الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول ظاهرة المسرح المصري

عبد الناصر حنفي

2004 / 6 / 10
الادب والفن


قد يبدو ما سأقوله هنا غريبا إلى حد ما بالنسبة للبعض ، وهذا يجعلني أؤكد بداية أنني أبعد ما أكون عن القول بعدم وجود أزمة ، بل أزمات في ظاهرة المسرح المصري ، وبعض هذه الأزمات هيكلي أو بنيوي ، وبعضها الآخر مؤسسي ، أي يتعلق بأشكال العلاقات المؤسسية التي تنطوي داخلها معظم تبديات الظاهرة المسرحية ، كما أن بعض هذه الأزمات " وجودي " ، أي يتعلق بإمكانيات استمرار ونمط حضور هذه الظاهرة.

ولكن بالرغم من ذلك كله دعوني أقول أن المسرح ، من زاوية إنتاجه ، هو أضخم وعاء ثقافي مصري على وجه الإطلاق، ولنبدأ بحساب أرقام الإنتاج السنوية ، فلدينا حوالي 60 عرض ينتجهم المسرح القاهري ، وهو رقم يشمل القطاع الخاص ، و مسرح الدولة بكافة أوعيته وقطاعاته ، ثم لدينا حوالي "350 "عرض تنتجهم " الهيئة العامة لقصور الثقافة" عبر أوعيتها المختلفة ، فهناك فرق الأقاليم ( وكانت تنتج قرابة الـ 130 عرض ، وقد انخفض هذا الرقم في العامين الأخيرين ولكن ليس كثيرا ) ، ونوادي المسرح ( وكانت تنتج أيضا قرابة الـ 200 عرض ) ، ثم الفرق التابعة للجمعيات الثقافية ، ومسرح الطفل .. الخ.. وهكذا يصبح لدينا أكثر من 400 عرض تنتجهم هذه الأوعية سنويا.

ثم لدينا الأوعية الأخرى، مثل فرق المسرح الجامعي ، وفرق مراكز الشباب، وفرق بعض النقابات العمالية، وفرق المسرح المدرسي ، وتجمع المسرح الحر ، وجمعية هواة المسرح ، بالإضافة إلى مجموعات الهواة الغير مرتبطة بأي وعاء مسرحي ، والذين عادة ما نفاجأ بهم في مهرجانات الهواة. وبرغم عدم وجود إحصاءات دقيقة حول كم هذا الإنتاج ، إلا أن التقديرات الأولية تشير إلى أنه يمثل رقما ضخما ، قد لا يقل إن لم يزد عن الرقم السابق.
و لكن لو صدقت تلك التقديرات (الأولية ) ، فهذا يعني أن لدينا رقم سنوي يتراوح بين الـ 800 عرض ، وال 1000 عرض ، يتم إنتاجهم عبر مجمل مساحة " مصر" ، وهذا الرقم يفوق كل ما ينشر في مجال الأدب والترجمة ، وكل ما يتم إنتاجه في مجال السينما والفيديو .

ومن جهة أخرى فهذا الرقم يشترك في إنتاجه سنويا عدد يقدر بعشرات الآلاف من المبدعين والمثقفين ، ونسبة كبيرة من هذا العدد يتم تجديدها سنويا ، بحيث يخرج البعض ويحل آخرون محلهم ، وهو ما يجعل ممارسي المسرح يمثلون واحدة من أكبر قبائل الثقافة المصرية ، إن لم تكن أكبرها على الإطلاق.

ونأتي إلى مناقشة " الكيف " أو الجودة الفنية لمجمل هذا الإنتاج ، وهنا لدي ملا حظتين ، فما قد يصرح به أحد النقاد أو الصحافيين حول تأثره البالغ بارتفاع مستوى أحد عروض الهواة المغمورين ليس بالأمر النادر الحدوث ، ففي كل عام تقدم نوادي المسرح عددا من العروض المبهرة فنيا ، بل وسأضيف أن واحدة من أهم التجارب المسرحية التي شاهدتها طوال حياتي كانت للفنان الراحل " عبد الستار الخضري" ، وهو عرض " الفاشوش في بلاد المالوش " الذي قدمته فرقة السويس التابعة لفرق الأقاليم بهيئة قصور الثقافة ، وسأضيف أيضا أن أهم عرض شاهدته هذا العام كان لشاب من بني سويف لا يعرفه أحد ، وهو المخرج " محمد عبادي " والذي قدمه في مهرجان نوادي المسرح ، أما أهم عرض شاهدته العام الماضي فكان لمخرج قاهري ( أيضا لا يعرفه أحد ، بل ولا يكاد يجد مكانا لإجراء بروفاته ) ، وهو المخرج " محمود مختار " والذي قدم مع فرقته " العبث" عرضا بديعا مأخوذا عن رواية ماركيز " سرد أحداث موت معلن" ، وجدير بالذكر أن هذه الفرقة هي مجرد تجمع خارج أي وعاء مؤسسي ، فقط مجموعة من محبي ومبدعي المسرح .

