الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلما حضر.. حضر الوطن - شهادة

غريب عسقلاني

2009 / 11 / 11
الادب والفن


1 –
إن تكن برفقته أسبوعين كاملين, يراقب لهاث نبضك على طريقته, فيتعرف على حالاتك..
أن تراه في حالاته خارج القصيدة, فرحا مثل عصفور يعيش دهشة الطيران, ضاحكا حتى الثمالة, ومتحفظا بعفة الدخول في شرنقة الصيام, وفارسا يقظا يده على مقبض سيفه لا تأخذه المباغتة غيلة, وفنانا حتى ذروة الفيض..
إن تكن معه في مهمة الوطن
يسكنك.. يغادر.. ولا يغادرك الوطن!!
هل غادرنا الفارس محمود درويش؟
هذا سؤال الفجيعة.. وسؤال الخلود..
كان ذلك ذات وقت من ربيع العام 1997 في العاصمة الفرنسية, وبدعوة من وزارة الثقافة الفرنسية, وكنت ضمن وفد الكتاب المشاركين في فعاليات موسم ربيع الثقافة الفلسطينية الذي امتد في المدن الفرنسية على مدار ثلاثة أشهر..
كان الوفد برئاسة محمود درويش, ويضم كل من إلياس صنبر، وفدوى طوقان، وسحر خليفة، وليانا بدر, وأنطوان شماس, وعز الدين المناصرة, ورياض بيدس, وزكي العيلة وغريب عسقلاني, وكانت الساهرة على البرنامج وعلى الفعاليات, الدكتورة ليلى شهيد سفيرة فلسطين في فرنسا..
وقد اعتذر عن الحضور كل من المفكر الكبير إدوارد سعيد والشاعر سميح القاسم.
وكان مكان الإقامة والانطلاق إلى المدن الأخرى فندق لوتسيا الشهير في العاصمة الفرنسية
كنا في رحلة نحو الوطن
وكان الرهان, أن نكون ليحضر الوطن
كيف لا ونحن في معية رجل على وجهه يزهر الكرمل, كما كانت تردد فدوى طوقان كلما استبد بها الشوق إلى دفء نابلس, تحضن محمودا وتقبله.. يضحك الفتي وترتبك فدوى على خجل عروس في الثمانين.. تهمس لنفسها " من يقبل محمودا يقبل الوطن" نضحك وتأخذنا "الصهللة.."

