الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القصيدة والأغنية

صبحي حديدي

2004 / 6 / 8
الادب والفن


كان لافتاً للانتباه أنّ الجهات الثقافية السورية الرسمية أبدت هذه السنة عناية خاصة بإحياء الذكرى السادسة لرحيل الشاعر السوري الكبير نزار قباني (1923 ـ 1998)، ولم تكن هذه حال وزارة الثقافة أو الإعلام أو اتحاد الكتّاب في الأعوام السابقة. فأل حسن، سوف يقول لك مَن تبقّى من رهط المتفائلين بأنّ هذا "العهد الشاب" يسير على طريق الإصلاح حتماً، وسيّان لدى هؤلاء أنّ السرعة تحذو حذو السلحفاة أو تسابق الأرنب. علامة خير، في أقلّ تقدير، كما ينبغي أن يقول أمثالي من المتشككين بحكاية الإصلاح تلك، من الألف إلى الياء.
ولقد شدّني، شخصياً، أنّ واحداً من الأنشطة المتعددة في إحياء الذكرى حمل عنواناً مثيراً هو: "الأغنية في شعر نزار قباني". ورغم أنني لا أعرف البتة كيف سارت تلك الندوة، وأيّ الجوانب تناول المشاركون (مقاربات موسيقية؟ مقاربات شعرية؟ مفاضلات بين هذه أو تلك من الأغنيات؟)، ولكني أعرف أنّ الموضوع غنيّ تماماً وبالغ الأهمية ليس على صعيد تجربة الراحل وحده، بل على صعيد هذه العلاقة الغامضة الخافية بين الشعر والموسيقى. وهي علاقة لا تكفّ عن اكتساب المزيد من جوانب التعقيد في ثقافتنا بصفة خاصة، منذ أنّ قالت العرب "مِقود الشعر الغناء"، وجزم حسان بن ثابت في بيت شهير: "تغنّ في كل شعر أنت قائلُه/ إن الغناءَ لهذا الشعر مضمارُ".
والأمر حرّك فيّ فضول دارس الشعر، فعدت إلى مسرد القصائد التي تحوّلت إلى أغنيات، واكتشفت ــ تماماً كما يكتشف المرء حقائق جديدة في معلومة قديمة ــ أنّ تلك القصائد ليست عديدة ومتنوّعة في ما يخصّ الموضوعات والأشكال فحسب، بل هي أيضاً عابرة للأجيال إذا صحّ التعبير. ثمة، على سبيل المثال، قصيدة "قارئة الفنجان" التي غنّاها الراحل عبد الحليم حافظ. وثمة، في المثال الثاني المختلف، تلك القصيدة الفاتنة التي غنّتها فيروز: "لا تسألوني ما اسمه حبيبي". ثمة، عند الانتقال إلى الجيل الراهن، تلك "الموجة النزارية" التي انفرد بها كاظم الساهر: "علّمني حبّك"، "زيديني عشقاً"، "كلّ عام وأنت حبيبي"، "حبيبي والمطر"، "أكرهها"، وبالطبع "قولي أحبّك"! وثمة ماجدة الرومي في "يا بيروت" و"كلمات" و"مع جريدة"، أو خالد الشيخ في "نهر الأحزان"...
وبصرف النظر عن الاختلاف الطبيعي في معايير الذوق وأنساق التذوّق بين زمان وزمان وجيل وجيل، فإنّ الصعب القول إنّ متذوِّق نجاة الصغيرة في "أيظن" و"ماذا أقول له"، يتذوّق بمعايير وأنساق قريبة أو متماثلة شعر الشاعر ذاته في أغنية أصالة نصري "إغضب". كذلك الحال في قصيدة "أصبح عندي الآن بندقية" التي غنّتها الراحلة أم كلثوم عشيّة هزيمة 1967، وقصيدة "القدس" المعاصرة بصوت لطيفة وكاظم الساهر.
والحال أنّ السؤال هنا يخصّ الشعر مباشرة، وأساساً، قبل أن يخصّ اعتبارات هذا الصوت أو ذاك، أو هذا الملحّن أو ذاك، وتحديداً بمعنى احتمالات الانسجام أو احتمالات الارتطام بين المفردة اللغوية والعلامة الموسيقية، وبين مختلف مستويات التجريد في فنّ الشعر وفنّ الموسيقى. ونحن هنا أمام فنّان فذّ كبير، أستاذ في كتابة الشعر بوصفه ممارسة نظمية ذات سويّة فنية رفيعة أساساً، وبوصفه رسماً بالكلمات، ورقصاً بها، وعزفاً موسيقياً على آلاتها التي لا حدود لطاقاتها. وهو، في ذلك كلّه، كان معلّماً بارعاً، ماهراً، حاذق الصنعة، شديد الذكاء في عرض صناعته، بالغ الحساسية إزاء تقلباتها وسكونها وحركتها، عالي المراس في التنبّؤ بما يمكن أن يجعلها رائجة رابحة أو راكدة خاسرة.
ونحن أمام شاعر أشبه بموسيقيّ راقص، يدندن بالكلمة ويعزف علي القاموس: "وصاحبتي إذا ضحكتْ/ يسيل الليل موسيقي/ تطوّقني بساقية/ من النهوند تطويقا/ فأشرب من قرار الرصد/ إبريقاً... فإبريقا"! وأمام شاعر يؤمن بوجود علاقة "قَدَرية" من نوعٍ ما بين الشعر والصوت، لأن "الشعر في الأساس صوت، وهو في شعرنا العربي خاصة مخزون في حنجرة الشاعر وأذن المتلقّي. فالصوت إذن قَدَر القصيدة وحتميتها، وليس بإمكاني بعدُ أن أتصوّر شكل القصيدة الخرساء. إن الفنون كلها تخضع لقانون القدرية، إذا كان للقدرية قانون. فالحركة قدر الرقص، واللون قدر الرسام، والحجر قدر الناحت. وأنا لا يمكنني تصوّر قصيدة تُقرأ بالأنف، أو موسيقى تتذوّق باللسان".
ولم يكن بغير مغزى عميق أنّ الأخوين رحباني، وهما شاعران من الرأس حتى أخمص القدمين، وجدا صعوبة في هضم كامل قصيدة "لا تسألوني...". لقد اضُطرّا إلى حذف البيت التالي: "زقّ العبير، إنْ حطمتموه/ غرقتُمُ بعاطرٍ سكيب"؛ والبيت التالي: "لا تبحثوا عنه هنا بصدري/ تركتُه يجري مع الغروب"؛ وعدّلا: "وصدره... ونحره... كفاكم/ فلن أبوح باسمه حبيبي"، إلى "لا تسألوني ما اسمه، كفاكم/ فلن أبوح باسمه حبيبي". لقد حذف الرحبانيان، أو بدّلا لأسباب متباينة كما لا يخفى، ولكنهما فعلا ذلك لأنّ الموسيقى بدت أضيق من العبارة، أو لأنّ العبارة لاحت أكثر نضارة (وجسارة!) من أن تلتقطها الموسيقى.
أيّهما، إذاً، مِقود الآخر: الشعر أم الغناء؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال


.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف




.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره


.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث عن أسباب نجاح شخصية دانيال في ل