الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مطار هيثرو

زينة منير زيدان

2009 / 11 / 16
الادب والفن


المكان: مطار هيثرو في لندن،
الزمان: 8-2-2009،
حالتي النفسية: قليل من التعب وكثير من القلق حول ما ينتظرني في مقر عملي..
أشعر بشيء من المتعة وأنا أبحر في وجوه الناس المكتظة حولي.. وجوه بألوان مختلفة.. ربما لأول مرة ألحظ كم هي مهمة عبارة " التنوع العرقي والسكاني".
إلى جانبي يجلس شاب لم يتعدّ الخامسة والعشرين من عمره.. منكبّ مثلي على جهاز اللابتوب ولكن لا أعتقد أنه يمارس إشعال أصابع الثلج لتدفأ الأرواح في مدينة البرد هذه.. إنه يبدي تركيزا بما يشغله.. أبيض البشرة دخلت " الحداثة " عالمَه من أذنه التي جعل منها رقعة خرقتها قطعة فضيّة بطول ثلاثة سنتيمترات من جهتين.. إنه البيرسينغ!
أقفل الشاب جهازه وها هو يهمّ بالمغادرة.. يبدو أن موعد إقلاع طائرته قد حان. أما أنا، فأمامي ساعتين ونصف الساعة.. وأريد أن أغفو!
طيب.. قررت أن أطلق للشاب حريته.. وأُبعد عنه عينيّ اللتين ما انفكّتا تحللان استعراضه الخارجي وتسجنانه بأحكامي وتصوراتي وحساباتي..
في هذا المكان الصغير بمساحته، مقارنة بكبر مساحة النوع البشري الذي يحويه، وجدتني أرغب بشدة في التفحّص بوجوه الناس.. هناك ، رجل أبيض البشرة خمسيني الرحلة العمرية، أيضا يضغط بقوة على جهاز الكومبيوتر المحمول، وها هو يستدير فتقع عيناه في عينيّ! أوه.. لا بدّ أنه لاحظ تحديقي.. فأنا أعرف من جدتي أن الملاك السادس لكل إنسان يجعله يُحسّ إذا ما نظر أحدهم إليه طويلا.. ها هو ينظر بدوره إلى امرأة عجوز هندية وقد اقتربت منها ابنتها تسألها ماذا تريد أن تأكل..
في الزاوية المقابلة امرأة نائمة، نحيلة الجسد ثقيلة الهموم، تعرف ذلك من طبقات التجاعيد الممدّدة برخاء على رقبتها .. وتحت العينين تقبع سنين طويلة تحلّلت غبارا وأسى ووجعا.. مرتخية هي.. كما الأحزان تجثم فوق صدور المدن عند شروق الشمس.. مرتخية هي.. وفي ارتخائها استسلام أبدي لكل شيء.. فما الذي يمكن أن يكون بعد أسوأ؟؟ أودّ لو أقترب منها أكثر... ويمنعني قلقي من أن أُسلب ما أملك في أثناء انهماكي بما لا أملك ! المرأة كانت هندية متعبة تناهز الستّين.. لكن رغم ذلك أقول، ليتني أستطيع أن أفعل مثلها.. أن أغفو، وأن أسترخي.. فأنا لا أحتاج لأكثر من دقيقة واحدة ويُفصل الجسد راحلا الى عالم الأحلام..
كبار وصغار.. رجال ونساء واطفال.. ألوان بشرة متعددة وتأخذ كل التدرجات..
كم أنت عظيم يا مطار هيثرو.. لا لشيئ إنما لأن احتضان التناقضات بهذه السلاسة والقبول، لهو شيئ كبير.. حبّذا لو استطاع البشر فعل ذلك.. ما كانت همومهم تغرقهم..
أرى الآن رجلا خمسينيا آخر، يبدو لي "ابن البلد" على حدّ تعبير إخواننا المصريين.. ، وقد قام من مقعده.. واختار بعضا من الحركات السويدية ليفكّك الجسد المتشنج من طول الإنتظار.. ملّ الرجل من الجلوس.. وتستطيع معرفة ذلك لا من الرياضة السريعة التي حرص على إتمامها لكل مفصل، وإنما لأن فاه لم ينفكّ ينتفخ ممتلئا هواءا صاعدا من رئتيه ثم يزفره بغضب.. مرة مرتين والآن الثالثة.. أرأيت؟ قلت لك إنها حالة فقدان الصبر والملل.. ها هو يتقدّم نحوي.. لا أدري ماذا يريد هذا الرجل البارد من كرة النار أنا؟؟ حتما لو عرف ذلك ما آتى! فحضوري يذيب وجوده.. هكذا تقول الكيمياء..
إنه يتقدّم.. لحظة.. يبدو أنه سيحدثني..
................................................. بالفعل.. لقد سألني عن طريقة تركيب شاحن اللابتوب في هذا المكان، كوْن البيت الكهربائي لهذه المعدات جالسٌ جنبي، أو بالأحرى أنا التي جلست جنبه طمعا في وصل جهازي بالطاقة ليبقى دائما مستعدا.. فلا يفشلني أبدا وأنا أكتب إليك يا قارئي..
جاءت عائلة أخرى.. أبٌ، كل شيء فيه ينطق بلغة الضاد إلا لسانه.. ولكن على مين يخفي المسألة؟؟ وعلى رأي والدي" دافنين الشيخ زينكو سوا" بمعنى أنني لا أجد صعوبة في كشف هوية تشبه هويتي.. زوجة الرجل فلبينية وابنها نسخة عنها لا عن أبيه.. أوه .. على فكرة تذكرت أمرا ملفتا.. مهما تزوّج العربي من بلاد آسيا سواء فتاة صينية او فلبينية او ماليزية او يابانية.. فأن كروموزوماتها تطغى بقوة لا منازع لها على أولادها.. فالعربي هنا لا يملك السيطرة على شكل ابنه فهو حتما سيشبه أمه..! ترى.. لما لم يفكر الرجل الشرقي هنا بأنه منتزع الحقوق.. لما يتقبل هنا أن يكون ابنه صيني الشكل والمضمون وينسى عنجهية الذكورية العربية التي يأبى فيها الرجل إلا أن يكون مسيطرا حتى على شكل المولود ليكون نسخة منه لو استطاع.
عجبا.. عجبا.. خارج إطار الوطن العربي يتغيّر الرجل العربي قليلا ليصبح إنسانا..
أعجبتني الزوجة الفليبينية في طريقة تعاطيها مع ابنها.. صار الولد يبكي بالفليبينية.. رغم أن لغة البكاء واحدة، لكنه نقّحها بطابع بلاده في بعض مخارج الحروف.. وصار يتلوى.. ووجدني أنظر إليه، فأيقن أنه الآن على المسرح ونجْمُ العرض أبداً.. وبدأ البهلوان الفلبيعربي ( الفليبيني العربي) يطلق العنان لصراخه ويتلوّى أكثر..يهبط إلى الأرض ويرتفع.. يعصر نفسه.. وأخيرا نزلت دمعة واحدة!.. أحسًّ بالراحة حتما.. فهي دليل صدقه كما يظنّ وحده.. كلّ ذلك والأم لم تنظر إليه أبدا.. بل قالت بعد ذلك بالإنكليزية.. تعال حبيبي وكُلْ، الطعام لذيذ.. لكن حبيبها أصرّ على العناد.. فتركته حتى تفحّم صراخا وهدأ وحده وطلب أن يأكل.
لا أدري لما نقلني هذا المشهد مباشرة الى لبنان، وتحديدا الى بيروت.. كنت يومها مع مجموعة من الصديقات اللواتي تشاركن معا في بيت للطالبات.. كنّا في أحد المجمعات التجارية، وتحديدا في السوبرماركت، ونريد شراء حاجيات البيت.. فارتفع من بين زواريب رفوف الأطعمة المعلبّة صراخ طفل صغير.. كان صراخه مختلفا.. غير صراخ ابن الفليبينية والعربي!.. كان الطفل يبكي بحرقة بالغة وحزن عميق وتنعصر كل شرايينه ودموعه تفرّ وحدها من دون جهد.. وإذا بنا نصعق بصوت مضاد تجاوز في علوّه براءة صراخ الطفل.. ثم بعد ذلك هَدَر في آذاننا صوت صفعة لئيمة باردة، وكُتم الصوتان..
مشهدان مختلفان تماما.. لا ألوم العربي بعدها إن كبُر وضرب صاحبه في المدرسة ومن ثم أخته في البيت ثم زوجته .. كلّ ذلك حتى يصل الى الإنتقام المبطّن اللاواعي لأناه السفلى عندما يضرب أبناءه.. وأفهم تماما لما سيكبر طفل مطار هيثرو متّزنا.. فلم ترجّ دماغه يدٌ حنونة.. أفهم لما سيعارض بالكلام ، ويوافق بالكلام، ويغضب بالكلام ..
تابع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