الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل 14 من رواية حفريات على جدار القلب

حبيب هنا

2009 / 11 / 9
الادب والفن


ـ14 ـ

كوابيس الحقيقة والوهم تضغط عليّ .. بيت حانون ، ومعبر المنطار ، ومفرق الشهداء ، وطريق " كفارداروم " ، وحاجز التفاح وبوابة صلاح الدين ، عدد الذين سقطوا ، وأنا . ميسون ، ولبنى ، الأولى تعاتبني في رسـالة موجزة وصلتني فـجأة من ألمانيا :
ـ أنت لا تستحقني ! لماذا تركتني أذهب ؟ أريد تفسيرًا لتنازلك عني !
قلت في سري : ليس لدي جواب ، أو ربما لم تكوني ناضجة بما فيه الكفاية ..
وفي يوم الإجازة فضلت أن أرى الأمور على الأرض لا أن أشاهدها من خلال شاشة التلفاز ..
ذهبت إلى المواقع المختلفة ، ومزجت النشوة بالأسى .. رنوت إلى فضاء احتشاد المفردات ولغة التفاهم تعج بالحيوية والحركة .. صفان متقابلان : واحد للدبابات ، والعسكر ، والرصاص الطائش ، وبحيرة طنين بعوضها يدق أوتار الانتماء .. والآخر لأمهات يدفعن زكاة الإنجاب ، واحداً عن كل خمسة ، وينتظرون وداعه عند المقبرة في صحراء وقحة عارية من الأشواك تتنصل من محيطها .
تخبو الريح ويتوقف صخبها .. تموج الأرض تحت الأقدام .. تلهث الحناجر وترتفع الأعلام .. سقط اليوم تسعة شهداء !
ومن وجود أرواح الذين ظفروا بالحسنى الأولى ترفرف في عنان السماء ، يستمد المندفعون ، التواقون للحرية شجاعتهم ، ومن شجاعة المندفعين يستمر العطاء ويبدأ التصعيد يأخذ أنماطًا جديدة لم تخطر على بال .
لنا الشهادة أو النصر ، ولهم الموت والعار ! هتافات يرددها المحتشدون كلما شيعوا جثمان شهيد إلى مثواه الأخير .. وكل يوم يسقط الشهداء ..
المسافة بين الرصاصة والرصاصة صرخة مكتومة ، وبين الانتفاضة والانتفاضة محطة نرتاح فيها ونصادر المستقبل !
تعصف الريح برمال أعصاب الصبايا فتستحيل إلى ذرات غبار تتناثر فوق المدى وترسم خريطة الوطن :
طفل بعمر الورد يخر صريعًا .. فتاة من ضفائرها تبني أعشاش البلابل في السماء .. عجوز بكوفيته يضمد جراحنا .. وأنا ولبنى الثانية على موعد مع القدر .
آه حسرة على أمة رجالها عنس ، نساؤها عقم ، شيوخها قعَّود ، بيوتها خِرَب ، مجدها أثلم ، عزها في الحضيض ، جواريها كرائم ، حكامها طوع ، نعالهم لا تخدش حياء البيض .

