الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد عارف...اللوحة الأخيرة

بسام مصطفى

2009 / 11 / 7
الادب والفن



عندما عملت عام 2008 على إصدار كتاب للكاتب الكردي الأرمني (وزير أشو) من خلال وزارة الثقافة في إقليم كردستان العراق، وحين تُرك لي حرية إختيار لوحة لأحد الفنانين الكرد لوضعها على غلاف الكتاب الذي احتوى قصصا وروايات قصيرة تدور معظمها عن معاناة الكاتب وشعبه من الهجرة والنزوح من موطن الآباء والأجداد إلى بلاد الغربة والإغتراب لم أجد لوحة أجمل وأكثر تعبيراً عن هذه المعاناة التي عانى منها كل كردي في مرحلة ما من مراحل حياته من لوحة للفنان التشكيلي الكردي الكبير الراحل د. محمد عارف وهي عبارة عن درب طويل وعلى جانبي الدرب أشجار عالية وفي نهايته البعيدة ثمة جبل مغطى بالضباب وفي وسط الطريق مهاجرون يتوجهون صوب البعيد حيث الجبل.
حينها لم يدر ببالي أنّ عيناي ستقعان يوماً ما ومن على صفحات أسبوعيتنا-روداو- على خبر مهول وهو عبارة عن رسالة لأحد أبناء الراحل د. محمد عارف يناشد فيها رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني بخصوص ما حصل من إهمال كبير في المشفى الجمهوري بمدينة أربيل وسوء معاملته من قبل أطباء وممرضات المشفى المذكور وهو في غرفة العناية المشددة مما أدى وبشكل كبير إلى وفاة الفنان التشكيلي الكردي الراحل محمد عارف.
إن موت د.محمد عارف بهذا الشكل المأساوي يقودنا إلى متابعة هذا الوضع الصحي المزري والسيء في إقليم كردستان. فإذا كان فنان معروف بقامة د. محمد عارف قد لقي هذه المعاملة اللإنسانية وعديمة الرحمة فما الذي سيلاقيه عامة الشعب والآخرون من المهمشين والمسحوقين وما أكثرهم في وطني سيما بعيد إضمحلال الطبقة الوسطى وتلاشيها رويداً رويداً؟! هل فعلاً هذا الواقع الصحي "المريض" لا يهم مسؤولي الإقليم وذلك كما يُشاع ويُقال أن لا أحد منهم تداوى ولو مرة واحدة في كردستان وإنما في أي مكان آخر ما عدا كردستان!! تساؤلات برسم الإجابة ولكن هل من مجيب؟
يروي آلان محمد عارف بحرقة لا مثيل قصة موت والده بالتفصيل ويحذر كل من يهمه الأمر ومن لا يهمه من خطر موت وإختفاء القيم الإنسانية في وطني التي طالما حارب البشر من أجل تعميمها وتثبيتها ويشكو آلان من الإهمال الفظيع الذي تعرض له والده ذو الإبتسامة الأبدية والحس المرهف ويقول: "كنا في المشفى الجمهوري. ساء وضع والدي. نادينا على طبيب ما لكن وللأسف لا حياة لمن تنادي. ومن ثم طلبنا عون الممرضات في المشفى لإلقاء نظرة على والدي وهو في غرفة العناية المشددة ولكن لم يأت أحد منهن بل وأبدين إنزعاجهن من طلبنا مساعدتهن. هل تعرفون لماذا؟ لأنهن كن جالسات في صيدلية المشفى وكنا نسمع من هناك صوت قهقهاتهن وهن يتجاذبن أطراف الحديث دون حياء أو وازع من ضمير."
لن نأت على كل ما ذكره آلان محمد عارف من وصفه لحالة المشفى والاطباء والممرضات والمعدات وأجهزة المشفى المذكور والتي ساهمت إلى حد كبيرفي وفاة الفنان الراحل محمد عارف، لكن ثمة خواطر وأفكار هاجمتني بعيد قرائتي لكل ذلك. فهل من المعقول أن يُعامل فنان كردي خدم طوال حياته الفن الكردي وعبر من خلل ريشته الباهرة عن آلام الكرد ومعاناتهم وكان علما من أعلام الفن الكردي المعاصر يفتخر به الكرد ليس في العراق وحسب بل وفي طول كردستان وعرضها وفي العالم بهذه الطريقة اللا إنسانية والفجة التي لا يجب التعامل بها حتى مع ماسح أحذية! وهل وصلت القسوة وتحجر القلوب لدى من يسمى بملائكة الرحمة إلى فقدانهم ولو لذرة من الرحمة والتعامل الحسن؟ هل قيمة وحياة الإنسان في عراقنا وكردستاننا رخيصة إلى هذا الحد العجيب؟ هل خلق الله البشر أنفاراً فلا يهم إن نقص نفراً أو زاد؟
"طلبت العون من ممرض هناك وعندما وصلوا كان والدي يسلم روحه الى بارئها...بلا أمل وبلا طبيب وضعيفا مستسلما تطلع إليّ أمسك بيدي ووضعها على جهة قلبه ثم تنفس للمرة الأخيرة وأسلم الروح." ذكرتني شكوى نجل المرحوم د.محمد عارف بعادة يبدو أنها باتت من خصالنا. فالتاريخ والتجربة أثبتت أننا لا نقّدر مبدعينا حق قدرهم إلا بعد موتهم ورحيلهم عن دنيانا الفانية. ويبدو أن طاقم المشفى الجمهوري قد أسرع بموت عارف حتى يعرف الكرد قدره ويقّدروا إبداعه وخدمته للفن التشكيلي الكردي! لكن فلأقل أن هذا ما يحصل عادة في شرقنا هذا طولا وعرضا إذ لن تقدر عيون ما رأت سوى الخراب والدمار وأنهار الدماء والعنف، وما تنسمت سوى رياح النميمة والدسيسة جمالاً يتجسد في لوحة من لوحات محمد عارف أو قصيدة من قصائد شيركو بيكس أو رواية من روايات محمد أوزون أو أغنية من أغاني آرام ديكران.
في عام 1982 وفي مشفى المواساة بدمشق مات من الإهمال والنسيان شاعر سوري شاب كان إسمه رياض صالح الحسين ورغم انه كان مصابا بالصم والطرش فلا يقدر على نطق الكلام بشكل جيد، لكن ترك رغم حياته القصيرة أربع دواوين طازجة ورغم تقادم بعض أفكارها الآن إلا أن تلك الروح الحية والدفاقة فيها ما تزال منبعاً للأحلام وحب الحياة والإنسان. وبعد مرور ثلاثة عقود يموت في هولير وهي الرئة التي يتنفس منها الكرد، فنان كردي سّخر ريشته وأفنى سنوات عمره في خدمة شعبه وإظهار الوجه الحسن للكرد وخلد بريشته وجوه الرجال والنسوة الكرد وطبيعة كردستان الخلابة وجبالها ومناظرها الساحرة؛ يموت فناننا من الإهمال وموت الوجدان والضمير.
أعتقد أن ما حصل لمحمد عارف وهو عليل وعلى فراش الموت في غرفة العناية المشددة في المشفى الجمهوري بهولير عاصمة إقليم كردستان لهي اللوحة الأكثر تعبيراً التي لم يستطع أن يرسمها ويهديها لنا جميعا. وما موت المبدعين على إختلاف أطيافهم سوى خبر حيث تبقى أعمالهم خالدة وحيَة دوماً.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال