الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل 15 من رواية حفريات على جدار القلب

حبيب هنا

2009 / 11 / 13
الادب والفن



ـ15ـ

استسلمت عينا لبنى الثانية لسلطان عيني وارتشفت من الذهول ما أغاب عقلها .. واستنفرت حواسي لمواجهة الخطر وسكبت مستقبلي تحت قدميها .. جردت نفسي من الملامح وصرت طريقًا من السراب ينهشه الإحباط والملل ، جسد متهالك يخنق الآمال ، يضفي الوحشة والانقباض على الحاضر المستقبل ويصيب نياط القلب خوفًا إضافيًا .
وكانت اللحظة تقف عند حواف القرار الحاسم . هل تقبلين بي زوجًا لك ؟
تسمرت عيناها على المشهد الأخير كأنها شهيد انتقل إلى مثواه الأخير ثم مضى عنه جموع المشيعين .. عيناه مفتوحتان على المدى ما وسعهما ، وعيناها لم تعط جواباً .. هل تقبلين بي زوجًا لك ؟ عشيقًا ، نديمًا ، طائفًا ، ساعيًا ، بين الشك واليقين أطحن حصاد الأيام بؤسًا وأقدمه شهدًا تتريقين به فتتفتح سبعون وردة على صدر الشهيد !
هل تقبلين بي ؟ !
رنين النشوة أفقدني احترام الأصدقاء .. وصدامية الرغبة الجامحة في كسر رتابة المهزلة فَضَّتٌ بكارة الحلم وقادتني إلى العنوسة في وقت مبكر .. وأنا ولبنى الثانية ننتشل أنفسنا من الرعب والتردد ونعلن الخطبة الرسمية في حفل مهيب يحضره أصحاب الرأي السديد .
هل تقبلين بي دون تحديد موعد حفل الزفاف ؟
… … ..
ويمضي جموع المشيعين بالشهيد إلى نهايته .. شاب في مقتبل العمر .. أسأل :
أين رأيت هذا الوجه ؟ أستنزف ذاكرتي حتى آخر خلية : يوم كنت أسير منكس الرأس أمام النصب التذكاري للجندي المجهول ، كان يسير متسكعًا مع عدد من الشبان عندما مرت من جوارهم فتاة ملامحها رزينة ، فعلق مخاطبًا زملاءه :
ـ من منكم يراهنني أن أجعل أصابع هذه الفتاة الناعمة تلامس قلبي ؟
رد عليه آخر :
ـ لن تتمكن حتى لو دفعت عمرك ثمنًا لها !
ولم أعد أسمع ما يدور بينهم بسبب ابتعادي عنهم ، غير أنني كنت أعرف الفتاة .. كانت قد تخرجت حديثَا من كلية الطب في جامعة دمشق ، وهي تأنف النظر إليه قياسًا بالآخرين الذين تقدموا لخطبتها ورفضت .. وفجأة ، داهمتني فكرة حمقاء : أن أذهب إلى المستشفى وأسأل عنها لأزف لها خبر استشهاد الشاب المشاكس الذي عاكسها على مسمع من زملائه قبل أشهر..
ذهبت وسألت وعندما التقيتها التمعت عيناها كأنها على موعد معي .. قلت أزف الخبر إليها :
هل تعلمين أن الشاب الذي عاكسك و ..
قاطعتني قائلة :
ـ عندما رأيت وجهه في غرفة العمليات عرفته من فوري .. وضعت شفتي على أذنه وهمست : سأمس قلبك بأصابعي شرط أن تبتسم .. فتح عينيه ونظر إليّ مبتسمًا كأنه تذكرني .. بقيت الابتسامة على شفتيه إلى أن فارق الحياة .. لقد كانت الرصاصة تستقر في قلبه الواهن الذي أنهكته الانفجارات !
صمتت لحظة وأضافت :
ـ خرجت من غرفة العمليات وعقلي يضرب بجنون .. مسحت بحركة خاطفة دمعة همت بالانسكاب قبل أن يلاحظها أحد .. كبر السؤال في داخلي ولكني وجدت الجواب : الشهيد نبيٌ يرى الأشياء بغير العيون التي نرى بها الأشياء !
استسلمت عينا لبنى الثانية لعيني .. توسلت جسدها أن يعطينى فرصة واحدة حتى أخوض زوبعـة التجـربة وأتـنسم مسـا مها
في حضرة اليقين والحواس المشتعلة .. ولكنها تمنعت بحركة من عنقها المشرع الشامخ ، فعوت في داخلي اللذة وانتحر الانتشاء..
أدرت وجهي عنها فسرى في شرايينها عنادي الصامت .. غالبني شعور بالقهر مثل طفل تعود الحصول على اللعبة التي يريد .. خبأت اللعبة في صدرها .. اقتربت منها .. اقترب الفجر وزحف نحونا دون أن نكون مهيئين .. سكب أنفاس النشوة اللاهثة في شرايننا فاستحلنا إلى بركان صهر القيود وانتزع الوهن من قلوبنا..
وعند خط التماس الأول أرسل الطفل حجراً وانتظر رصاصة .. وعند معبر المنطار أرسل شاب زجاجة واستقبل قذيفة من دبابة مشتعلة .. وفي كلية التربية عند مفترق الشهداء أصبح الوقت قاتلاً بعد أن نهشت المروحيات جدران المبنى . فابتكرت الصبايا طريقة للتحايل على الفراغ والإفادة منه : زرن المستشفيات يوزعن القبل والورود على الجرحى .. إنها لفتة كريمة من وجوه جميلة !
لا نأمة تركب صهوة الليل ، ولا بادرة توحي باقتراب الفجر على الرغم من ازدياد أعداد الشهداء والجرحى .. إنه موغل في العتمة بقدر توغلنا في الانقسام وعدم الانسجام في الرؤية السياسية الواحدة .. الهموم تحاصرنا ونستسلم لها متذرعين بحسن النوايا .. والخاسر الوحيد نحن الذين طحنتنا عجلة الانتماء وفضلنا الموت طيشاً عن الموت كأنبياء !
وبحذر شديد وخفقات القلب ترتفع وتائرها ، غافلتها واقتربت منها من الخلف .. وضعت يدي على عينيها ، فانتفضت مصابة بمس الجزع .. باعدت بين الأصابع فسمعت أنفاسها تعاود الانتظام .. عرفت أنها عرفتني فاطمأن فؤادها ووضعت يديها فوق أصابعي دلالة الاعتذار والشوق .. أبدت محاولة .. ولكن البعد جفاء .. غالبت نفسي .. ولكن الأيام حصدت الحنطة وغالبت الطحن ..
وهكذا جاءت لبنى الثانية وفرضت حضورها عليّ .. علقت قرارها عند المفترق .. دخلت جسداً عارياً من العيوب .. تبعتها نحو الباب الداخلي .. أشارت إليّ بالتوقف .. تسمرت .. تقدمت خطوات إلى الأمام ثم نظرت نحوي .. إلى الخلف .. قالت:
ـ احذر التقدم فالخطر يلاحقك !
كانت ما تزال ترتدي نفس الملابس التي عرفتها بها ، وبشرتها الصافية توحي بالطمأنينة .. وكنت تواقاً للحظة عناق بكل الشوق والمحبة ، ولكن حزن عينيها قمع الرغبة الأكيدة ، ثنى مقصدي عن الوصول إلى نهايته ، وردني إلى أعماق اليأس الاضطراري الذي أصاب يقيني فتوغلت في الصمت ..
رجعت إليّ وألقت قنبلة السؤال على الأوراق المبعثرة فوق الطاولة .. ارتعشت روحي وغالب جسدي هزة جريئة جمدت النطق على طرف اللسان .. عوى الصوت داخلي دون أن يصل مسامعها : هل ما زلت تراني بنفس النظرة الأولى ؟
استنبتت في عقلي جرأة الأطفال .. قلت :
ـ دعيني أتقمص جسدك حتى لا ترعبني المفاجأة .. أزرع نفسي بين لحظتين تجللهما أعلام الشهادة والثبات .
وغابت في اللاوعي مثل غيمة في السماء تحجب الشمس لحظتين ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اعتبره تشهيرا خبيثا.. ترمب غاضب من فيلم سينمائي عنه


.. أعمال لكبار الأدباء العالميين.. هذه الروايات اتهم يوسف زيدان




.. الممثلة الأسترالية كيت بلانشيت في مهرجان -كان- بفستان بـ-ألو


.. مهرجان كان 2024 : لقاء مع تالين أبو حنّا، الشخصية الرئيسية ف




.. مهرجان كان السينمائي: تصفيق حار لفيلم -المتدرب- الذي يتناول