تقدم الطفل فحمل وهج الرصاصة صورة الشهادة .. قذف الحجر .. تحسس جسده المثقوب ، وكان يقترب من الحاجز أكثر فأكثر .. شكل الدم المنسكب ولونه الملائكي يغوي عينيّ المحايدتين على إطالة النظر .. التواء جسده قبل السقوط ينادي الناظرين ، يستحثهم على أخذ الحجر من يده ووضعه في مفردات اللغة ، ومصطلحات السياسيين .. تسجيله باسمه في متحف الاكتشافات الجديدة ، وسمه بالعلامة الوطنية الخاصة بأطفال فلسطين ..
خطوط الطول والعرض وهمية كلما اقتربنا منها لاحقتنا الطائرات .. قيل لنا : لا يجوز بناء الحلم في الوهم ، لنا الحقيقة ولهم الوهم ، يعيشون فيه بالقوة ، ونعيش نحن في الحقيقة بمحبة .. المعادلة ليس فيها أسرار ، ولا تقبل الاحتمالات .. لنا الأرض والسماء ، إما أن يكون كذلك ، وإما فلا .. ليس هنالك من حلول وسط !
قال عابر سبيل :
ـ على الحواجز يأخذون الأرواح ويكتمون الأنفاس ..
رد مراقب :
ـ وفي المستقبل نكتم أنفاسنا بأيدينا !
قلت
ـ " لا فرق بين مختلف أنواع الكواتم ،كلها تصادر حق الصوت في الانطلاق " ! .
وقبل أن أغادر آخر المحاور ، نظرت إلى ساحة الاشتباك .. كان جسدها عاريًا مهزومًا لا رغبة لديه غير اسدال الستار على الخذلان الذي تزامن مع اليوم الفائت الذي هبت منه رائحة التراجع عندما اشتدت المعركة .. انصرفت عنها حتى أتمتع بتفكير محايد ربما يجمل الهزيمة ويصورها انتصارًا ! وربما يدفع قوات الطوارئ الدولية نحو المطالبة بزيادة نسبة السمن والدقيق والأرز لفقراء شعبنا حتى يتمكنوا من الصمود وتقديم المزيد من الشهداء ! ربما .. وربما .. وربما ؟
كان العديد من العائلات التي قست عليها الظروف ومنعتها عزة النفس من التسول من المؤسسات الخيرية المختلفة ، يحاولون عبثًا التحايل على أوضاعهم المعيشية حتى لا يخرج من صدورهم آهة ألم يسمعها المقربون ، ولم تكن المؤسسات الرسمية ، وشبه الرسمية ، والخاصة مستعدة للنزول إلى الشارع وتحسس احتياجات الناس ، كأن لعبة التذلل أمامهم متعة تروق لهم ويفضلونها عن سواها في هذه الأجواء العاصفة بكل الاحتمالات المشبعة بتشفي اللئام من الكرام !
في ساحة الاشتباك ، سبحت ضد التيار عاريًا ، وعندما شاهدت النساء ينظرن إليّ انطويت على خجلي ، المرة الأولى التي ترى فـيها امرأة جسدي المثقب بالعيوب !
وفي طريق النكوص ارتسمت على وجوه بعض الأمهات الجزع وهن يشاهدن أطفالهن يواجهون المخرز بعيون لامعة لا تعرف الخوف ، فتوجسن حيارى بانتظار عودتهم .
وقبل أن أصل إلى نقطة البداية لمحت شيخًا أنهكته تجاعيد الشيب جالسًا على الرصيف يرقب المارة ، ولما وصلته تقابلت عيوننا .. قلت في سري وأنا أودع ملامحه : عرفت أناسًا كثيرين ، ولكن لم أر نظرة منطفئة مثل هذه النظرة التي ترقد في عيني صاحبها دون حراك كأنها فقدت مبرر تلقي الانعكاس الذي لا جدوى منه في أعقاب تكرار نفس المشهد .
وفي المساء جرعت أمهات الأطفال نشوة الحزن والرثاء .. وعند الأربعين أقمنا خيمة عزاء ودعوناهن لشرب القهوة الحلوة .. طلبنا منهن إعلاء صوت الزغاريد ، فهم شهداء أحياء ونحن أموات منذ سنين ..
وعلى هامش العزاء زخرت أحاديثنا بقصص معظمها من بدع الخيال ، غير أن وراء الأهم منها تختبئ الحقيقة التي لا تكاد تصدق .. تكمن التفاصيل بين طبقات صوت المتحدث الذي لا يلفت انتباه المستمعين ، وعندما يطفو على السطح ما يلهب الذاكرة ويعود بنا إلى الماضي ، نشعر أن التاريخ مزور باعتبار الأقوياء الذين يقدرون على تكاليف النفقة، هم الذين يسجلونه بالطريقة والشكل اللذين يرونهما مناسبين ، في حين أن الذين يصنعونه تصبح أسماؤهم مستعارة قد يختلف البعض حولها ..

































التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فريق الرئيس الأميركي السابق الانتخابي يعلن مقاضاة صناع فيلم


.. الممثلة الأسترالية كايت بلانشيت تظهر بفستان يتزين بألوان الع




.. هام لأولياء الأمور .. لأول مرة تدريس اللغة الثانية بالإعدادي


.. اعتبره تشهيرا خبيثا.. ترمب غاضب من فيلم سينمائي عنه




.. أعمال لكبار الأدباء العالميين.. هذه الروايات اتهم يوسف زيدان