الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شذراتٌ من دفاترَ ضاعت / عفريتٌ من جنِّ سُليمان !

يحيى علوان

2009 / 11 / 5
الادب والفن



فـي ظهيرة ربيعية حلـوة مـن عـام 1985 .... السماءُ نظيفةٌ ، كأنهـا صبيّـةٌ مُغرِيَـةٌ خَرَجَتْ من الحمّامِ تَـوّاً ...
قُرصُ الشمس يتأرجَـح على قمـة جبلٍ مُتَـوّجٍ بالثلـج ، ينتصِبُ قبـالتناِ فـي وادي خـواكُورك .
أشـعّةُ الشمس صـافيةٌ كالعسـل ... تُنَشِّفُ مـا خَلَّفَـه الشتاءُ من رطوبـةٍ لاذعـةٍ تَرَسَّبّتْ فـي العظـام ...
الأرضُ تَنزَعُ رداءَ الثلـجِ ، فتفـوحُ رائحتُهـا ..... تُذكّـرني برائحـة طفلـةٍ ، " أودعتُهـا ! " هبـاءً أعمـىً ، كانت عندما تشبعُ وتدفَـعُ ثـديَ أُمَّهـا تلهـو بـه وتُناغيـه ، أو تتخاصـمُ معـه فتضربـه مثلَ قِطَّـةٍ صغيـرة تلعبُ بكـرة الصـوف ...!

::::::::::::::::::::::::::::::

بعد الغداء ، دَخَـلَ فصيـلُ الأعلام فـي دهليز القيلولة ...
نوبةُ الحراسةِ كانت من حِصّتي ذلك اليوم . جلستُ تحـتَ شجـرةٍ مُعمِّـرةٍ ، تتكِـأُ علـى ظِلِّهـا . عَلّقتُ تَعَبي على شفرةِ زهـرةٍ ، أرخيتُ البندقيةَ فـي حُظنـي ... وأَدرتُ مفتـاحَ الراديو الصغير فـي جيبي .
.......................
........................

طائرُ السنونو الرشيقُ ، لا يدري إلـى أين يطير ، مفزوعـاً من شخيرِ القصف ، حيثُ يرتَـجُّ الضـوءُ مذعـوراً مع كـلِّ إنفجـار ...


أُنصِتُ ، أُرخـي أجفانـي فـي قلبـي ، وأُحَـدِّقُ فيـه ، فأسـمعُ ...
هـا هـو الخـوفُ يـدًقُّ طبـولَه فـي صـدري ، أيـنَ اُخبئه ؟
ثمَّ أَسألُ نفسي لمـاذا الخـوف ؟ فالرصـاصةُ ، التـي ستُصيبُني ، لـن أسمـعَ
صـوتَها ، والقذيفـةُ ، التـي أسـمعُ صوتَها ، ستكونُ عَبَرَتنـي ...
أَيكـونُ خَـوفَـاً مِـنْ مُخـاطَـرةِ أَنْ تَنظُـرَ الصـورةُ فـي المـرآة ..؟!
..........................
..........................

على السفح المقابلِ لَنـا ، قصفٌ متـواصلٌ . فالقـواتُ الإيرانية تشقُّ طريقـاً عسكرية داخلَ الأراضـي العراقية ... أدلاّؤُهـا حُلَفـاؤنـا !!
إقتَرَبَ ( أبو جعفر)* مني ، يُخبرني أنـه لم يستطع النومَ ، فآثـرَ سقايةَ مزرعة الخُضـار ....
يهتـزُّ المكـانُ جَـرّاءَ قذيفـةِ مدفعيةٍ سقَطَتْ علـى كَتِـفِ الجبـل ، الذي بخاصـرته نلـوذُ ... ننتَحـي بأنفسنا خلفَ صخـرةٍ عظيمة ، فيواصِلُ ( أبو جعفر ) الحديثَ كـأنَّ القصفَ ليس موتـاً ، بَـلْ جملـةً إعتراضيةً فـي كـلامٍ أَهَـمْ .... لكننـي أُحـبُّ بساطَتَـهُ ، طيبتَه وإخلاصَـه وتفانيـه ، الذي لا يباريـه ، إلا ( أبـو سُهيل)**
خَفْـقُ أجنِحَـةٍ ، يقطَـعُ الحـديثَ .... أُتـابِـعُ سِربـاً مـن الطيـرِ مفزوعـاً يغـادِرُ أعشـاشَـهُ ، مَخـابِئَـهُ ...
أرى شـيئاً رماديـاً يَلـصِفُ فـي السماءِ يتّجِـه ناحيتَنـَا قادِمـاّ مـن عينِ الشمس .... دونَ صـوتٍ أو ضجيـجٍ ، كأنـهُ طائـرُ القُطرُس ، خبيـرٌ بتضاريسِ الهـواء ، يمتطـي ظهـرَ الريـحِ فـلا يحتـاجُ خَبطَـةَ جنـاح ....
ينقطِـعُ حبـلُ الكـلام ، وبحـركـة لا إراديـة ، يمُـدُّ كـلٌ منّـا يـدَه إلـى كَتِفِ الآخـر ، كأنـه يريـدُ إيقـاضَ نـائم أو إنتزاعَ حالـمٍ وجَرجَرَتَـهُ إلـى اليقظـة ، ثـم بحـركـةٍ سنكرونيةٍ تمتَـدُّ السُبابتانِ نحـو ذاكَ الشيء الطافـي ، الواضِـحِ
مثلَ نواياه الغامضـةِ ، حَـدَّ الإلتباسِ تمـامـاً .....
.............................
.............................
لا تَعـرِفُ السمـاءُ الـ" بينَ ، بينْ " ،
إمـا أنْ تمطُـرَ خيـراً أو قحطـاً ،
رحمَـةً أو عـذابـاً ... هكـذا تَعَلّمْنـا !
أَيـنَ أضعـهُ الآنَ فـي هـذه المعـادلـة ..؟!
..........................

لـم يُمهلني برهـةً للتأمُّـل ، قامَ بحـركـة رعنـاءَ فـي وادٍ ضيِّـقٍ نسبياً ، لا يسمح كثيـرأ بمنـاورةٍ إنتحاريـة كهـذه .. إنقضَّ مثلَ حجـرٍ سقَطَ من عـلٍ ، Dive ، إتكـأتُ علـى عصـايَ ، نهضتُ وفتحتُ
أمـانَ الكلاشـن ، جَـرَّنـي ( أبو جعفر ) من ظهـري وصـاحَ : " أمجنـونٌ أنتَ ؟!"
بمـا لا يزيـدُ علـى خفقـةِ قلـبٍ ، مَـرَّ من فوقنـا ، واطئـأً ، مُعتَدّاً بكفاءته ، مُتَحديـاً ، حتـى بانتْ بـراغي جسـم الطائـرة ... ثـمَّ إستدارَ برشاقة دلفينٍ سيركٍ ، كـادَ يُلامِسُ الجبَـلَ ،
تـوارى ...
خَلَّـفَ مـا لا تُـدانيـه الصاعقـةُ من ضجيجٍ ، رجرَجَ الـوادي ،
إبتلَعَـه جُبُّ السـماء !!
........................

لـمْ تُنذِرنـا ، يا هـذا ، قبـلَ مجيئكَ ! كُنّـا أجرينـا مـا يلـزم لإستقبالك !
فالقريشيونَ والبـدوُ ، عمومـاً ، إن إقتربـوا من مَضرَبٍ أو بيتٍ ، حمحَمـوا وتنحنحـوا ، إشـارةً لقـدومِ ضيفٍ أو سـائلٍ !! .... تُـرى مَنْ تكـون ؟
::::::::::::::::::::::::::::
عَقَـدَت الدَهشَةُ لسانَينا ... أتكـونُ منـاورةً لتجـريبِ الكفـاءةِ ؟ أم رسـالةَ إنـذارٍ : " قـادرونَ أن نصِـلَ إليكـم أَنّـى شِئنا !! "
أوَّلُ مـا خَطَـرَ ببـالي ، أنـه جـاءَ يستكشِفُ مـوقِـعَ الإذاعـةِ ومُـرسلاتِهـا ، ثم
يعـودُ بعـدهـا ليُكمِـلَ بقيَّـةَ " المهمّـة " !
رصـاصتينِ مُتتابعتين أطلَقتُ على الفور ، إنـذاراً بالإنتشـار .... وبقيتُ أُحَـدِّقُ بإتجـاه قُـرصِ الشمس . فقـد يكـرّرُ المحـاولـةَ ، بعـدَ أن جـرَّبَ فـي المـرَّةِ الأولـى ...

لـمْ يَطُـلْ الإنتظـارُ حقّـاً ... ظهَـرَتْ فـي الأفُـقِ بقعَـةٌ رمـاديـةٌ تنزلِـقُ مــعَ
خيـوطِ الشمسِ ، بإتجـاهنا ....
تسـاءلنا : " مـاذا تُـراهُ فاعِـلاً هـذه المـرّة ؟ " لكنّنا لـم نفكـر بمـا يمكننا أنْ
نفعَلَ ! ... تَسَمّرنا !
فالدِفـاعاتُ المُضـادةُ للطائـرات ، من صـواريخ ستريللا ودوشـكا نُقِلَتْ إلـى موقـعِ موصه لوك ، على مبعـدةِ ساعة عنّا ، أمـلا فـي تأمين الحمايـة لنـا ولمقـر القيادة من هناك ...

مـالعمَـل ؟!
:::::::::::::::::::::::::::

شُـلَّةُ رصـاصاتٍ وأخـواتِهـا من الصـواريـخ والقـذائف ، مودَعَـةٌ فـي " بيتِ النـار " ! ، تَتَرَصَّـدُكَ ، تُحصـي أنفاسَكَ ... كيفَ تتصَرَّفُ مَعَهـنَّ ؟ كـيفَ تُقنِعُهـن أنْ يُضرِبنَ عـنْ الإنطلاق ؟! أَنَّـى لكَ تَتَعَلَّـمَ السـحرَ كـي تَتحـاورَ معهنَّ ، هـنَّ المصوّباتِ إليكَ ، المُصـرّاتِ علـى إنـدماجِ الحديـدِ باللحـم !!

أهـوَ رصـاصٌ ربّـانـيٌ ، رؤومٌ ، لا يُريـدُ لكَ سـوى أنْ تَتَـوَحَّـدَ مـعَ الأرض ؟!
كـي تعـودَ إلـى سيرَتِكَ الأولـى .... تـراب ؟!

.... أيـا زمنـاً لـم ينوَجِـدْ بعـدُ ،
أَيـا زمـانـاً يأتـي مـن خلفِ السحاب ،
ها أنـذا أُديـرُ لكَ وجهـي ،
باسماً أنتظـرُ الظلمـةَ ، باسمـاً أمـوت فـي زمـنٍ أجـرَب ....
الحمـدُ لنعمَتـه مَنْ أعطانـا الليلَ !!... صمتُ الكـونِ وسادتُنا ،
والظُلمَـةُ فـوقَ مناكِبنـا سِـترٌ وغطـاء ،
فالليـالـي الحُبالـى ، يَلِدنَ ضُحـىً مُجهَضـاً ، جاءَتْ إشـاراتُه مـن مرصَـدِ الغيبِ ، فكَشَفَ العُلمـاءُ الثُقـاتُ عـنْ سِـرِّهـا : " مـا منْ غـودو ، تنتظـرْ !
تَصَـرَّفْ !!

مـاذا تنفعنـي لُغَـةٌ صـافِيَـةٌ ، خُلـوٌ مِـنْ بعثَـرَةِ الدلالاتِ والرمـوز ؟!
إذن للريـحِ سأُحَمِّـلُ لُغَـةً تَسوحُ فـوقَ الرمـلِ ، أُخفيهـا فـي أَفواهِ حُـداةِ الأِبِـلِ الهائمـةِ على وجهِ الصحـراء .......
::::::::::::::::::::::::::
::::::::::::::::::::::::::

خيَّمَ هـدوءٌ صـارمٌ ، مثـلَ حجـرٍ صلـد ...
لـمْ نَعُـدْ قادريـنَ علـى الخـوفِ واليأسِ أكثـرَ ممـا فَعلنـا ،
ولـم يبـقَ أمـامَنا سـوى المشيِ بخطىً رصينـةٍ فـوقَ أديـمٍ منقـوعٍ بالدمـعِ والدم ...
قلـوبٌ أَسيانـةٌ ، تبكـي دِمامَ زمـنٍ لقيـط ... !
... الحمـدُ لسلطانـه مَنْ أعطانا ألاَّ نختـار !!
فلـو إخترنـا ، قد نكونُ أخترنـا أخطـاءً أكبـرَ وحياةً أقسى ،
مَـنْ يـدري ؟!
:::::::::::::::::::::::::
:::::::::::::::::::::::::
هـا هـو ، مـن جديـدٍ يتزحلـقُ مُتَخفِياً بعبـاءةِ " أبولو " ... تَتَمَلَّكُني رغبـةٌ
طفوليـةٌ رافَقَتني حتى بداية المراهقَةِ ، فـي الحصـولِ على " طاقيـةِ الإخفـاء "
...وتجتاحني رغبـةٌ شديدةٌ أنْ أرى وَجْهَهُ ، أتفَحَّصُ ملامِحَـه ، كيفَ يجلِسُ في قَمرَتِـه ، وبيده " عصا القيادة " أمامَ لوحةِ تحَكُّمٍ تَلمِضُ فيهـا أضواءٌ صغيرةٌ ، مختلِفَةُ الألوان ... بمـاذا يُفَكِّـرُ ؟ أَتُراهُ يعـرِفُ أَحـداً منّـا ؟ أو كانتْ له خُصـومةٌ معَ أَيٍ مِنّا ؟ أيكـونُ أَحَدُنـا " إنتزَعَ " فتاةَ أحلامِـهِ ، دونَ أَنْ تدري أو يدري ؟! أَمْ تُـراهُ فَقَدَ واحِـداً من أَعِزّتِـه في "لقاءٍ" مع الأنصـار ؟ أَمْ تُراهُ لا هذا ولا ذاك ، " مَلاكـاً يُنَفِّذُ مـا تَـأمُرُ بـه الآ لهــة ؟!! "
:::::::::::::::::::::::::::
:::::::::::::::::::::::::::
يَقْشَعِرُّ بَدَني ، وأنـا ألمَحـهُ يَقَتَرِبُ مِنِّا ، كأنّنـا نُحَـدِّقُ فـي عـينِ بعضٍ ...
الناظـورُ يُؤكِّـدُ تآمُـرِهِ معَ " أبولو "، الـذي يستره بشعاعٍ من ذهب ..
صـاحَ (أبو جعفر ) : " وين الستريللا هِسَّه ... ؟! "
:::::::::::::::::::::::::
وقبلَ أَنْ أُجيبه ، إنزلـقَ " الطائرُ " الغريب من فوقِ رؤوسِـنا واطئاً ، واطئـاً جداً ، حَسِبناه مـَسَّ ذؤاباتِ الشجرِ ، الذي راح يختضُّ ، فتتلوَّى مـا جـاءَ بهـا الربيع من طرِيِّ الأغصان ، وأنـه على وشـكِ الإنتحـار أمامنـا كـأيِّ طيّـارٍ إنتحاريٍّ ياباني ، ممن كانوا يُسمّونَ بالكاميكاتسا ، حتـى رأيناه بقمْرَتِـه ، وأُقسِمُ أنـي رأيته يرفعُ يسراه مُلَـوِّحَـاً نحونـا ..
::::::::::::::::::::::::
::::::::::::::::::::::::
بخِفَّـةِ طائـرِ السنونو ورشاقَتِه يرتفعُ شاقوليَّاً ... صليلُ سيفِ مُحرِّكـاته يذبحُ هـدوءَ المكـان ....
وعندما يصيرُ فـوقَ القمةِ ، يتخَفَّفُ مـن بعـضِ "حُمولتـه ! " دون أن يُصيبَنا بأذىً ...
:::::::::::::::::::::::::
على موجة أَفْ.أَمْ 96 نسمعه يبلِّغُ قاعـدتَه بكـلامٍ يُفتَرضُ أنْ يكـونَ مُشفّراً : " الشايب بعده نايِمْ ... شعر راسه كله أبيض .. لكن الهديه وصلته "!
وكان يريدُ بذلكَ أنَّ قممَ الجبال مازالت مُغطـاةً بالثلوج مما يعرقِلُ أي زحفٍ نحـوَ المنطقة .. وأنه أنجـزَ مهمـةَ القصف !
::::::::::::::::::::::::
::::::::::::::::::::::::
تباركتَ ! عفريتاً من جنودِ سُليمانَ ، يَمتطي الريـحَ عـاتيةً ، يـأتيه قبـل أَنْ يَرتـدَّ إليه طَرْفُـه ..... وَصَلَتْ رسالتُكَ !!
شـكراً كثيـراً ..





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* إداري فصيل الإعلام المركزي ، مهندِسٌ زراعـي تَخَّرج من هنغاريا
** مهندس كهرباء ، كان مسؤول قسم الهندسة فـي إذاعـة "صوت الشعب العراقي" .. ( ي. ع. )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حول العالم | لوحات فنية رسمتها جبال الأرز في فيتنام


.. سكرين شوت | صناعة الموسيقى لا تتطلب آلات فقط بل أيضاً إحساس.




.. أول ظهور لفنان العرب محمد عبده بعد إعلان إصابته بالسرطان


.. «جمع ماشية ورحيم ومرادف البؤس».. أسئلة أثارت جدلًا في امتحان




.. تششيع جنازة والدة الفنان كريم عبد العزيز