الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل 16من رواية حفريات على جدار القلب

حبيب هنا

2009 / 11 / 15
الادب والفن



ـ 16 ـ

خيم الحزن على الجامعة .. جاءت لبنى تسأل :
ـ ماذا هنالك ؟
ـ استشهد ابن الأستاذ غالي !
جاء مراسلو وكالات الأنباء ومصورو شبكات التلفزة يسألون :
ـ أين والد الشهيد ؟
جاء رئيس اتحاد مجلس الطلبة على رأس وفد يطالب بصورة للشهيد !
خرج الأستاذ غالي من مكتبه يستقبل النبأ ووفود المعزين .. تسابق المصورون نحوه :
ـ ماذا تقول في استشهاد ابنك ؟
ـ أنا .. أنا من أرسله إلى نهايته المحتومة .
تهدج صوت الأستاذ غالي .. لاحظنا ذلك جميعاً .. قلت في سري : لن يصمد طويلاً .. سمعت زميلاً لي يقول بصوت هامس إلى طالبة بجواره : الأستاذ على وشك الانهيار .. أعاد الصحفي سؤاله :
ـ لا أفهم عليك .. كيف أرسلته إلى نهايته المحتومة !؟
ـ ليلة أمس تحدثت مع زوجتي والأولاد عن الخيارات البديلة ولم نصل إلى نتيجة نعول عليها .. أخذ الأمر بزمام يده وقرر خياره.. وضع حداً نهائياً للأقوال وزرع نبتة الفعل في واحة ضمائرنا..
لقد رأيت ليلة أمس عينيه تتفجران نوراً عندما سألنا عن المسافة بين الرصاصة والرصاصة !
كانت حواسه تتلظى .. خلع عمره قبل قدوم المهزلة ، مثلما يخلع الشيخ الوقور حذاءه قبل أن تطأ قدماه أرض المسجد ..
صمت الأستاذ غالي دون مقدمات .. دفن وجهه بين يديه فانسكبت دموع الطالبات وترغرغت عيون الطلاب .. احتج أحد مصوري التلفزة المحليين : لا يجوز إخراج الصورة بهذا الشكل.. طيبت خاطره بكلمات بسيطة .. قلت :
ـ إنه والد الشهيد ؟
رد عليّ قائلاً :
ـ لا يمكن توجيه رسالة إلى العالم هذا محتواها !
قلت منفعلاً :
ـ هذه المرة لا توجه رسالة مجردة من المشاعر الانسانية !؟
نظر إليّ شذراً ثم غادر المكان رافضاً التصوير ..
عند الغروب اكتشفنا الإنسان داخل الأستاذ غالي ، فصرنا جميعاً أبناءه !
في اليوم التالي أعلن مجلس الأمناء الحداد ثلاثة أيام على روح الشهيد ، وأقفلت الجامعة أبوابها ، فيما رفض الدكتور غالي هذا القرار وواظب على الحضور أيام الحداد .. وفي مكتبه شرح للطلاب والطالبات الدرس الجديد .. وفوق رأسه كتب عبارته التي اشتهرت لاحقاً وصارت حكمة ترددها معظم الأفواه :
" إذا كان كل أب يحجب ابنه عن خطوط التماس فمن الذي يطرد المحتلين " !؟
وفي المساء نفسه زارني في البيت الأصدقاء القدامى .. سعدي ورباب .. طاهر ومروة .. طارق وتوفيق وحازم ، كأنهم على اتفاق مسبق .. وفيما كنا نتبادل أطراف الحديث والذكريات ، دخلت علينا ميسون بذات الهيئة والوقار اللذين عرفتهما بها منذ تعرفت عليها أثناء الدراسة الجامعية باستثناء تغير طفيف أصاب روحها المرحة ..
ذهلت أول الأمر وأصاب نبضي التنافر ، غير أنني تمالكت نفسي سريعاً عندما بادرت مروة وتقدمت لاستقبالها باحتضان ينم عن الشوق والمحبة .. ولما فعلت رباب الشيء ذاته كنت قد عدت إلى وضعي السالف .. تقدمت نحوها .. وضعت يدي في يدها في لحظة لا يستوعبها عقل ولا تستحضر مضامينها الكلمات .. كانت لحظة امتزجت فيها الصداقة بالحب الدفين فأضفت على سطح وجوه الحاضرين مفاجأة غير مقصودة تركت العيون حائرة تتنقل بيننا .. ولم تكن ميسون تتوقع هذه الحميمية!
ارتبكت بما لا وصف له ، وتشظت داخلها الذكريات .. سلمت على باقي الأصدقاء ثم جلست بجوار مروة يحاصرها الصمت .. وبدت لوهلة مشروخة تحاول ترميم نفسها ؛ تلملم شتات أفكارها ، تستذكر ، لماذا جاءت في هذا الوقت بالذات ؟!
وعندما تحدث سعدي تدفقت الدماء إلى الشرايين ، وعادت الحيوية والمرح إلى الوجوه التي شحب لونها ، أدخل الدفء إلى مسام الصداقة القديمة وأنعش فيها روح المبادرة ، فنهضت مروة متوجهة إلى المطبخ تساعد أمي في صنع الشاي ..
تحدث معظمهم عن أيام خلت عشنا فيها متعة البراءة وتذوقنا نشوة بناء الوطن بين موجتين .. فيما تحدثت ميسون عن الراهن من الأحداث ودور كل واحد فينا .. صاغت المرحلة وحددت ملامح جيل المراقبين الذين انبروا على تعداد الشهداء والجرحى وتدوين أسمائهم ، وجيل الشيوخ الذين فلت عزائمهم فلم يعودوا قادرين على العطاء المتساوي مع حجم التضحيات والشعارات المرفوعة ، مما يؤدي إلى هبوط في السقوف وتسرع في حصد النتائج ..
كنت طوال فترة الحديث هذه ، صامتاً لا ألوي رغم الانطباع الذي خلصت إليه : ما زالت ميسون بذات الحيوية التي عهدتها بها على الرغم مما تعرضت له من أنواء .. ولم أجرؤ على سؤالها : هل هي على وفاق مع زوجها أم لا ؟ ومع ذلك لم أعرف لماذا جاءت في هذا الوقت بالذات ؟
وعندما هموا جميعاً بالخروج ، رافقتهم إلى الباب الخارجي ، وعنده رميت سؤالي في وجوههم :
ـ هل نحن من جيل المراقبين الذين تحدثتِ عنهم يا ميسون ؟
ـ سنلتقي مرة أخرى للحديث عن هذا الأمر !
في اليوم التالي ، جاء بعض الطلبة إلى مكتبي يسألونني النصح :
ـ نحن ذاهبون إلى خطوط التماس ؛ جئناك نسمع كلمة توجيهية ربما تنفعنا على الأرض ، وربما لا نلتقي مرة أخرى ..
لنا رجاء عندك : إدخال مادة إضافية في التدريس تتحدث عن الانتماء وتكريم الشهداء .. ولما نهضوا صافحتهم بقوة كدت أبكي معها ، ولكن تمالكت نفسي بصعوبة ، إذ من غير اللائق وداعهم وهم ذاهبون إلى خطوط التماس بعينين مبللتين !
وبعد ساعة من مغادرتهم المكان ، كان الرصاص المنطلق من الأبراج المرتفعة يبتلع بجشع أطفالاً وشباناً ليس لديهم الخبرة في تحاشي الالتهام وتحصين أنفسهم ضد كل الاحتمالات .. ولكن حجم الخسائر في الأيام الأولى كان أكثر من الأيام التي تلتها جراء تراكم التجربة والإفادة من كل ثغرة تؤدي لما هو مطلوب .
وفي المساء ، أعطى السلاح نتائجه عندما أمسى بأيدٍ شجاعة ! .. بدأ المحتل يدفع أثمان قتله الأبرياء . وهكذا تصاعد نثار الكتل الملتهبة وتطاير جدران المباني وزجاج النوافذ .. بكى الأطفال واستفسروا من الكبار عما يحدث ومن أين تأتي هذه الأصوات .. نار جهنم تقذف حممها ؛ وكانت برداً وسلاماً على أهل الرباط !
وكان خط المواجهة مع الاحتلال يمر عبر مختلف المحاور بما فيها مصير المواطنين ومشاعرهم التي تزداد وتيرتها نحو تصعيد حجم التصدي حتى نيل الاستقلال وطرد المحتلين ، علماً بأن الصواريخ التهمت ما يشبع حقد الطيارين ، غير أن أحقاد المستوطنين لا يشبعها تناثر الأجساد على الجدران !
ومع تصاعد وتيرة الانتفاضة وأخذها أشكالاً أكثر نفعاً وجدوى ، ومع الاستمرار اللامحدود للدفاع عن كل غرسة زيتون، فاجأتنا الأخبار بعقد اجتماعات سرية مع رجالات المحتل ، قتلت فينا كل أمل في الحرية والاستقلال وتحقيق الشعارات المرفوعة ، وأصبنا بالخيبة وفقدان الثقة بجدوى التضحيات التي باتت عرضة للتجاوز والقفز عنها ..
أصبح الهاجس مرعبًا : هل كل هذه التضحيات من أجل تحسين شروط المفاوضات ؟ ربما ، فكل المؤشرات تؤكد هذا التوجه ، الأمر الذي يدفع معظم قطاعات الشعب تارة نحو التصعيد بغية عدم الرجوع ثانية للمفاوضات ، وتارة أخرى تصاب بالإحباط فتخفت معه وتيرة المواجهات حتى يتراءى للناظر إمكانية خمودها نهائيا .
على أية حال ، ينبغي عدم الركون إلى ما تورده نشرات الأخبار ، في بعض الأحيان ، من قرب التوصل إلى اتفاق على المسائل العالقة التي تحول دون البدء في تطبيق التفاهمات،هذا ما كان يردده الأكثر حصافة ودراية بالمستجدات : الفعل على الأرض كفيل بكسر التحايل على دماء الشهداء ! ذلك أن كل طرف لا يثق كليًا بقدرته على السيطرة عما يدور في الميدان وخطوط التماس ، فيعمد بالتالي إلى تأجيل قراره النهائي خشية عدم الانصياع إليه..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي: تصفيق حار لفيلم -المتدرب- الذي يتناول


.. إخلاء سبيل الفنان المصري عباس أبو الحسن بكفالة مالية بعد دهس




.. إعلان آيس كريم يورط نانسي عجرم مع الفنان فريد الأطرش


.. ذكريات يسرا في مهرجان كان السينمائي • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الفنان السعودي سعد خضر لـ صباح العربية: الصور المنتشرة في ال