الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفضيلة الأم

طارق الهاشم

2009 / 11 / 3
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان


اشتهر كتاب الراحل ادوارد سعيد >الاستشراقالانثروبولوجيا او الاناسةعبء الرجل الابيض< النازع لكل آلية للمقاومة ولو معنوية من ايدي المحكومين·



ولكنه وبرغم استعمال مراكز الاستشراق لتلك الثيمات المعممة عند دراسة الشعوب المتهورة، فإننا ولسوء الحظ نجد ان الكثير مما كتب على ايدي المستشرقين كان صحيحاً، ألم يكن المستشرقون أمثال بركهارت أدوات الفتح الاوروبي الاولى قرون استشعاره ان جاز ان نقول- ألم تكن مراكز الدراسات تلك هي المخزون الفكري لخطط الاداريين والعسكريين الغربيين، والرافد لقرن طويل من الاستقرار الاستعماري في بلاد العالم الثالث· كيف نجح الانجليز مثلا في ادخال زراعة القطن للجزيرة وتوطين العرب الرعاة بالاقليم، ليتحولوا في اقل من جيل إلى مجموعة من المزارعين، كيف ادخل الفرنسيون زراعة التصدير في غرب افريقيا، مدمرين اسس مجتمع الكفاية الذي تميزت به المنطقة منذ عهد ممالك مالي والصونغاي، او كيف استطاع الاميركيون تحويل مجموعات الزنوج المجلوبة من غرب افريقيا كاحرار مشهورين باعتزازهم الشديد بانفسهم، ويمكن ملاحظة ذلك اليوم في شعور الغانيين بالتفوق وحتى بعض الغرور، كيف تمكنوا من تحويلهم خلال اقل من جيلين إلى امة منكسرة كان عليها الانتظار حتى منتصف القرن العشرين للمطالبة بحقوقها المدنية· بالتأكيد كان ثمة قدر كبير من الصحة في ما ذهب إليه اولئك النفر في مراكز بحوثهم· وبرغم اعتراضنا البالغ على ما وظف فيه هذا العلم، فإننا لا نستطيع انكار صحة الكثير من نتائجه، لانها قد ثبتت بالتجربة المعاشة·



ومن هذه النتائج ما يمكن أن نسميه بالفضيلة الام· كل شعب ينظر إلى فضيلة مركزية قد ترتقي به إلى الاعلى وقد تهبط به، ولكنها تظل موجودة فيه· فمثلاً الفضيلة الكبرى لدى الصيني هي بر الوالدين، ومنها يمكن اشتقاق النزعة العشائرية القوية لدى الصينيين، هذه النزعة التي جعلت التكتلات الاسرية الصينية في بلاد المهجر ماليزيا والولايات المتحدة مثلا، مؤسسات مالية صناعية ناجحة· وهي التي ساهمت في استمرار ارتباط هؤلاء المهاجرين الناجحين ببلادهم، مما وفر كثيرا من الخبرات ورؤوس الاموال الضرورية لنهضة القطاع الخاص في الصين، ومن بر الوالدين يمكن اشتقاق فضيلة الطاعة الصينية ايضا، ونكران الذات والتضحية من اجل الاهل· ولكن هذه الفضيلة ساهمت في تخلف الصين، فمنها جاء الخنوع تجاه ظلم السلطة والنفاق ومحاباة الاقارب وسهولة التمييز ضد الغرباء، وهم هنا صينيون من خارج العشيرة وغيرها من الرذائل المشابهة، كل هذا يأتي في اطار التمسك بفضيلة بر الوالدين· وهكذا في اطار التزام الشعب الالماني بالنظام الذي هو جماع الفضائل هناك والصورة الاستشراقية- بمعنى تعميم الخواص على الشعوب- التي تجعل الالماني صانعا ماهرا وباحثا عن الجودة والانضباط في مكان عمله، ولكنها تجعله ايضا حارسا نازيا في معسكر اعتقال يبذل كل ما اوسعه لتنفيذ حرق اليهود والغجر بنفس الدقة والانضباط، ويمكن قول نفس الشئ عن الطليان المحبين للحياة وايقونتهم الحياة الحلوة، فهم يمكن ان يكونوا اناسا رائعين راعين للفنون ولذائذ الطعام والملابس الجميلة والسيارات الممتعة حقا مثل فيراري ولامبورجيني، او أشخاصا كسالى محبين للكسب السهل مثل النشالين في ميلانو او رجال المال والسياسة الذين تزكم فضائحهم المستمرة الانوف في ايطاليا·



والآن يمكن تطبيق هذا الأسلوب على كل شعوب الارض تقريبا· وليتذكر القارئ اي شعب يعرفه، ولينظر إلى فضيلته الام، وكيف تطبع الشعب كله بمنسمها في حال الشدة والرخاء، وفي حال التقدم والتراجع· وان سأل سائل ما هي خصائص السودانيين مثلا؟ وكيف ينظرون إلى انفسهم؟ وما هي الفضيلة الام لديهم؟ كيف تؤثر فيهم بالسلب والايجاب؟ فإن الاجابة تكون الشجاعة والكرم، اسأل اي سوداني ما هو جماع الفضائل سيجيب الشجاعة والكرم· وقد ترتقي هذه الفضائل بالسوداني فيعرف وسط الناس بانه >أخو البنات< او >عشا الضيفان< او >الثور الكبير< وقد تنحدر به إلى مزالق الطيش فيكون همباتيا او جنديا متلافا لماله على الاصحاب· ويمكن ان نعزو إلى هذه الفضائل احساس السوداني البالغ بالفردية والشجاعة الادبية، وبعده عن الخنوع لاية سلطة كانت، وهي فضائل خبرها المستعمر، فجعل السودان مخزنا هائلا للجنود يدفع بهم إلى كل بقاع الأرض من الحبشة إلى بلغاريا وروسيا، مرورا باليونان واريتريا وحتى المكسيك، عالما ان الجندي السوداني يخوض الحرب للذة الحرب نفسها وليس لمغنم يتأتى منها· وادرك ان السوداني يثور سريعا فجعل قياده في يده وتحاشي الاحتكاك به ما امكن، وارسى في التعامل مع السوداني- وانا اعني الانجيز- اقصى درجات العدل، بعكس تعامله مع الهنود او حتى المصريين· وبالطبع لا ينطبق هذا الكلام على حالات التمرد ضد السلطة المستعمرة التي كانت تقابل بالحسم السريع جدا والوحشي اطفاءً للنار في مهدها· وعلما بأن السوداني يثور دون الحاجة إلى سبب· وقد يفسر هذا عدم استقرار السوداني ابدا، ولربما كان قدره الا يستقر، وذلك بسبب ميل اهله إلى الثورة دائما خوفا من وصمهم بالجبن، وقد يكون الكرم الزائد ايضا سببا في ان لا يحصل لدى السودان تراكم رأسمالي، وانا اظن انه السبب الرئيسي وقد يجعله البعض ثانويا، فالسوداني مطالب بانفاق ماله على القريب والبعيد، والا عد جبانا بخيلا، ويتكفل الاقارب والاباعد بالقضاء على ثروة اي شخص في مهدها، وذلك عبر تحميله ما لا يطاق، وتعييبه اجتماعيا ان لم يتلزم· وكان الناس حتى وقت قريب ولربما حتى اليوم، ينظرون إلى المال على انه من اسباب الشقاء، ويذمون صاحبه ويصفونه بالحرص، ويتهمون اولاده بالغباء وقلة الهمة، الامر الذي جعل الثري في السودان يموت في الغالب مفلسا، ويضطر ابناؤه للبحث مجددا عن طريق لتكوين الثروة، وهكذا نجد أنه يمكن إعادة الفقر وانتشار الفوضى بقوة في بلادنا إلى تأثير عوامل متعددة، ولكن ان نظرنا تحت السطح نجد ان الاسباب الكامنة في فضائلنا الام قادرة على الاطاحة بكل جهد يبذل للاصلاح، ولا يمكن حكم شعب او اصلاحه دون وضع فضيلته الام في الاعتبار· ويخطئ من ظن أنه يمكن تجاهل إصلاح القيم الكامنة في الوعي الجمعي لشعب ما، ومحاولة اصلاح هياكل حكمه السياسي أو الاقتصادي دون الطرق عميقا في نفسه·










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمريكا تزود أوكرانيا بسلاح قوي سرًا لمواجهة روسيا.. هل يغير


.. مصادر طبية: مقتل 66 وإصابة 138 آخرين في غزة خلال الساعات الـ




.. السلطات الروسية تحتجز موظفا في وزارة الدفاع في قضية رشوة | #


.. مراسلنا: غارات جوية إسرائيلية على بلدتي مارون الراس وطيرحرفا




.. جهود دولية وإقليمية حثيثة لوقف إطلاق النار في غزة | #رادار