ولا أريد أن أنقل المناقشة إلى التساؤل حول جودة ما يقدم في الأجناس الفنية الأخرى ( فكم فيلما ، أو كم رواية أو ديوان شعري ، يمكن أن نحتفظ بهم في ذاكرتنا بعد أشهر قليلة من صدورهم ) فلا يمكن وضع تدني الجودة في تلك الأجناس في إطار واحد مع ما يماثله في المسرح ، باعتبار أن ذلك مؤشر عام لتدني طموح وفاعلية الثقافة المصرية ، فالمسرح تحديدا يتميز عن هذه الأجناس بأنه نشاط مؤسسي بالمقام الأول ، فثمة مجموعة من البشر تجتمع لعدة أسابيع أو شهور لتتدرب على تجويد عزف متواصل أو أداء متواصل لمدة زمنية محددة( ساعة أو أكثر ) بحيث يبدو كل منهم وكأنه يقدم ما يخصه روحيا (وليس ما هو مجبر عليه) في تناغم كامل ودقيق مع ما يقوم به الأعضاء الآخرون بالفريق ، وهي نتيجة لا يمكن بلوغها إلا عبر التوصل إلى صيغة مؤسسية تنظم العلاقة بينهم جميعا ، أي صيغة لتوزيع السلطة ، ولذلك فالمسرح ليس فقط الأكثر حساسية بين جميع الأشكال الجمالية لأي قيد على حرية التعبير ، ولكنه أيضا شديد الحساسية لدرجة النضج المؤسسي في المجتمع ، وليس من قبيل المبالغة القول أن المسرح يشترط لظهوره في أي مجتمع درجة من التطور المؤسسي في العلاقات الإنسانية ، وهو ما يجعل المسرح بصفة عامة أقل الأشكال الجمالية نزوعا نحو الراديكالية المفرطة .

وبالطبع فهذا يعني أن التطور المسرحي يأتي دائما متأخرا من الناحية الجمالية ، ولكنه فيما يفعل ذلك يقدم ما يتجاوز العطاء الجمالي ( ناهيك عن المقولة الفكرية أو المعنى ، ذلك الوثن الأثير لدى العديد من التوجهات الثقافية والسياسية في مصر)، فهو عبر بحثه عن صيغته المؤسسية قد يتبنى أحيانا الأشكال المؤسسية المطروحة في المجتمع على نحو يدفعها إلى الظهور أمام بصيرة الوعي بطريقة لا يمكن إغفالها ، أي أنه يكشف طبيعة العلاقات المؤسسية المسيطرة ، وعلى سبيل المثال فلا يمكننا عندما نشاهد عروض " عادل إمام " الأخيرة ،ونرصد ما يوجهه من صفعات لصغار الممثلين ، إلا أن نفكر ولو على نحو غير واعي في سلطة السيد الإقطاعي، المسيطر على كامل الحضور الجسدي للمنطوين تحت لوائه ، والذي يمتلك وحده شرعية انتهاك هذا الحضور في أي وقت يشاء ، وربما سيمر زمن طويل قبل أن أستطيع نسيان ذلك الالتذاذ السادي الذي فشل " الفنان فؤاد المهندس" في إخفائه أو السيطرة عليه وهو يضرب "سناء يونس" بالعصا على أردافها، والأكثر فظاعة أن تلك السادية كانت تتزايد كلما بدا أن سناء يونس تتألم على نحو يدفع بها إلى حافة الاهتياج العاجز عن التعبير عن نفسه ، والآن هل يمكننا تخيل ذلك البرجوازي الصغير ( أو حتى تلك البرجوازية الصغيرة ) وهو يرتدي ملابسه يوميا ويندفع لمحل عمله حيث يتلقى بعض الصفعات ( أو الضرب على الأرداف)، ويعاني من الشعور بالإذلال أمام الجميع ، ثم يعود في نهاية الليل بأجره الزهيد ، أجل إن المسرح ( واعيا أو غير واعي ) يمنحننا معاينة حقيقية وحاضرة لهذا المشهد القاسي الذي ما أن نراه حتى نصبح شهودا عليه بوصفه حدثا معلنا وغير استثنائي، بحيث سيتعين علينا اختيار موقفنا إزاءه ، فإما أن نقره ، أو نرفضه ، وفي الحالتين لا نعود أبرياء ، وعبر هذه العملية سيكون المسرح بمجرد حضوره ، وبغض النظر عما يقدمه ، وعن جودته الفنية ، قد وضعنا في مواجهة مباشرة مع أنفسنا ، ومع نظامنا الاجتماعي، ونزع عنا براءة الجهل والغياب.

وفي أحيان أخرى ، قد يحاول المسرح طرح أو اقتراح صيغ مؤسسية أخرى لعلاقات السلطة على نحو يجعلنا نعاين أن ما نتقبله بوصفه نظام طبيعي أو قدري للعلاقات بين البشر هو مجرد خيار يمكننا رفضه أو قبوله ، وحينها يصبح المسرح فعل مقاومة حقيقي.

سأكرر أن هذا العطاء هو عطاء "لا جمالي" بالدرجة الأولى، إنه لا يتوقف على جودة نص الكاتب ، أو عبقرية المخرج ، أو إبداعية الممثلين ،أو أيا من التقنيات الفنية الأخرى ، فهو ينبع فقط من كون المسرح أحد أشكال الاجتماع الإنساني ، وبالتالي فلا يمكنه - وهو يحقق نفسه - إلا أن يدخل في حوار مع كافة نظم وأشكال الاجتماع الإنساني ، وضمنها إن لم يكن على رأسها " الدولة" ذلك الشكل الارقى ( حتى الآن على الأقل) لتجمع البشر.

إن هدفي الأساسي هنا هو الدفاع عن الأطروحة القائلة أن المسرح ليس مجرد شكل جمالي فحسب ، بحيث تقيم ظاهرته طبقا لإنجازها الجمالي فقط ، وبقدر ما يمكننا تقبل هذا التحليل بقدر ما سنبتعد عن اعتبار الكم في الظاهرة المسرحية مجرد غثاء يمكن تجاهله.

وهكذا ، يمكننا القول في النهاية أن ما ينقص طريقة تناول ظاهرة المسرح لدى قطاع كبير من المثقفين هو عدم الوعي بخريطة المسرح المصري ، وكذلك تطبيق المعايير الجمالية المجردة على تلك الظاهرة وذلك على نحو يتجاهل عطائها الاجتماعي اللاجمالي .

ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد ، فثمة مقاومة - أو فلنقل عدم تفهم - من المثقفين المصريين لمشروعية التطور الفني والجمالي لظاهرة المسرح ، وهناك أيضا ذلك الرفض الراديكالي " للتجريب" ( والذي ينبغي أن يظل في قائمة الانتظار حتى يزدهر المسرح العادي أولا) ، وهذا الرفض يستمد نبرته الراديكالية من تلفحه بمعارضة اتجاهات وزارة الثقافة ، وهو أمر محمود بالطبع ولا يمكن إلا أن يستأثر بتعاطفنا، وإن كان ينبغي أن نلاحظ أن هذا الرفض " يلقي بالطفل مع ماء الاستحمام " كما يقولون ، فالتجريب المسرحي ( ولدي اعتراضات جمة على هذا المصطلح ولكن ليس هذا مقام طرحها ) يصبح هو " المهرجان التجريبي" الحكومي الطابع ، والذي قد يعطينا الكثير من المبررات لرفض الطريقة التي ينظم بها ولمعارضة التوجهات التي يتبناها .. الخ ، إلا أن هذا الرفض وتلك المعارضة لا يمكن مدهما على استقامتهما ليطالا الأشكال " الحداثية " ( أو فلنقل " المعاصرة" ) المغايرة للإبداع المسرحي ، ولنلاحظ هنا أن تلك الأشكال لا تقتصر على المسرح فقط ، بل تمتد لتشمل كافة الممارسات الجمالية، ولكن لأمر ما فإن هذه التغايرات يتم قبولها لدينا في أجناس الأدب ، بحيث تحظى بشرعية الوجود ( مهما كانت الاعتراضات والمناقشات حولها فيما بعد) فيما تسلب شرعيتها بالكامل عندما يتعلق الأمر بالمسرح ، بل ويتم إلصاقها على نحو تعسفي بالسياسة الحكومية . والأكثر غرابة في هذا الشأن أن تلك الاعتراضات تكاد تتطابق مع الاعتراضات اليمينية والمحافظة حول الحداثة بصفة عامة ، فهناك دائما اتهامات التغريب والتقليد والانعزال عن الناس وعدم القدرة على تطوير أشكال محددة وواضحة من المعاني وانعدام الفهم المتوازن لوظيفة الوسيط ودوره وإمكانياته الجمالية .. الخ ، وهي كلها اتهامات واجهتها قصيدتي التفعيلة والنثر والكتابة السردية الجديدة من قصة ورواية ، بل و طالت أيضا مناهج النقد المعاصرة ، ولكن الجديد - والغريب أيضا - أنه عندما يتعلق الأمر بالمسرح فسنجد أن مطلقو هذه الاتهامات هم كوكبة لامعة من المثقفين والمبدعين التقدميين تضم أسماء من وزن " صنع الله إبراهيم" ، و" بهاء طاهر" وغيرهم .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا