الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجسد حقلا استكشافيا وكونا يحوي الكون

يوسف ليمود

2009 / 11 / 22
الادب والفن


لقرون بعيدة، بل من آلاف السنين، كان سطحٌ ما كالحائط أو القماشة، أو كتلة ما كالحجر أو المعدن أو الخشب، هو الحيز الذي يصب فيه الفن مادته وروحه وموضوعاته، التي غالبا كان الجسد أحد أهم مفرداتها التعبيرية. لكن أن يصبح الجسد نفسه هو القماشة والكتلة والحيز وحقل التجربة والأداة والهدف، فإن الأمر يحتاج إلى إعادة النظر في كل القيم المتوارثة والمسلّم بها، سواء في الفن، أو الأفكار التي تمخضت عنها هذه الطرائق في الفن، والتي هي أصلاً نتاج الواقع ومفاهيم المجتمع، بالأحرى رد فعل ضد هذا الواقع وتلك المفاهيم. فلو لخصنا، بكلمة واحدة، معنى الفن منذ عصر الكهوف وحتى الحديث منه، وقلنا إنه تعبير أو رمز، فبإمكاننا أن نقول إن الفن المعاصر يلعب دور الكاشف، أكثر مما هو مجرد تعبير. كشفٌ هو وتعرية لمناطق الخلل في ذلك الجسم الهائل المرتبك المريض الذي اسمه العالم، يفككك معايير الجمال المألوفة ويضحّي بها كشيء زائد، إذ الأساس هو التقاط تلك الأورام الخبيئة والخبيثة من ذلك الجسد الضخم، ووضعها تحت مجهر موصَّل بشاشة اليكترونية كبيرة، هي مرآة نرى فيها ما يورّم ويهدد جسد العالم الذي ليس إلا نحن.
وحين نرى الفنان يستعمل جسده كقطعة خشب، يشقها بمنشار هنا، ويثقبها بخازوق هناك، ويزيد عليها في هذا الجزء، وينقص منها في ذاك العضو، نكون أمام نحات دموي يمكن، بنظرة سطحية، أن يظنه البعض مازوخي أو مجنون أو مشعوذ هدفه الشهرة. غير أن النظرة الأعمق، تتخطى شخص الفنان إلى نتيجة عمله وتقييم هذه النتيجة. والمنطق يجعلنا نميل للاعتقاد بأن مساحة الادعاء والشعوذة التي يمكن أن تمارَس على سطح لوحة أو كتلة حجر، لا تقل بحال عن مساحة الادعاء والشعوذة التي يمكن أن تمارَس عن طريق استخدام الفنان جسده الخاص! إننا أمام نحت للأفكار، للإرادة، ولن أكون مبالغا لو قلت نحتاً للمصير الشخصي: إمساك قدرنا بأيدينا وتوجيهه حسبما نريد! هذه هي الإحالة والشفرة السرية التي يمكن أن يتضمنها الفن حين يتخذ اللحم الذاتي الحي – جسد الفنان – ساحته التي يجري عليها بخيول أفكاره متخطيا الحواجز. سيقول واحد أين الفن هنا؟ وماذا عن أساتذة اليوجا في الهند، يمشون على الجمر بأقدامهم الحافية ويغرسون الإبر والمسامير في جلدهم ويرتفعون في الهواء… إلى آخره من عجائب هي إلى المعجزات أقرب، ومن دون ادعاء أن ما يفعلونه فن؟ الجواب بسيط، وهو أن هذه طاقات وإمكانات موجودة في كل إنسان، ولا يستحيل الوصول إليها عبر التمارين! ولكن غاية الفنان الذي يقوم بعرض أدائي، مستخدما جسمه بقسوة أو تطرف، ليست مسألة استعراض قوة أو تعجيز. نفترض أنه استعمل جسده كوسيط لا يمكن استبداله بآخر في إحالته على الفكرة أو المفهوم الذي انطلق منه العمل، وما كان لأي وسيط بديل أن يجسد الفكرة ويكون له التأثير المرجو. ولا حاجة هنا للتأكيد على أن كل مادة أو خامة في الفن لها مداها ومدلولاتها، فخط مرسوم بالقلم الرصاص لن يكون هو نفسه لو كان مرسوما بالحبر أو بالكمبيوتر أو بالدم؛ وتمثال مصنوع من الرخام لن يكون هو نفسه لو أنه من الجبس أو الخشب… وما كانت لأهرامات مصر التأثير نفسه لو أنها مبنية بالطوب اللبن وليس بكتل الحجارة الرهيبة تلك!
يرتبط مفهوم الجسد في الوعي الإنساني، بشكل عام تقريبا، بثنائية المقدس والمدنس. ليس هذا الحيز موضوع بحث في التراكمات التاريخية التي خلقت تلك الثنائية، ولكن يمكن في سطر واحد أن نفترض أن عنصري الألم واللذة، اللذان يتجاذبان الجسد في رحلته، هما البذرة التي تفرعت عنها هذه الثنائية: الألم الكبير يطهر الروح ويحول الشخص قديساً، واللذة المفرطة تهتّك الجسد وتجعل منه آثما! ويندر أن نجد فنانا يستعمل جسده كأداة أو مادة أو وسيط، من دون أن يلامس عملُه طرفي تلك الثنائية، ولو من بعيد، أو بشكل غير مباشر، إذ لن تنجو أفكاره التي يبني عليها عمله الفني، الذي غالباً ما يكون عرضا أدائياً (بيرفورمانس)، من التقاطع مع، أو الاصطدام بالرواسب التي شكّلت الوعي الجمعي والمفاهيم العامة في النظر إلى الجسد كأرجوحة بين هذين القطبين! فالدم مرتبط بالصلب، كما يمكن أن يشير إلى فترة الحيض عند المرأة، ناهيك عن مروره بفكرة القربان أو الأضحية. كما أن أعضاء الجسم من القدم إلى الرأس نُظر ويُنظر إليها غالبا في سياق تراتبي: العلوي (الرأس، والصدر حيث القلب) أرقى وهو قريب من السماء، والسفلي (العضو الجنسي والقدم) أدنى وهو قريب من الأرض. هو حبلٌ إذن، مشدود بين عارضتين، إحداهما بيضاء والأخرى سوداء، يرقص عليه ذلك النوع النادر من الفنانين الذين يستعملون جسدهم وسيطاً لعملهم. أورلان الفرنسية، وستيلارك الاسترالي، قدّما عروضاً، على ذلك الحبل المشدود، تُقلق العقول الناعمة في قناعاتها، وتثير الأسئلة الكبيرة حول الوجود، الجسم والروح، الزمن، المجتمع… وتثير بالقدر نفسه أسئلةً حول ماهية الفن ومعايير الجمال المعاصر والحدود الذائبة بين الفن والحياة.
يوسف ليمود
مجلة جسد
يتبع: قديسة الجسد الجديد أورلان .. خطوة في اللحم لا يحتملها العالم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية