الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا أقبَلُكَ كما أنتَ، فهل تقبَلُنِي كما أنا؟؟

نسرين طرابلسي

2009 / 11 / 7
حقوق الانسان


لم يكن التسامح يوما فطرة الإنسان رغم أنه من أنبل الرايات التي حملتها الأديان السماوية والثورات الإنسانية. لأنه مفهوم يتطلب وعياً عميقاً بحقيقة الذات، وطبائع البشر. وهو مؤشر حضاري، قياساً عليه نكتشف أن عالمنا برمّتِهِ عالمٌ متأخر.
سأختصر لكم معنى التسامح كما حدده المؤتمر العام لليونيسكو في دورته الثامنة والعشرين بتاريخ 26 نوفمبر 1995:
"إن التسامح يعني الوئام في سياق الاختلاف وهو واجب سياسي وقانوني أيضا، يسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب. وهو ممارسة ينبغي أن يأخذ بها الأفراد والجماعات والدول. إنه مسؤولية تشكل عماد حقوق الإنسان. وعليه فالمرء حرٌ في التمسك بمعتقداته وعليه أن يتقبل تمسك الآخرين بمعتقداتهم".
التسامح لا يشبه أبدا المفاهيم التي تسيّر العلاقات بين الناس في أغلب الأحيان. فهو ليس مجاملةً لطيفة تنقضي بانقضاء اللقاء، ولا نفاقاً آنياً تقتضيه مصلحةٌ متبادلة، ولا هزة رأس توهم الآخر بأنك معه بينما يسرح خيالك بعيدا عنه، ولا مسايرة للتيار تنأى بك عن وطيسِ نقاشٍ وتحميك من سهامِ الصراحة المطلقة التي قد تنغرس في صلب درعِ معتقدات الطرفين.
التسامحُ نافذة مفتوحة لكلِّ النسائم، تهبّ باتجاهين. وبابٌ مشرعٌ يحميهِ حارسٌ وحيد، لا يتأبط سوى سلاحٍ واحد هو الاحترام. ولا أعني بالتسامح أبدا مغفرة الأخطاء التي يرتكبها في حقنا الآخرون. ولا أعني به أيضا السكوت عن جراح الكلام لتنزف باستمرار دون أن تكون نتيجتها موت الجسد بل موت الروح. فانتشال نصلِ الأسى من الجرح مؤلمُ أكثر من لحظة الطعن، وبعد حكةِ البراء وزمنِ الاندمال تبقى ندبةٌ أبدية. فهل من رامٍ طائشٍ يفكر بكل ذلك قبل أن يطلق السهم؟
التسامح معنى فضفاض يتطلب بالضرورة طرفين لعلاقة سامية. بل ويتشعب ليشمل كل الأقطاب المحيطة بالمرء. الأمر أشبه بأن تكون مصبّاً يتسع لكل السواقي الصغيرة التي تعبر بك. فيختلط الماء بالماء ويخفف العذبُ ملوحةَ الأجاج. ولإتاحة الفرصة لهذا الانسياب والتمازج لا بد أولا من إزالة كل الحواجز الوهمية العالية التي تقف حائلا بيننا وبين الآخرين. ولا بد من التخفيف من أكداس المتاريس التي نحتمي وراءها خوفا من أولئك الذين لا يشبهوننا، أو يشبهوننا بدرجات متفاوتة.
لا أدعي أبداً أنني وصلت إلى مطلق المفهوم السامي للتسامح. بل قضيت عمري كقنفذ صغير، يتكور نافراً أشواكه في وجوه الغرباء وأسباب الخطر. وأجدني اليوم نادمة على كل مرة لم أتحل فيها بالجرأة الكافية لأمد يدي وأتلمس الجمال الخفي لأشخاص حفلت بهم حياتي بينما كنت منسحبة داخل قوقعتي ورأسي مرتاح... فهل عشت بسلام؟
العمر علّمني أن من كانوا يشكلون لي رعباً كنت بالنسبة لهم كابوساً. وكان يتبدى لهم خوفي رغم كل الأقنعة الباسمة المنشّاة، لتعلو بيننا أسوار شائكة حالت دون عبور مريح إلى الضفة الأخرى. وأثبتت التجربة أن الابتعاد مريح وناجع ويوفر علينا الوقوع في حقول الاختلاف الملغومة، لكن النضح ممزوج بمرارة الندم على ما فات، وللزمن لمسات سحرية تمسح ببياض النسيان كل السيئات وأسمائِها وتحفر بإزميلٍ وجوها فقط على جدران الذاكرة.
ستكون بدايةً جيدةً أن نتقبل الغير بلا اندفاع، لنتجنب التصادم. فنرسم الحدود بالطباشير، ونحاول القفز فوقها كالأطفال. سنجد أن ذلك ممتع وأشبه بلعبةِ مشاركةٍ جماعية. وعندما نتبادل النصيحة، فلنغلفها بورق ملون ونتبادلها شاكرين، كالحلوى، عوضاً عن أن ندسَّها كحبة دواء مرة وجافّة وابتلاعها عسيرٌ مهما بلغت فوائده.
ليكن أهمّ بند في أي صكٍ إنساني: أنا أقبلكَ كما أنتَ، فهل تقبلني كما أنا؟
عندها ستطير أسراب من الحمائم بيننا وينبت لنا عند اللقاء ريش مكان الذراعين وتتفتح أبواب السماء... وربما يهدأ غليانُ الأرض.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - بداية موفقه
عبدالعزيز ( 2009 / 11 / 7 - 10:59 )
بداية موفقة عزيزتي.. ولكن لا يمكن خلق مجتمع جميع من فيه متسامح.فإن التامح فطرة كما ان الكراهيه هي فطرة لو جاز لن وصفها .لايمكن ان نجعل الجميع قلوب بيضاء !!

انا اعترض ان نحصر التسامح في الاديان السماوية وكأني فهمت ذلك من خلال ما قلتيه .ولكن تلك الاديان السماوية المزعومة لا تدعم التسانح فضلا ان نصوصها لا تحرض على التسامح وتقبل الاخر واخص هنا الاسلام لكونه الدين الذي يفرض نفسه على المجتمعات .فإنه لا يقبل التسامح الا بشروط لا يمكن تقبلها في وقتنا الحالي.


2 - تعليق
سيمون خوري ( 2009 / 11 / 7 - 13:37 )
السيدة الكاتبة ، تحية موقف إنساني جميل ، ومادتك تعبر عن إحساس مرهف الى جانب اللغة الجميلة الشاعرية . فعلاً نتمنى أن يتحلى الجميع بصفات التسامح والتواضع . مع الشكر لك .

اخر الافلام

.. آلاف الإسرائيليين يتظاهرون للمطالبة بإبرام صفقة تبادل فورية


.. طلاب نيويورك يواصلون تحدي السلطات ويتظاهرون رفضا لحرب غزة




.. نقاش | اليمن يصعد عملياته للمرحلة الرابعة إسناداً لغزة ... و


.. لحظة اعتقال قوات الاحتلال حارس القنصل اليوناني داخل كنيسة ال




.. حملة أمنية تسفر عن اعتقال 600 متهم من عصابات الجريمة المنظمة