الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في شأن الحب والموسيقى وأحلام كثيرة

مسعود عكو

2009 / 11 / 7
الادب والفن


بدت لي حزينة حلب ذلك المساء، أغنية كردية للفنان الكردي خليل غميكن كانت ترافقنا أنا والسائق في التاكسي الذي نقلني من كراج هنانو إلى المدينة، أغنية حزينة لحبيب يتذكر حبيبته في الليالي التي تمر عليه بدونها، إنها حلب مرة أخرى ولكن خالية من ما كان ينتظرني في كل مرة، إنها ليست هنا كما كانت دائماً.

إنارة الشوارع وشارات المرور، وبعض المارة، إضافة إلى الكثير من السيارات التي تمر بسرعة تجاه مقصدها، رائحة سيجارة شممتها، كان السائق للتو أشعلها، قال لي: أتدخن؟ قلت: لا، قال: السيجارة مضرة ولكننا تعودنا عليها، ما العمل؟ قلت: هناك الكثير من الأشياء والعادات مضرة في حياتنا، ولكننا لا نعيرها أي اهتمام، قال: معك حق، وبدأ يستنشق السيجارة وكأنها أنثى يقبلها من فمها.

حديثنا كان بالكردية بلهجتي الجزراوية ولهجته العفرينية، كان السائق من إحدى قرى ريف عفرين الكبير، هذا الريف المليء بمئات الآلاف من أشجار الزيتون والرمان والتفاح، وغيرها من أشجار سهل جومة وشيخ الحديد أو شيه بالكردية وجنديرس، إضافة إلى قمم جبال عفرين الخضراء.

نزلت في إحدى شوارع حي الأشرفية متقصداً منزل صديقي الذي سأبيت عنده الليلة، هاتفته وأنا في طريقي إلى حلب مستقلاً مقعداً في إحدى حافلات شركة جوان تور. كلمته وأنا تماماً على جسر قره قوزاك، بعد أن عبرنا مفرق عين العرب أو كوباني الكردية بعدة دقائق. أنا في طريقي إلى حلب وسأكون ضيفك الليلة، قال صديقي: أهلا وسهلاً، أنا بانتظارك. كان يفصل بيني وحلب عند هذه المكالمة حوالي مائة وأربعون كيلومتراً.

معرفتي بحلب قليلة قياساً لمدينتي الصغيرة القامشلي، ودمشق التي لا أكف أبداً عن زيارتها، لكني أعرف بعض العناوين التي لا تضيع أي أحدٍ، حلب كبيرة جداً ربما أكبر من عدة دول عربية، وهي الصين السورية للصناعة وعصب الحياة فيها، ولا شك أنها بلد ألذ المأكولات، إضافة إلى النساء اللائي يلبسن الأغطية السوداء.

فتح الباب، قبلنا بعضنا البعض، قال تفضل. صديقي رجل كريم جداً، يحب العرق كثيراً، يقول لي أني شخص طيب ولكن لدي عيب واحد، وذلك أنني لا أشرب الخمر بكل أنواعه. أسئلة كثيرة عن الحال والأحوال والعمل والأهل، كان عشاءً لذيذاً من حواضر البيت، ألذ أطباقه كانت أنواع عديدة من الزيتون والعطون. قلت لمصطفى أنني مرهق وأريد النوم، خلدت بسرعة للنوم تلك الليلة.

فطور كعشائي ليلة البارحة، كان مصطفى قد جهزه قبل أن يوقظني، فطرت معه وثم توجه هو إلى عمله، وانتظرت أنا وحيداً في الدار، خرجت بعد أن اتصلت بعدة أصدقاء، توجهت إلى مقهى السياحي، أشهر مقاهي حلب، يتردد عليه كتاب وصحفيو حلب وغيرها، ناهيك عن العديد من الزوار، إنها في أسفل بناء فندق السياحي، المطل على ساحة سعد الله الجابري الشهيرة في حلب.

قهوة تركية طلبتها من النادل، بعض المارة كانوا يمرون بجوار النافذة التي جلست بقربها، إنه شارع القوتلي، ذكروني بها عندما كنا نمشي باتجاه سوق العبارة، كانت فتاة جميلة ورقيقة وتعرف جيداً كيف تحب، لا شعور أجمل من أن تقصد مكاناً وأصابعك تعانق أصابع أنثى تجيد العشق والكلام الطيب.

زفير لم يريحني خرج من رئتي، كأنه تنهيدة حسر في قلب كئيب، لقد رحلت دون رجعة، غادرت بعيداً، كانت أجمل شيء حلمت به في حياتي، إنها أجمل معزوفة قد عزفتها، وجهها كان يشع بالحب، لقد استلهمت ألحاني من عينيها اللذيذتين، أعين عسلية وكأنها عيني قطة تومض في ليل حالك. رحلت وأنا أعزف لها لحناً للعشق والهيام.

كانت القهوة قد وضعت أمامي وأنا غارق في أحلامي النهارية وأنا يقظ، ارتشفتها كانت حارة، لقد لدعت شفتي بها، قطع صغيرة من البسكويت هي ضيافة المقهى مع القهوة أو الشاي، تناولت واحدة ورجعت إلى المارة، قرأت على وجوههم الهموم والأحزان، الفرح الممتزج بالكآبة، كان بعضهم سارحاً بل غائباً عن وعيه. لم أتمالك نفسي اتصلت برقمها، ردت علي عاملة المقسم بأن هذا الرقم مغلق أو خارج نطاق التغطية، كنت أعرف هذا الرد، ولكن شوقي لها دفعني للاتصال برقمها، لعل هذا الاتصال يرد بكلمة ألو. لكن لا جدوى إنها ليست هنا لترد على هاتفها، أصبحت بعيدة جداً، لماذا لم أحذف رقم هاتفها حتى الأن؟ لم أكن أعرف جواب هذا السؤال، لقد رحلت وهذا الرقم سيدخل في الخدمة بعد عدة أشهر، لكن باسم شخص أخر، قد لا يكون أنثى أو قد يكون أنثى، بكل تأكيد لن تكون الفتاة التي كنت أنتظر ردها حين طلبت الرقم.

خرجت وتمشيت ثم استقلت تاكسي باتجاه قلعة حلب الجميلة القديمة، وقفت أمام بوابتها نظرت إلى الزوايا التي كنا نقف وننظر من عندها إلى حلب، جميلة هي حلب وكبيرة عندما تشاهدها من فوق القلعة، هذه القلعة التي شهدت الكثير من التواريخ والأبطال، إنها تشهد حتى الأن على عظمة الإنسان في قديم الزمان، كما خط الكثير من العشاق أسمائهم في جدرانها، يا ليتني فعلت معها نفس الشيء، لماذا لم نحفر اسمينا في الجدران؟ لا أعرف!

رائحة العطور والتوابل والصابون الحلبي تفوح من داخل سوق المدينة القديم، دخلته قاصداً المشي فيه بعدما تركت القلعة مكانها، طبعاً سأتركها في مكانها لن أخذها معي، إنها كبيرة جداً. توقفت عند بعض المحلات أشاهد الشالات والأوشحة الحريرية كما كان يقولون، ربما هي نايلون ويقولون بأنه حرير، إنهم تجار حلب مجتهدون وأذكياء جداً، احذرهم عند البازار معهم. تلمست واحدة كانت نفس الوشاح التي اشترتها ولبستها لتغطي كتفيها العاريتين، والقليل من صدرها الذي كان بارزاً، طلبت ذلك منها لأننا حين مرورنا بعدة أماكن في حلب كان الكثيرون يتلصصون النظر إليها. إنه الوشاح ذاته ولكن صاحبته غادرت وتركتني وحيداً مع ألوانه ورائحة التوابل التي أغرقت السوق بأكمله.

خرجت من السوق بعد أن وصلت إلى الجامع الأموي في حلب، دخلته من بابه الخلفي، الباب المطل على السوق، تذكرتها عندما ذهبت إلى قبر النبي زكريا وقرأت بعض الكلمات، لا أعرف ربما لم تكن تقرأ الفاتحة أو كانت تدعو لشيء ما، كانت العباءة جميلة جداً عليها، لقد لبستها لأنه ممنوع دخول النساء اللائي يلبسن ثياب غير محتشمة، كما قال لنا الرجل الذي يعير العباءات مقابل القليل من الصدقة للجامع وخدامه.

في أزقتها الضيقة سرنا، تكلمنا كثيراً وضحكنا أكثر، كانت أجمل قصيدة قرأتها، إنها ما تزال بالنسبة لي أعذب معزوفة عزفها موسيقار على الإطلاق، أفضل حلم حلمته. صحوت فرأيت نفسي وحيداً، غادرت وتركتني وحيداً، لماذا غادرت؟ ما يزال قلبي وعقلي يتشاجران في الإجابة على هذا السؤال، لم يفلحوا حتى اللحظة بردود مناسبة على أسئلتي الكثيرة، تعبت جداً منها، باتت ترهقني وترديني صريعها.

استنشقت هواءً منعشاً، اتصلت بالشركة نفسها وحجزت للعودة إلى القامشلي، لقد تعبت من حلب، إنها فارغة بالرغم من ملايين البشر الذين يعيشون فيها، خالية من فتاتي التي قصدت حلب لكي أراها، بالرغم من أنني أعلم بأنني لن أراها، لكن كان قلبي يرشدني لاقتفي أثرها، لعل هذا الأثر يزيح عن قلبي غبار الزمن الأعمى، وقلبي أسير حب يزيدني ألماً على ألم.

تركت حلب حتى أني لم أتصل بمصطفى، كان متفهماً لما ألت إليه أحوالي، لقد تعبت يا مصطفى من الكلام والأحلام، تعبت من حبي الذي رحل فجأة، الحب الذي انتظرته كثيراً، لقد رحل، بل مات. ما يعزيني فقط بضعة كلمات كتبتها، وأغنية أدندن بها، وأحلام يقظة تراودني على الدوام، لقد كنت أحلم بكل ذلك، لا بل كان ذلك حقيقة خلقتها بيدي، لم أكن أعشق وهماً، كنت أعشق أنثى جميلة، غادرت حلب إلى مكان أخر.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال