الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة قصيرة

سمرقند الجابري

2009 / 11 / 10
الادب والفن


خلايا

خمسة وعشرون عاما وأنا خلية سرطانية، اتجول في رأس إمرأة من هذي البلاد ، شكرا لغباء كل حكيم أخطأ في التشخيص وفتح دماغ صاحبتي ليصلح جزءا ويخرب أجزاء ، لاستمر أنا في رحلتي أقتات على فصوص دماغها الايمن والايسر ببطء يسعدني ويؤلمها.
بدأت بخلايا المراكز العصبية ، أنال بمخالبي ما قدرت ، فصارت تُسقط من يديها صحون الغسيل وثياب الصغار ليلجأ زوجها الى الاستعانة بالاولياء والبخور ودفع الصدقات.
ما دمتُ سرطانا فأنا املك جهاتها الاربع ، أتكاسلت اسئلة الاطباء! ام ارتخى ذهن طارحها؟. لذا صارت سيدتي تتعثر في الكلام وتخطيء في المشي، وتسرف بغياب الوعي.
في العام الاول لمرضها، تقاسمت اخواتها العناية باولادها ، فصار الصغير في بيت، والابنة واخوها في بيت آخر ، بينما بقى الثلاثة الباقين في بيت ابيهم لانهم اكبر عمرا ، لتزورهم عجائز العائلة كل اسبوع مرتين تنظف وتطبخ وتلقي النصائح كنبي في العباد وتمضي .
بعد اعوام عاد الاولاد من بيوت خالاتهم ليعرفوا أن الام ما عادت تعرفهم بسبب مطارق المرض على جدران فكرها الواهن ليدق ناقوس الترقب في عائلة تركت لرحمة الاقدار!
الابنة الكبرى قادت السفينة بلا بوصلة ، قد يكون الشاطيء قريبا ، فلا نوارس تكرمت بالتحليق كي تهوّن عليها عواصف البحر ، لترزح بعبيء عائلة غاب والدها بين الذهاب الى الحرب والعودة الى محل نجارته في زقاق ما .
كلهم كبروا وسط امراض تنهش قلوبهم وتطرز تفاصيل حياتهم بخيوط سوداء فلا تتذكرهم غير قوافل الحزن وشفقة الجيران ، صاحبتي أوكلتها السماء لانعدام رحمتي كي اقتات على مراكز البصر لتعمى عيناها واحدة بعد أخرى ويثقل سمعها فلا تملك غير التحدث الى نفسها لان الاولاد كانوا يهربون أما للشارع بالاسراف في اللعب والتعب او الانزواء في غرف الدار الواسعة فصاروا كدول لا تعترف بغيرها!
صادق كان حب زوجها لها، فلم يبادلها بحسناوات يطرقن باب محله أو بعرائس تجلبهم كل حين عمات الاولاد وخالاتهم ، صار يحممها بيده ويمشط لها ضفائر يتنازع عليها الشيب، ويطعمها ما تفنن بطبخه ، ويوصي بها اولادها الذي ساروا على درب التذمر والعقوق.
لا تكرهوني لاني مرض خبيث فهذه ضرائب حياة انتم فيها ، تراني خجلت من الفتك بذكريات طفولة هذه السيدة لاعود الى اعوام لم ترى فيها والدها إلا وهو يطارح آلام سم اجتاح جسده لان والدتها ارادت ان تعيش بحبال تركت على الغارب وترحل بهم من قريتها البشعة الى مدينة يملؤها النور والمياه التي تأتي بالصنابير وارصفة لا يتسخ من يمشي عليها .
تزوجت والدتها من شاب يصغرها بفضل شعوذة سوداء وتركت اولادها لاختهم الكبرى تعيلهم بالخياطة ، كم آلمني وأنا اقرض هذا الجزء من ذكرياتها عندما زفت الى رجل يكبر والدها كي ترحم أخوتها بثياب جديدية وتدفع ايجار دارهم الصغيرة.
لا رحمة في بعض الاقدار، فالرجل الذي تزوج ضحيتي طردها ذات يوم ممطر لانها ما عادت تحتمل قسوة زوجاته وصارت تعيش بعيدة عن اولادها الثلاثة وتحاول جمع شتات اخوتها هاربة بهم من زوج امها كفرار موسى من آل فرعون.
ذات نهار شاءت رحمة السماء ان تتجول في سطر حياة امرأة لاذت بصبر محمد على قريش، وارتدت من التحمل درعا ضد البكاء ، فقابلت نجارا هرب هو الاخر من جبروت ابيه ليعمل في محل صغير ويعيش فيه .
كانت تشفق عليه لانه يصلح لها باب الدار وكراسي البيت بلا مقابل ، فترسل اليه ما جادت به قدور البسطاء ، لانها صارت تعمل في ندب الموتى بالقصائد المغناة او باحياء ذكر النبي في بعض المناسبات لتعود محملة بالفواكه والحلوى واجرة البيت الذي زارته الافراح مؤقتا كهدنة الى اشعار آخر.
للحب اعاجيب تجر النجار من ثنايا روحه لتتركه حمامة بللها العشق بيد امراة تركت الندب على من مات لتحيا معه زوجة تقاسمه زقزقة اطفال صاروا اليوم كما أخبرتكم خرز مسبحة قرب انقطاع خيطها ، لينتظرهم المجهول بسكاكين صدأة!
حللت في جسدها بلا ترحاب، غير انها كانت تلد وتلد لتعوض نفسها عن ام لم ترحمها وعن خيبات زوجها الاول ، لعلها ارادت ان تكافيء حبيبها الذي اصلح مع باب دارها رتاجات قلبها المحطم ، لكن هبوطي في رأسها غيّر مسار النهر عن البساتين لتجدب.
هكذا مضغت بقدرتي ذكرياتها فلم تعد تكنس باحة الدار ولا تخيط لاحد ، صغارها كبروا واختاروا حياتهم ،والنجار ترك مطرقته والتحق بالرحيم سريعا ، لم تظل معها غير ابنتها الكبرى ، تجلسان معا واحدة تغني والاخرى تكتب اشياء لا يفهمها احد!
على احدنا ان يتعب ، لذا لم أجد ما آكله ذلك الخميس من الذكريات ، سمعت رجاءا مختنقا من قلب مرتجف:
:-" ارحمني، فأنا صرت طوقا من نار يخرب حياة ابنتي ، ارحمني فما عدت اطيق هذا الالم ".
ابرقت الى السماء ان امرأة ما عادت تصلح لاقامتي ، فلبى "عزرائيل" عند الفجر ندائي .










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية


.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي




.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |


.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه




.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز