الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فليشربوا من بحر غزة

أوري أفنيري

2004 / 6 / 9
القضية الفلسطينية


يبدو أن إيف لينكولن صدق القول حين قال بأنه من غير الممكن الاستهتار بكل الناس كل الوقت، غير أنه من الواضح أنه من الممكن الاستهتار بمجموعة كبيرة من الناس لمدة طويلة من الوقت. أريئيل شارون بالذات يفعل ذلك بنجاح كبير.

"خطة الانفصال" كانت منذ بدايتها، بمثابة حيلة. إلا أنها قد انطلت على العالم ببراعة، فكبار السياسيين يتعاملون معها بجدية، وقد نشبت خلافات على الحلبة السياسية في إسرائيل بسببها، ووسائل الإعلام تجول وتصول. لماذا هذا كله؟ أمن أجل خطة على الورق؟

إذا كان الأمر كذلك، فما هو الهدف من كل هذا الصخب؟ كان الساخر ليقول: هذا الصخب ذاته، هو الذي وضع شارون على قمة الأحداث، وهو يأتي ليبرهن بأن شارون هو الذي يقرر الخطوات. لقد وصل هذا الصخب الآن إلى ذروته.

إن الهدف الأساسي من هذه المناورة هو إرضاء الرئيس بوش، الأمر الذي أحوج إلى تقديم خطة له. هو أيضا يحتاج إلى إثبات بأنه يعمل من أجل السلام. فكلما زاد انغماسه في الوحل العراقي، كلما اشتدت الحاجة لديه في التوصل إلى إنجاز ما في النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، وخاصة بعد أن مات "البيبي" السابق "خارطة الطريق" موتا سريريا.

لذلك طلب بوش من شارون اختراع خطة جديدة له. أين المشكلة؟ هوكُس فوكُس، والخطة جاهزة. ولها اسم جميل وواعد: "الانفصال". خطابات، جلسات، زيارات إلى البيت الأبيض، تبادل الوثائق، سفريات، مبعوثون، مبارك، عبدالله، أزمة، تسوية، وفي نهاية الأمر أزمة وزارية من الدرجة الأولى. كل هذا مجرد ألعوبة.

للخطة ثلاثة أهداف مزعومة: إخراج كل المستوطنين من قطاع غزة، وتسليمه للسيطرة الفلسطينية وتدمير البنية التحتية للإرهاب هناك.

لقد عرّف شارون الهدف الأول بشكل لا ينتطح فيه عنزان: "حتى نهاية عام 2005 لن يبقى في قطاع غزة يهودي واحد!"

مقولة قاطعة، ثاقبة وصارمة. كما يجدر بزعيم مرموق.

(في الواقع، تنطوي هذه المقولة على نغمة لاسامية. فلنفترض أن السلطة الفلسطينية ستدعو يهودا من محبي السلام للعيش في غزة، فما المانع من سكنهم هناك؟ أليس كان الأجدر أن يقول: لن يبقى في غزة مستوطن واحد؟ ولكن لا علينا)

إلا أن الكلمات الهامة في هذه المقولة هي: "حتى نهاية عام 2005". إنها تذكرني بتلك النكتة القديمة عن ذلك المعلم الذي هدده الملك بأنه سيقطع رأسه إذا لم يعلم حصانه المحبب إلى قلبه القراءة والكتابة. فطلب الرجل مهلة ثلاث سنوات، لما في هذه المهمة من صعوبة. حين سمعت زوجته بالأمر، استشاطت غضبا: "أنت تعلم أنه لا يمكن تعليم الحصان القراءة والكتابة!" فهدأ الرجل من روع زوجته وقال لها: "ثلاث سنوات هي مدة طويلة، فإما أن يموت الحصان، وإما أن يموت الملك."

سنة ونصف في بلادنا هم دهر كامل. فكل أسبوع يتغير الوضع. يمكن أن تحدث أمور كثيرة حتى نهاية عام 2005: أن يخسر بوش الانتخابات، أن تحدث كارثة في العراق، أن يصل سفك الدماء في البلاد إلى حجم ينسينا الخطة بأكملها.

لقد اتضح للجميع كم هو هام عامل الزمن في "الخطة" هذا الأسبوع، حين بذلت الوزيرة تسيبي ليفنيه كل ما في وسعها بهدف التوصل إلى تسوية بين شارون ومعارضيه. اقتراحها كان يشبه بيضة كولومبوس: ستصادق الحكومة على الخطة، غير أنها لن تصادق على تنفيذها. سيعملون خلال تسعة أشهر على إنجاز "الاستعدادات". لن يتم إزالة أي مستوطنة. بعد تسعة أشهر سيناقشون فيما إذا سيتم إخلاء المستوطنات أصلا، وإذا كان الأمر كذلك فما هي كمية المستوطنات وأين تقع. غير أن المعارضين لم يكتفوا بذلك وطالبوا بالاستمرار في تحويل الأموال إلى المستوطنات المزمع إخلاؤها، في هذه الأثناء، واستمرار البناء فيها.

إن حقيقة كون الجميع قد اعتبروا هذا الاقتراح اقتراحا جديا تشهد على نفسها. خطة من شأنها أن تنفذ في السنة القادمة مثلها مثل ثورة يتوقع أن تحدث في القرن القادم.

لكن دعونا نفحص الخطة ذاتها، وكأن شارون ينوي بالفعل تنفيذها: سيخلي شارون المستوطنات ويهدمها، وسيخرج الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، وستكون السيطرة فيه للفلسطينيين.

هل سيسود الهدوء فيه؟ هل ستتوقف العمليات الانتحارية؟

هذا من رابع المستحيلات.

إن المبدأ المشترك لكل الفصائل في الجمهور الفلسطيني هو أن الضفة الغربية وقطاع غزة يشكلان وحدة جغرافية واحدة، لا تتجزأ. لقد تم تحديد ذلك بوضوح في اتفاقية أوسلو وكافة الاتفاقيات التي تلتها. لهذا السبب رفض ياسر عرفات كل الاقتراحات حول "غزة أولا"، التي لم يدمج فيها جزء هام على الأقل من الضفة الغربية (أريحا، على سبيل المثال).

شارون يعرف ذلك ولذلك أضاف إلى خطته إضافة ما: سيتم إخلاء منطقة صغيرة أيضا في الطرف الشمالي من الضفة الغربية. تتواجد هناك أربع مستوطنات معدومة القيمة، وسكانها ينوون تركها منذ زمن (مقابل تعويض بالطبع). لن ينظر أي شخص إلى مثل هذا الإخلاء بجدية.

لا يمكن للمقاتلين الفلسطينيين في غزة، من كل الفصائل، أن يجلسوا مكتوفي الأيدي في القطاع "المحرر" بينما يقوم شارون بتنفيذ مآربه في الضفة الغربية: يضم 55% من الضفة ("الكتل الاستيطانية"، "المناطق الأمنية الحيوية"، "المناطق التي يوجد لإسرائيل فيها شأن خاص"، على حد أقوال مخططي الجيش الإسرائيلي) إلى إسرائيل، ويخنق الفلسطينيين في قطاعات صغيرة. لقد تم التجهيز لهذه الخطوات برعاية "الجدار الفاصل" الوحشي.

سيتحول القطاع "المحرر" إلى قاعدة نضالية لتحرير الضفة الغربية. سيقوم الجيش الإسرائيلي، كما عهدناه، بالرد على ذلك بكل ما أوتي من قوة، سيجتاح، سيقتل، سيدمر وسيقتلع. إذا لم يجد ذلك نفعا (كما لم يجد في الماضي)، فبإمكانه قطع الكهرباء، الماء والإمدادات الغذائية. ولأن القطاع سيكون معزولا تماما عن العالم، سيحاول شارون أن يكسره بهذه الطريقة. لن يتم له ذلك، لأن عيون العالم مفتوحة الأمريكيون لن يسمحوا لنفسهم بذلك.

المخططون العسكريون يفهمون هذا جيدا، ولذلك اخترعوا اختراعا جديدا: سيجزّون بمصر في إدارة السيطرة على غزة.

إنها فكرة عبقرية لأول وهلة. النظام المصري في مصر يعتاش على المخصصات السنوية الضخمة التي يتلقاها من أمريكا مقابل السلام مع إسرائيل. الكونغرس الأمريكي الذي يتلقى الأوامر من اللوبي الإسرائيلي، كان قد هدد مؤخرا بإرجاء دفع 200 مليون دولار إلى مصر. لذلك من الأجدى لمبارك أن يظهر بمظهر الصديق الحميم لشارون.

إلا أن مبارك يعرف جيدا أنه يمشي على حبل رفيع. لقد بدأت العلاقة بين مصر وغزة قبل 4000 سنة وأكثر، وقد تخللتها تقلبات كثيرة. لقد سيطرت مصرعلى غزة بعد عام 1948، وهذه قضية لا يحبون أن يتذكرونها. لقد حاولت مصر أكثر من مرة التحكم بالقضية الفلسطينية، وفي كل مرة كان ينتهي الأمر بإذلالها. أقام الرئيس جمال عبد الناصر منظمة التحرير الفلسطينية بهدف كبح ياسر عرفات، غير أن عرفات قد سيطر على منظمة التحرير الفلسطينية بعد مضي عدة سنوات. الرئيس أنور السادات حاول تعيين نفسه وصيا على الفلسطينيين، وقد أظهره مناحيم بيغن بمظهر الإناء الفارغ.

إذا حاولت مصر السيطرة الآن على غزة ومنع المقاومة من العمل بهدف تحرير الضفة الغربية، فسيتم اعتبارها متعاونة مع إسرائيل. ستكون معرضة لعمليات انتحارية في القطاع وستصل هذه العمليات إلى داخل مصر أيضا. لحماس حلفاء في مصر أقوياء وعنيفين. هذا الأمر غير محبذ قطعا.

سيتوخى مبارك الحذر من استلام المسؤولية على غزة، وخاصة إذا لم يكن عرفات شريكا في هذه الصفقة. إنه يعرف جيدا الشتيمة المحببة على قلب عرفات: "ليشربوا من بحر غزة!"

لهذا السبب تعتبر هذه الخطة بلا ركيزة قوية. ليس لها أي أساس ترتكز عليه. أنها مجرد وصفة لاستمرار الحرب بشكل آخر.

لا يجدر بنا أن نقلق. فشارون ليس جديا. إنه يأمل أن يموت الحصان أو أن ينسى الملك الأمر كله، حتى وصول موعد إخلاء أول مستوطنة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موريتانيا: ماذا وراء زيارة وزيريْ الدفاع والداخلية إلى الحدو


.. إسرائيل وحسابات ما بعد موافقة حماس على مقترح الهدنة في غزة




.. دبابة السلحفاة الروسية العملاقة تواجه المسيرات الأوكرانية |


.. عالم مغربي يكشف عن اختراع جديد لتغيير مستقبل العرب والبشرية




.. الفرحة تعم قطاع غزة بعد موافقة حماس على وقف الحرب