الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طرائف ... ديوانيه 9 / 9

محسن صياح غزال

2004 / 6 / 8
الادب والفن


دُعــابة .... في حَـضْــرَة الجـلاّد !

بعيون تنبش الفراغ , منكبّاً على ورقة أمتحان الدِّينْ , أعتصر ذاكرتي وأسطّر ما تُسعفني به من أجابات . كانت سنتي الأخيرة في تلك الثانوية المسائية , كانت أطول وأثقل وأقسى السنين, كأنها الدهر بلا نهاية , ثانوية لرجال الأمن والشرطة والبعثيين .. جنباً الى جنب مع الشيوعيين والأسلاميين !!

صفوف تخالها أقبية للتعذيب .. كمن يجلس على جمْـرٍ .. أو خـازوق ! سُـحَـنٌ دميمة , كروشٌ وأوداج منتفخه
ب" سُـتراتٍ " ذات فتحتين منتقاة لذات الغرض : أبراز السلاح , لأرهاب الآدميين ! آذان تلتقط الأنفاس وتتسمع ضربات القلب , عيون ذئبية تتلصص الحركات والأيماءات , تسجلها , ترسلها تقريراً , في اليوم التالي نفتقد زميلاً غابَ , ويطول غيابه ... الى الأبد !

دقّــات على الباب , تشرأب الرؤوس تتفحص الطارق , مفوض شرطة ببذلته الرسمية , وقف هُنَيهَة يتفحص الوجوه , التفت ناحيتي , أستقرّت نظراته لحظات وكمن يعرفني ويعرف مكان جلوسي , وبنبرة شبه واثقه :

- أنت محسن صياح غزال ؟

بلعثمة وحيرة وأستغراب مشوب بالرعب أجبت .... نعم !

- تفضل ويّانا شــويّه

جملة عرفها وتعودها العراقيون , هذه " الشوَيّه " كفيلة بتغييب العراقي عقوداً ... أو الى الأبد ! وقبل أن أكمل حركة من يدي – علامة السؤال عن السبب- بادرني :

- لا تخاف .. كم سؤال وترجع لمدرستك !

حُشِــرت بين المفوض والسائق ذو النظرات الميته وعظام الوجنتين البارزه والشارب الكثّ بسحنته الفخارية المحروقة , لفّ الصمت تلك الأجساد المحنطة المتراصّه الا من صوت المحرك وشَخير أنفاس المفوض . طريق بدا أبعد من درب التبّانة , خوف , قلق وهواجس كئيبة ومرعبة تتقاذفني , مرَقت أمام عيني وجوه لأحبّة أرسلهم تقرير ٌ جاهل تافه ولقيط الى العالم الآخر . عصرت ذاكرتي علّني أتذكر شيئاً ما أستفزَّ قلم الشرطي ليتقيّح حقداً وتلفيقاً قد يلقمني رصاصة أو يسقيني ثاليوماً , وحين يكون رحيماً , سأعاشر الجرذان والحشرات والعفن.. والظلمة ... عقوداً !!

تجاوزنا الجسر , ضننت اننا في طريقنا الى بغداد , مما ضاعف قلقي وهواجسي , عبرنا صوب الشاميّه ويميناً
على الطريق المؤدي الى بغداد , لحظتها تيقنت أنني سوف لن أرى مدينتي ثانية .. فودّعتها في سرّي ! لكن البيك آب دلفت مخفر شرطة الشاميّه , تبخّرت غُمّة اليأس والرعب , لتترسّب هواجس وقلق وخوف من مجهول!
أشار المفوض الى غرفة معتمة , طرقت على الباب , تقدمت خطوة , تلاشت العتمة رويداً , ملامح آدمية تكشفت عند الزاوية القصيّه , ألقيت التحيه , لم أنتظر الرّد , فوجئت به يردّ مبتسماً بشوشاً : تفــضل .. قالها مجاملة وبأريحيّة غير معهودة من شرطي ! على يميني , قبالة الضابط , تقبع خمسة وجوه أعرفها وعاشرتها عمراً , عشرة عيون تحدق بي فَرِحه ومنشرحة , خمسة أشداق عريضه مبتسمة وسعيدة ! ما الذي يحصل وما هذا الذي أرى ؟ ضنون وحيرة وتساؤلات لم تجد جواباً , أمتحان , مفوض , سجن و ضابط وخمسة من رفقتي ... لكن ما
الذي يدفعهم للفرح , مبتسمين منشرحين تعلو وجوههم السعادة والحبور ؟

- هَــسّـه كِمـْـلَتْ .... قـــا بِلْ بَسْ احْنَــه ننســجنْ ؟

أيقضتني صرخة " قاسم الحمرة " من دوامة البحث عن تفسير لما يجري, قالها بفرح غامر وبنشوة المنتصر !

- شكو ياجماعه ... شنو اللّي صار ... فهْموني ؟
تساءلت ببراءة الجاهل المصدوم , وهنا جاء دور الضابط ليكمل الحكاية :
لم يكن هناك مدّعٍ ولا قضية ولاشهود , حكاية جاهزة وملفقة , ضد خمسة من " أعداء " الحزب والثورة !
شلّة الأنس هذه , طلاب في ثانوية نهارية تقع على الجانب الغربي للنهر , نشطاء شيوعيين , أعتقلوا بقرار جاهز وسيناريو مُعَدْ مسبقاً , وجِهَتْ لهم تهمة سَمِجَة تافهة : كَـسْرِ باب مكتب الأتحاد البعثي وأنزال صورة البكر والسيد النائب والدوس والتبول عليهما !! وكانت هذه التهمة لتفاهتها وسذاجتها كفيلة بأرسالهم وراء الشمس أو غياهب قبور مجهولة بلا شواهد !
أمام ضابط السجن , وترطيباً لجو السأم والملل والرتابة , تفتقت مُخَيَلة " قاسم ونجاح " عن فكرة مسليّة تبددُ
القلق والسأم وتضفي نكهة سرور وبهجة على الجمعِ ! : سيدي , معنا شريك في الجريمة , أسمه محسن ويدرس في الثانوية المسائية على اليمين الصف ج على اليسار الرحلة الثالثه ! ولهذا لم يجهد المفوض نفسه في البحث عني ! .
كان للضابط مشكلة في نطق الرّاء .. ( غ ) ومحاولة منه تمضية الوقت حتى دنو ساعة المحاكمة :

- ما عندك غَــغْـبَه .. تصير بعثي ؟

سألني وهو ينحني على منضدته متصنعاً الأهتمام !

- لا والله أستاذ ما عندي غَــغْـبه اصير بعثي !!

أجبت بسذاجة وعفوية طائشة , دون حساب لما تجرّه علي هذه الهفوة من ويلات وكوارث ! وقبل أن أُداري على غلطتي وتخفيف أو مواراة أثرها على الضابط , سقط " رياض الشبلي " على الأرض صريع نوبة ضحك مما أثار لدي شعوراً بالهلع والخوف خشية أن يستفزّ حنق وغضب الضابط , خصوصاً بعد ردّي اللاذع على سؤاله .
ما أدهشني أن الأمر تعدى دون أي رد فعل من قبل الضابط , وخاطر مرَّ في ذهني : أيكون هذا الضابط طيباً وبسيطاً ومتواضعاً حدُّ السذاجة والهبل , أم أنه غبي وجاهل وتافه بالوراثة أباً عن جَدِ ؟

بعد دقائق كنا نلعب " الزار " مع ضابط آخر وفي غرفة أخرى , ضابط من عائلة " آلبو دخن " المقيتة المكروهة والمحتقرة من قبل أبناء المدينة , عائلة جبلت على أمتهان أرذل وأخسّ وأحقر المهن , مهنة التجسس
والغدر والوشاية بأبناء جلدتهم .. مهنة المخابرات , الغريب أنه هو الآخر كان مجاملاً ودوداً ووديعاً ! لقد كانوا لطيفين وودودين ومجاملين , ليس حباً بخلقتنا , ولكن لعدم وجود ورقة أو أضبارة أو شاهد .. أو تهمة أساساً !

ساعة وكنّا برفقة شرطي خفر نقف أمام الحاكم بكل هدوء وأتزان وأدب , كان الطابور على يساري يقف بخشوع
ووجل , شابكاً كفّيه تحت الصرّة مبحلقاً في الحاكم وبصمت كئيب متشنّج يلفُّ القاعة الصغيرة , أنا الوحيد شابكاً ذراعيَّ على صدري- دون قصد – كمن يتأهب لنزال أو تحدّي , تقدم قاسم الطابور خطوة الى الأمام , حدّق بي بنفور وأمتعاض , تلفت صوب الحاكم ثم الطابور الخاشع بسَكِينَةٍ وجلال , أستدار نحوي ثانية, وبلغة جافّة آمرة :

- نــزِّل إيـــدَكْ .. و أوكَفْ بأدب .. ما تحترم جناب الحاكم ؟

نشف الدم في عروقي , وسابت مفاصلي , ولم تقوى قدماي على حملي , أنزلت يداي صاغراً , رمقت قاسم نظرة حقودة متوعده , متصنعاً أبتسامة بائسه .

- أنتم شباب يافع ومتعلم , ولا يبدو عليكم الأنحراف والتطرف , لا أريد أن أراكم ثانية , أذهبوا وأهتموا بدروسكم ومستقبلكم .

قالها الحاكم , وأغلق الملف ذو الورقة اليتيمة وأذن لنا بالخروج , تقدمنا قاسم مسرعاً وحال خروجه من القاعة ولّى الأدبار هارباً وصدى ضحكه يدوي في أرجاء صالة المحكمة .

محسن صياح غزال
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ندوة الرواية والفنون: روايات واسيني الأعرج أنموذجا- الجلسة ا


.. ندوة الرواية والفنون: روايات واسيني الأعرج أنموذجا- الجلسة ا




.. دوة الرواية والفنون: روايات واسيني الأعرج أنموذجا- الجلسة ال


.. أرملة جورج سيدهم تتبرع بقميصه في مسرحية المتزوجون بمزاد خيري




.. ندوة الرواية والفنون: روايات واسيني الأعرج أنموذجا- الجلسة