الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقاطع في حيز العابر 5

يوسف ليمود

2009 / 11 / 5
الادب والفن


حجاب
هذا البلد يتنفس الفساد كما يجتر النفايات ويلوكها. نفايات كل شيء: الدين، الأخلاق، الأفكار، الفن، الحضيض...

وصل الي القاهرة، ولأول مرة في زياراته وطنه، بشعور المنفصل. كأن بينه وما يدور حجاب، إلى حد أن فكّر أنْ والله لو تنقّب الرجال وتعرّت المحجبات في الشارع، لن تهتز شعرة في رأسي. لكم دينكم ولي دين. ما جئت لأخوض في وحلكم، بل لأنظر ما لا تنظرون: درجة النور في الأثير، الشمس على أديم هذه الأرض، والصحراء، حيث الله ذائب في العدم. أما الواقع، ذلك البرص المزمن، فقد تهرأ وانسلب، جُوِّع ونُهِب، ديس بالحذاء وليط به، غُيِّب إلا عن غرائزه الأكثر وحشية وخفاءً، تحجّب وتعهّر، في نفس واحد!

في نفس واحد قالا (هو وصديقته وهما يشربان): إنها مرحلة وسوف تغور. هكذا التاريخ: من أسفل إلى أعلى، والعكس.
قال: لكن ليس في حياتنا.
قالت: لا يهم.



سخام
لن يقول جديدا حين يقول إن النصوص: الفن والشعر والأدب... كما كل شيء في هذه الدنيا، هي أشياء عابرة، تقطع قوس مسافتها في الزمن وتصير أثرا، خربشة على حجر التاريخ. هذا طبيعي وصحي أيضا. لكن غير الطبيعي والمَرضي، أن يُلاك نص ما في فم الواقع على مدار القرون والأزمنة باسم المقدس! "هل على الأرض ما هو مقدس وما هو غير مقدس؟" يتساءل بورخيس في تعجب.

واقع وطنه مصر، يمضغ لبانة المقدس التي اتسخت بأفواه أربعة عشر قرنا أدردَ! إلي متى وإلى أين؟ وياليتها مرنة هذه اللبانة. إنها تشبه الكاوتشوك الأسود، أو القار، يسيل يغطي يكتم كل شيء: الأصوات، الوجوه، العقول، الأرواح، الأجسام... سخام.


قمر
القمر الذي التمع في دماغي وأنا أغوص في النوم، أسال فضته والغبطة في أعضائي وهي تغرق. لا بد أنه قطع آلافاً من هكتارات الروح وصحاريها وقبورها، قبل أن ينبثق فجأة هكذا. جهات مجهولة، آفاق وعتمات، أحملها وأسير بها. لا بوصلة للوصول إليها. لا شمال ولا جنوب. لا شرق ولا غرب. انبثاق فجائي لقمر غريب، يسكب فضته والغبطة، لحظة الغرق في الموت اليومي الصغير الذي النوم اسمه. ماذا عن الغرق في النوم الكبير؟ شمس أم عتمة؟


صورة
نمل جائع، هزيل، خامل، مريض، مداس، مغبر، على شفا هاوية. وملكة متخمة، منتفخة، متقيحة، على شفا هاوية. وجحر متداع على شفا هاوية
لا النمل، رغم الخوف، يبالي بملكته، ولا الملكة تذكر أصلاً أن لها نملاً وجحراً
هذه صورة بلده. ادخلوها بسلامٍ آمنين


يقظة
يغمرني الجفاف زمناً. أتحرك، رغم الحضور، في الغياب. كأني نائم والواقع حلم. أروح أجيء أسمع أتكلم أصمت أشرد أتجهم أتألم أبتسم في الوجوه أشيح البصر عن المناظر أنام ولا أحلم (حين يكون الواقع هو الحلم تنام الأحلام). أمشي في القيظ غير آبهٍ بالقيظ أستحم في العرق أتجفف في النسمات أغوص في الزحام في الصخب في فقر الشعب في أمراضه في جهله لا يمسّني سوء، كشعرة من عجين. أمشي حتى نخاع هيكلي فتبين مني الروح وينبلج رخام رؤيتي ترن عليه كما الفضة مقاطع أفكاري أو أفكار مقاطعي. أصبح فوهة اليقظة. اليقظة التي، في فصل تالٍ، سوف أراها نوعاً من سبات، أو حلماً داخل حلم!