- 2 –
أوبرا الباستيل
ليلة افتتاح موسم ربيع الثقافة الفلسطينية, الجمهور كبير ونوعي يضم مثقفين ومفكرين ورجال سلك دبلوماسي وكتاب عرب توافدوا من جميع المدن الفرنسية والعواصم الأوربية, وطواقم ‘علام تغطي الفعالية على جميع أركان المعمورة..
وعلى العادة الفرنسية كان الحفل شديد البساطة والبلاغة, دقيق الإعداد والتنظيم, بعيدا عن الضجيج..
في قاعة المسرح, جلسنا مع الجمهور وشاهدنا معهم لأول مرة فيلما أعدته هيئة المهرجان عن الكتاب المشاركين, تم تصويره في أماكن تواجدهم, كلف بإخراجه مخرج تونسي يقيم في العاصمة الفرنسي, بمساعدة الأديبة والمترجمة سلوى النعيمي.
أضيئت الصالة ووجدنا "نحن من كنا في الفيلم" أنفسنا فجأة بين الجمهور وسط نظرات الدهشة والإعجاب..
وكانت الكلمة لوزير الثقافة الذي رحب بالوفد وبين مدى اهتمام المثقفين والجمهور الفرنسي بالتعرف على ثقافات الشعوب, وكرم الثقافة الفلسطينية بتقليد وسام الفارس للشاعر محمود درويش لدوره في إثراء الثقافة الإنسانية باعتباره من علامات الشعر البارزة في العصر الحديث, والوسام هو أرقى وسام يعطى للشخصيات التي تلعب دورا ايجابيا على مستوى العالم..
فجأة قفزت من جانبي الشاعرة فدوى طوقان, وبرشاقة ظبية عفية.., قبلت الفارس وبللت وجهه بالدموع..
يا إلهي..
كم كبر محمود بفدوى وكم كبرنا بدموع الفرح.. وكم كانت بهجتنا بفارسنا وكم كانت فرحتنا بأمنا فدوي..
جلست فدوى إلى جانبي, كل شيء فيها ينبض, أخذتها تحت إبطي, وقبلت يدها.. حدقت في كفها فوجدت وجه إبراهيم طوقان مطبوعا علية, لعلها قرأتني.. قالت:
- أحبه يا غريب, من لا يعشق "محمود" لا يعشق فلسطين
يا إلهي..
أصابتني رجفة الاكتشاف, هل يكون التناسل على هذا البهاء, إبراهيم طوقان غنى للشهيد ونال الخلود, وفدوى ترعرعت على صدره وثكلت به مبكرا تعيش العمر أعمارا تبحث عن بعض دفء.. كم ذرفت من الدموع.. ها هي اليوم عروس الملتقى تخضل وجه فارسنا بدموع الفرح.. وكأني بها عثرت على ثوب زفافها.. أخذتها تحت إبطي.. ولم أحاصر دمعة الفرح.. وانتقلنا إلى صالة الاستقبال حيث بوفيه الضيافة, وحفل التوقيع على كتاب يضم نماذج من كتابات أعضاء الوفد مع سيرة ذاتية مختصرة لكل كاتب..
في الصالة فوجئنا بعدد الإعلاميين والباحثين الذين أحاطوا بنا, يسألوننا التوقيع على نسخ من الكتاب, وإجراء الحوارات, وكانت معظم الأسئلة الموجة لي ولزكي العيلة ممزوجة بالدهشة عن توفر مناخات للكتابة في غزة, التي انطبعت في ذاكرة العالم بأحداث الانتفاضة الفلسطينية, وصور المواجهات الدامية مع قوات الاحتلال الصهيوني..
كان الاحتفال عظيما
وكان تقليد أرفع وسام للشاعر محمود درويش حدثا لافتاً في الأوساط الثقافة الفرنسية والعالمية, يحمل اعترافا من الأمة الفرنسية بالثقافة الفلسطينية رافدا أصيلا من روافد الثقافة الإنسانية, واعترافا حضاريا بالشعب الفلسطيني وقضاياه العادلة..
وفي الفندق كانت السعادة حالة حاضرة على وجوه الجميع, وكان أشدنا فرحا سفيرتنا ليلى شهيد, المثقفة المعروفة في الأوساط الثقافية الفرنسية, والجندي المجهول وراء إنجاح الربيع الفلسطيني.. كانت تتيه فرحا لحد الرقص.. وكان محمود محاطا بلفيف من الكتاب والصحفيين العرب والأجانب..
كنت أجلس إلى جانب الكاتب والناقد السوري المعروف صبحي حديدي وهو من أكثر المعجبين والمقربين من درويش.. صبحي يعيش الدهشة, عيناه لا تهبطان عن وجه محمود, يتعلق بشفتيه وكأنه يلتقط ما يتناثر من حروف.. قلت:
- كيف ترى محمودا؟ يا صبحي؟
- مظلوما لم ينل حقه من النقاد والباحثين.
- رغم كل ما كتب وقيل عنه!!
همس ولم يغادر وجه درويش:
- ما زالوا على ضفافه, لم يسبروا أغواره..
فجأة لمع فلاش كاميرا, كانت "سيمون" المخرجة التي تعد فيلماً عن درويش وترافقه مثل ظله, ترشقنا بابتسامة وتشير نحونا بإشارة النصر.. ضحك صبحي:
- لعلها تصيدت أحدنا في حالة تلبس فسجلتها..
" سيمون" تحلم بإخراج فيلم عن محمود لم يسبقها أحد إليه, وقد عرضته بعد ذلك, وصبحي ما زال مشغولا بكتابه عن محمود لم يسبقه إليه أحد؟؟"
صحوت على شاب يقف أمامي يسربله الخجل, وعرفت منه أنه جاء من الريف الجزائري ويعد أطروحة الدكتوراه في الرواية الفلسطينية, وأن محمودا وجهه إلىَّ وإلى زكي العيلة, وعرفت من ليلى عن اهتمام محمود درويش بتجربة كتاب قطاع غزة في ظل الاحتلال..

