس كعاصمة للثقافة العربية لعام 2009م، وكأنني أراها ـ أي القدس ـ في ثوب فرح جزائري، على موعد مع النصر والتحرير بمشيئة الله، سيما وأننا نرانا نعبر عن فلسطينيتنا بروح جزائرية، ونصرح عن جزائريتنا بنفس فلسطيني. وبين هذا وذاك تبقى الجزائر مع فلسطين ظالمة ومظلومة، ولا أكثر من هذا نريد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بوتين يتعهد بمواصلة العمل على عالم متعدد الأقطاب.. فما واقعي


.. ترامب قد يواجه عقوبة السجن بسبب انتهاكات قضائية | #أميركا_ال




.. استطلاع للرأي يكشف أن معظم الطلاب لا يكترثون للاحتجاجات على 


.. قبول حماس بصفقة التبادل يحرج نتنياهو أمام الإسرائيليين والمج




.. البيت الأبيض يبدي تفاؤلا بشأن إمكانية تضييق الفجوات بين حماس