حدبة
مر الأحدب، ونبح الكلب الواقف وسط الشارع. المسافة بين صدر الأحدب المنكفئ على الأرض وبين الأرض، كيس غير مرئي يتسع بالكاد لكومة عظامه. نباح الكلب قياس صوتي لمسافات عقله، وحدته، مخاوفه. صمتي على المقهى يرقب. الوجود مرمي على ظهري حدبةً تصرّ فيها العظام والأصوات والمسافات. ليس صمتي باراميتر لأقيس به حدبة هذه اللحظة المبعثرة كعقل كلب!


بحّة
حضرتُ ياسين التهامي ليلة أمس. شاخ. لكن صوته، كعمامته والجلباب، لم يشخ. كلمات ابن الفارض والسهروردي والحلاج والجبلي ورابعة العدوية لا تعنيني. يهمني صوته. بحّته بالأحرى. كلمات هؤلاء تموج في حبال صوته كطوفان يجرف الأرض. صوت التهامي أرضي، بل هو أرض. رنّته، أو لمعته، من معدن غير المعادن التي نعرفها، لكنه خارج من الأرض. صوته امتلاء وفحيح. الهيكل الذي يخرج الصوت منه فيه شيء من الكوبرا. كوبرا على الخشبة تحت سماء مصر القديمة ومن ورائه مئذنة ابن العاص تبدو قزماً في يد الزمن. بين المئذنة وبين المنشد، مسافةً، ألف متر تقريبا. وبينها وبينه، زمناً، أكثر من ألف عام. صوت ياسين يحمل تراب وغبار وتأوهات وأحلام السنين الألف التي أنجبته وجهّزته. لكن بحّة صوته حين تنفلت منه الـ آه، تروح خلف الزمن والحساب. إنها عواء صوت وجد نفسه على كوكب لا قرار فيه ولا جواب. ينادي فيرتد إليه الصدى فيظن لسذاجته أن هناك مجيباً فيلوّن مناجاته بمقامات العشق فينخسه العدم في إشراقاته فيصّاعد حتى البحة فيغيب في تلاشيات جمالها فيظن أن الحجاب انكشف فيعود ينادي... هل كان لصوت التهامي أن يفرد لآلئه العريضة لولا هذه المتاهة المنتصبة عليها مئذنة كشاهد قبر؟


لون
المدينة فم أهتم. أمشي في الشوارع العريضة الجبين، المشروخة بالزمن. العمائر منكسرة عيونها. متاهة من أزقة. طوفان من وجوه محفورة من صلصال البؤس. الشمس. واللغط. ودودة الدين تمص في جثة الواقع. والرب هلام مصروخ به. وأنا على قدمين، ممسوس بسحر البياض، بلذة التعب. متوضئ بذاتي، خفيف، مكتفٍ، لا أُمسّ، مطأطئ الخطو، بإرث من رخام البساطة وحجر الكبرياء، أتدحرج في أسطورة الراهن. أهيئ نفسي أو نفسي تهيئني لانبثاق الشكل وقبضِ المعاني. أدخل في حقل من فتات الفكر وقمح التأمل، أنا من يهزّه ضمير التراب. ظلي على الأرض المداسة يسيل عليه في لحظةٍ كهرمان الروح. انسكاب أعرف أنه عابر، كما ظلي، كما حيّزي الذي سوف يدهنه غيابي بلون كالغبار.

رغوة
اجسادهم، كما العناكب، تنسج شِباكَ الآن الذي، هو الأمس وغدا وربما الأبد. مويجات لامرئية آتية من الغابر، يرتطم زبدها في شواطئ الصدور أو حجارة القلوب. ينحسر الزبد عن خيوطٍ علق فيها الحب الكره الرغبة النفور العطف الحقد إلى آخره. لغط من مشاعر وفيض من دم في مواسير الوجود. رغوة. يسحبها المد إلى ما وراء شطآن تتآكل. إلى لغط سلالات تنتظر في مشيمة العماء.
بم يعود الجزر من مدّه؟

يوسف ليمود
النهار اللبنانية









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا