الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل 17من رواية حفريات على جدار القلب

حبيب هنا

2009 / 11 / 18
الادب والفن


محزن مشهد الأرض العراء التي كانت بالأمس حقولاً خضراء مزروعة بالخضراوات والأشجار المثمرة ، وأصبحت الآن محروثة على الضفتين من الإسفلت كأنها يد مبسوطة تستجدي عابري السبيل . هذه هي أرض المعركة في معظم خطوط التماس.. أسيجة حديدية وأبراج عالية ترقب كل حركة ، وعدد من المجنزرات يتوسط الطريق ، تطلق رصاصها المجنون وقذائفها الثقيلة على كل شيء ينبض بالحياة .
ربما هذه صورة مصغرة للواقع ، وربما بسبب ما يحدث على الأرض ، لا يستطيع أحد تفسير الاتفاق الضمني غير المعلن بين مختلف شرائح المجتمع تفسيرًا دقيقًا . الاتفاق الذي بموجبه يصطف الأهالي كل يوم على ضفتي الشارع العام بانتظار مرور جثمان الشهداء من أجل تشييعهم إلى مثواهم الأخير ، والانتقال بعدئذ إلى محاور المواجهة . ففي الساعة العاشرة من صباح كل يوم تبدأ الحناجر باللهاث ، وكلما اقتربوا بالذين اصطفاهم الله إلى جواره من الصحراء الوقحة التي تلتهم في داخلها أعز الناس إلى قلوبنا ، كلما ازداد اللهاث وتحجرت الدموع في العيون دون القدرة على الانسكاب .. كيف لا والرجولة تقتضي ألا يٌودع الشهداء بالدموع !
ولما كنت أسمع من بعض الأصدقاء القصص المثيرة التي تنتهي بصب الاحتلال جام غضبه على المواطنين ، أقول في سري: لقد تقاسم هذا الشعب الألم بالتساوي فأصبح نصيب كل واحد ضئيلاً ، ولولا أنه يفعل ذلك لكانت المصيبة قد وقعت ، إذ لا يقوى عدد محدود من الأشخاص وعوائلهم على تحمل الآلام كلها!
وعندما تعض أنياب الانفجارات جنزير دبابة ، فيقعيها على جنبها كتلة من لهب ما تلبث قذائفها المخزونة في الداخل أن تتفجر محدثة دويًا هائلاً يخيف الفرق الطبية المرافقة للجنود من الاقتراب والبحث عن ناجين ، حتى تتهلل أسارير أوسع القطاعات: لقد أصبنا منهم مقتلاً !
عندها تحتفل المدينة بالفرح .. تسمع شخصًا يقول للمحيطين به : أنا أعرف هؤلاء الجنود ، لا تفلح معهم أجود أنواع العطور بإخماد رائحتهم الكريهة !
وفي مكان آخر تسمع أقوالاً تحمل نفس المضامين وإن تغيرت الكلمات : هكذا ، عند الفجر يطفح الهواء بهمس الطيور ..
وعندها أيضاً ، تغير الأفكار مجراها فتصب مياهها المنسابة في قناة التوقعات : حجم القصف سيكون الليلة بمقدار خسائرهم ..
ويرد شخص يسمع الحديث من بعيد :
ـ لن يقصفوا هذه الليلة ، يخافون الرد الموجع الذي لا يتحملون استمراره ..
يرد عليه آخر :
ـ ولكنهم قصفوا ليلة أمس علمًا بأن خسائرهم كانت أقل .
ـ نعم ولكن همزنا خاصرة السماء فجاء الليل متغامزًا وانسكب الماء حبالاً تشرينية تصل الأرض وتطفئ نار الليلة الماضية ..
ومن البعيد ، تأتي إلى مسامعنا أغنية كلماتها تحمل من المضامين ما تجعل القلب يحلق في سماء التأمل والوجد .. أهمس لنفسي : إن مبدع هذه الكلمات أراد لها أن تبقى خالدة عندما صب في روحها ما تحمله روحه الطائرة ‍‍‍‍!
وفي اليوم التالي ، وقفت أمام الطلبة والطالبات في قاعة المحاضرات ، وقبل أن أتفوه بكلمة واحدة غير رد التحية ، سألت نفسي : ماذا بوسعي أن أقول لهم في وقت أنا عاجز فيه عن الفعل ؟ كل الكلمات ستبقى قاصرة أمام نظرة طفل يودع عالمنا المنكفئ على نفسه ، مسبلاً جفونه على آخر صورة التقطتها عيناه قبل أن تصل الرصاصة إلى مكانها القاتل : جندي يصوب رشاشه وينفذ الأمر !
اعتذرت لهم وغادرت القاعة إلى مكتبي ، عقلي يضرب بجنون : ينبغي أن أفعل شيئًا !؟ دخلت لبنى مكتبي دون أن تقرع الباب هذه المرة .. سألت :
ـ ماذا بك ؟
أي شفافية تلتمع في عدسة العيون ، وأي دفء يغلف الصوت فيحيله إلى فنجان قهوة الصباح .
ـ لا شيء ..
ـ لماذا انسحبت من قاعة المحاضرات ؟
في عينيها ، كان الوطن ممتدًا على صفحة السماء الزرقاء .. وفوق جسدها الممشوق كانت جيوش العاطلين تزحف ببلادة .. وحول خصرها النحيف كانت الأسلاك الشائكة تحاصر المحبين وتمنعهم من التقدم نحو الحرية . .
ـ صغرت أمام فعل الأطفال فلم أقو على النظر إليكم ‍!
ـ ولكن عملك لا يقل أهمية عن الحضور في ساحة الاشتباك ..
كل رصاص الاحتلال انصب على رأسي ، فقط ، لأنني تذكرت ضحكة طفلة يغار منها الفجر عند نسائمه الأولى ، أسرعت طواقم الإسعاف لإنقاذ حياتها ولم تستطع ..
ـ من يهزم في معركة يصعب عليه الانتظار عشر سنوات حتى يعود للمواجهة !
ـ المعركة لم تنته والنصر سيكون حليفنا ..
الفراغ يملأ الروح ويصعب ترميم الانكسار الداخلي .. تتحشد المعاني في عقول راكنة للقائم ولا تسعى نحو تغييره فتضاعف الحسرة .
ـ إننا بحاجة إلى قرار واضح وصريح ، ينبغي الكف عن التلاعب بمشاعر المواطنين !
ـ لسنا بحاجة إلى قرار .. الفعل الميداني هو صاحب القرار ويصوغه بما يراه ملائمًا ..
تفتح الدنيا أبواب نكبتها على لحظة عشق غلفت أعواد الثقاب بمادة " جلاتينية " فلم تشتعل .. وتسقط الساعة الجدارية على الأرض فيتوقف رنينها الممزوج بالصخب ، ولا أحد يعرف متى يقترب الفجر من ضوء النهار .
ـ ماذا سنقول لصناع الانتفاضة الأولى الذين دخلوا عقدهم الخامس ؟ هل ما زالوا بنفس اللياقة والجاهزية والقدرة على الحركة في الانتفاضة الثانية ؟ كيف سيثأرون لهزيمتهم السابقة وهم عاجزون عن تجاوز أسبابها بعد أن حطم الكبر خلايا أدمغـتهم؟
ـ رسالتهم وصلت إلى أيدي أمينة منهم أنت وأنا ‍‍‍‍‍‍‍!
نعاود قراءة الأيام ونروي الحكاية من بدايتها :
طفل بعمر الورد يسطر تاريخه الدامي .. صبية بلون زهرة الياسمين تعاتب أخاها : أيا أخي لا تنسوا ابن عمكم عند توزيع الغنائم كما في المرة السابقة .. لقد مضى من أجلكم ثم أغمض عينيه إلى الأبد .. زوجة في شهرها الأول تطارح زوجها الحب ثم يذهب وفي أحشائها الجنين .. أم تسهر الليالي وتمزج الأوقات في النهار ، تطعم وتسقي ، تستقبل وتودع ، وهي دومًا بانتظار .. عجوز تخبئ في صدرها المفتاح وفي شرايينها الأمل ، تطوي السنين وهي ما تزال على وعد حفيدها باقية : سنجتمع يومًا يا ولدي في بيتنا الكبير عند . . جدك الأول ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ذكرى وفاة الشاعر أمل دنقل.. محطات فى حياة -أمير شعراء الرفض-


.. محمد محمود: فيلم «بنقدر ظروفك» له رسالة للمجتمع.. وأحمد الفي




.. الممثلة كايت بلانشيت تظهر بفستان يحمل ألوان العلم الفلسطيني


.. فريق الرئيس الأميركي السابق الانتخابي يعلن مقاضاة صناع فيلم




.. الممثلة الأسترالية كايت بلانشيت تظهر بفستان يتزين بألوان الع