- 3-
إلى أقصى الجنوب الفرنسي, وبرفقة سلوى النعيمي أخذنا القطار الى مدينة بروفانس المدينة النوعية التي ترتبط حياتها بجامعتها العريقة, حيث يتشكل مجتمعها من الطلاب وأساتذة الجامعات ورجال الأعمال, كنت وزكي ورياض بيدس, وكان علينا أن نقدم للجمهور شهادتنا الإبداعية, وقراءة نماذج من نصوصنا المترجمة إلى الفرنسية, ثم الانضمام إلى الجمهور لمشاهدة الفنان الكبير محمد بكري الذي سيعرض مسرحية المتشائل, المأخوذة عن رائعة إميل حبيبي " الوقائع الغريبة في حياة سعيد أبي النحس المتشائل"
كان الجمهور كبيرا ومفاجئا, وكان التفاعل حميميا, وفوجئنا بأسئلة لم تخطر لنا على بال, وقدمنا أجوبة عفوية وصادقة, أدهشت الحضور, وفي العرض المسرحي تألق محمد بكري, وكان رائعا سلسا في توصيل رسائل إميل حبيبي بطريقته الخاصة..
***
قضينا نهار اليوم التالي في التعرف على المدينة, والتسوق, والتهيؤ لحضور الأمسية الشعرية للشاعر محمود درويش في الجامعة تلك الليلة..
كان الوقت عصرا.. وكنت وزكي العيلة في الطريق إلى الفندق..هتف زكي:
- محمود وليلى..
اندفعت ليلى نحونا بشوق الأخت الحنون:
- نحن في سيرتكم
كانت الابتسامة على وجه محمود فرحا صافيا, بادرنا:
- ماذا فعلتم بالناس هنا!!
قلت يسربلني الخجل:
- على قدر ما استطعنا..
- كنتم مدهشين
أخرجت ليلى الجرائد من حقيبتها, واستعرضت المقالات التي غطت لقاء الأمس, كنا مرسومين على صفحات الجرائد..
هل كان يجاملنا؟
اختلست نظرة إلى وجهه, كان في حالة ود خالصة, وهو يتابع ما تترجمه ليلى.. أدركت يومها أن الإنسان في محمود درويش أكبر بكثير من الشاعر فيه, وأخذني اليقين أن الكائن الشعري فيه يعيش مجاهدة من نوع فريد للتعبير عن الإنسان الذي يسكنه..
عبرني الوجد ووقفت في حضرته صامتا يصلني همس فدوى.. " من لا يحب محمود درويش لا يعشق الوطن"
وشعرت يومها أنني خاشع في حضرة الوطن..
***
ليلة من ليالي العمر
محمود درويش يرافقه عازف العود المشهور سمير جبران, ويقرأ نصوصه بالفرنسية فنان فرنسي مسرحي متخصص بفن الإلقاء..
القاعة غاصة بالجمهور, والحضور العربي كثيفا, تنادى من كل بقاع الجنوب الفرنسي..
هنا درويش
وهنا فلسطين
ودندنات العود تأخذ بأوتار القلوب, يصل المعنى على أجنحة الكلام من سيد الكلام
وكان شاعرنا سيد الإلقاء وسيد الكلام.. وكان الفرنسي رائعا خلب العرب وغير العرب, وغمرتنا الدهشة حد الإغماء عشقا ووجدا.. وسالت الدموع فيض فرح وانتصار
سمير جبران يحتضن العود بامتنان, فقد عبر به النغم إلى بر الأمان, والملقي الفرنسي يسأل وجلا إن كان وفق في توصيل القصائد؟
وكان محمود خجلا يُطيّر قبلاته للجموع, وتمتم
"بكم تحققت القصائد"
كانت ليلة من ليالي الانتصار..

- 5 –
لم تتح لي الفرصة للتعرف على محمود درويش خارج صفحات الكتب, ولكني في ذلك الربيع أحسست أنني أعرفه من زمن بعيد, وأن وشيجة خفية كانت تربطني به منذ وجدت على وجه الدنيا
وكنت وما زلت أتساءل هل هو الحبل السري الفلسطيني الذي يغذينا من مشيمة الأم الواحدة؟
وعدنا إلى الوطن ولم تتح لى الظروف للقائه ثانية..
ها هو قد رحل فهل يعود..
أم هي الغيبة, فهو الذي كلما حضر, حضر الوطن

* ألقيت هذه الشهادة في مؤتمر محمود درويش الإنسان والقضية, الذي نظمته جامعة الأزهر بغزة يوم 25/10/2009








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان