الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الانتخابات الجماعية المغربية وفكرة الحداثة.

كريم اعا

2009 / 11 / 23
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي


الانتخابات الجماعية المغربية وفكرة الحداثة.
اكتسب الفكر الحداثي قوته الأساسية من دعامتين رئيسيتين: منطقه الداخلي المتضمن لعصارة الفكر الإنساني وما راكمه من علامات تنويرية، وتلقف الطبقة الصاعدة له ودفاعها عنه؛ رغم ما اعترى هذا الدفاع من انحياز وتعصب ودمار.
لقد شكلت هذه الدعامة الأخيرة نقطة الضعف في المسار الحداثي بصيغته الليبرالية، إذ سيتكشف لمن آمنوا لمدة بقدرة البنى البرجوازية سياسيا، اقتصاديا وإيديولوجيا على الذوذ عن جوهر الحداثة، زيف هذا الإدعاء وضمور الفكرة التحررية التي واكبته ولازمته. وهو ما سينتج حركات ردة، ليس عن الأرضية التي رعت الفكر الحداثي وجعلته حصان طروادتها، بل عن الفكر نفسه. فالنفي لم يستطع أن يقف عند الجهاز والأدوات التي سخرتها الليبرالية لوأد وتزييف الجوهر الحداثي، بل توجه بإيعاز من هذه الأدوات وهذا الجهاز إلى نبل الفكرة ومشروعيتها.
نحن إذن إزاء تاريخ يحاول تكرار نفسه وخارج شروطه. وهو ما لن يتحقق إلا بتخلف الفكرة الحداثية عن ربط نفسها بالفكر الإنساني المبدع، الذي ينبذ القهر والاستغلال؛ ويؤصل لقيم المساواة والحرية الإنسانية.
حين يستطيع الفكر الحداثي أن يفتح لكل الإنتاجات مساحات داخله، حين يتمكن من جعل الإنسان قلبه النابض، حين يشهد تراجع المقدس والمحرم، حين يكون عقبة كأداء أمام العصبية والطائفية، حين يتحول سلاحا ضد الفوارق الطبقية، حين يجعل من الإبداع المشاكس أسلوبا، حينئذ يمكن أن تنتفي الدعوات المابعد حداثية، وأن نقتنع بأن جوهر الحداثة لا يعني إلا حلقة في مسلسل الإنتاج الإنساني؛ في مرحلة وبيئة تاريخيتين تأتى لهما أن تسما العالم بميسمهما وأن تبيحا لنفسيهما التحدث باسم الإنسانية.
وإذا كانت النخب السياسية بالمغرب، بمختلف ألوانها وأطيافها قد أثثت مشهدها الإعلامي والحزبي بشعارات الفكر الحداثي وعلاماته، فسنحاول الوقوف عند محطة يعتبرها البعض خطوة إضافية نحو تأصيل الفكرة الحداثية، بينما يعتبرها البعض الآخر بوابة للتأسيس للأفق الحداثي الذي ، وإن لازم الفكر كفكر، إلا أنه ظل مبتذلا كفعل داخل الفعل. إنها الانتخابات المغربية، التي اشتد سعير حملتها وتزايدت درجة سخونة أعصاب المشاركين فيها أو المتتبعين لفصولها.
فإلى أي حد تتقاطع الممارسة الانتخابية المغربية مع الجوهر الحداثي؟ وإلى أي مدى يمكن أن تعبر عن منطقه وغاياته؟ وهل تحتاج إلى منطق التأصيل أم إعادة البناء والتأسيس؟
1- الانتقال من سلطة الفرد إلى سلطة المؤسسة:
تعتبر إحدى العلامات الفارقة في العصر الحداثي. فيه وعبره تمكنت الطبقة البرجوازية الصاعدة من بناء وجودها وتقليص هامش الأرستقراطية التي لم تسع لاجتثاثها إلا بقدر ما صمدت أمام نزوعاتها الجديدة وانتصبت لتكريس هيمنتها وثقافتها.
لقد كبرت فكرة المؤسسة مقابل تضخم سلطة الفرد، العشيرة، الطائفة أو نكوصها. فبقدر ما تجبر الأمراء والإقطاعيون، تعمقت فكرة المأسسة واحتلت أولوية الأولويات في أجندة الطبقة الجديدة. وما دامت هذه الأخيرة غير قادرة بفردها على مواجهة القوة الأرستقراطية، فقد كان لزاما عليها الاستعانة بجيوش الأقنان والمعدمين لنصرة مشروعها الجديد، والذي شكل في حينه خطوة كبيرة نحو إقرار الحقوق الفردية ولو في ثوبها البرجوازي.
أمام الضربات التي تلقتها الأرستقراطية وبداية تجذر "الفكر الحقوقي" بمفهومه التاريخي، كان لابد من عقد هدنة بين الأطراف الرئيسية المتصارعة، مما حال دون استمرار الفكرة التحررية في قطع الأشواط والانتقال إلى أطوار عليا. فكانت الانتكاسة التي ستظهر نتائجها بعد شيخوخة سلطة الطبقة الجديدة، الشيء الذي أنتج النقاشات حول "الحداثة" وما بعدها.
وإذا عدنا إلى الانتخابات المغربية، فيمكن القول أنها ابتدأت من حيث انتهت تجارب المؤسسات في دول كانت سباقة إلى المناداة بنهاية سلطة الفرد، العشيرة أو الطائفة.
لقد اكتشف المواطن في الدول الغربية -أو يكاد- أن سلطة المال والعائلات الغنية هي مفتاح أغلب الاستحقاقات التي تدور في بلدانه، وهو ما يهدد التراكمات التي تحققت طوال عقود من النضالات والاحتجاجات.
أما بين ظهرانينا، رغم كل ما يمكن أن يقال عن سوء المقارنة ولا واقعيتها؛ بل عبثيتها إذا ما قارنا عمل المؤسسات هنا وهناك، فيمكن القول أن ما أصبحت تعاني منه التجربة الليبرالية شكل ولا يزال نقطة البداية في بلدان أقحمت في سيرورة لم تحتكم لتحولات ذاتية. المؤسسات في هذه البلدان الأخيرة، لم تكن نتيجة طبيعية لتحولات سياسية واجتماعية نضجت في خضم النفي والنفي المضاد، وبالتالي افتقدت قوة اجتماعية صاعدة تحضنها وتذوذ عنها، وتسير بها وعبرها نحو إقرار سلطة مؤسسية حقيقية، تقطع مع إرث الأسرة، القبيلة، العشيرة والطائفة.
حداثة "التجربة الحداثية المغربية" وارتكازها على مقومات لا حداثية تقاوم الفكرة الحداثية، جعلتها تنتج مشهدا لاحداثيا يبحث في الخطاب الحداثي عن أشكال حداثية صورية يخفي بها لاحداثيته واحتياجه للفعل الحداثي المحدث.
إن أول ما يحتاجه المشهد السياسي المغربي، والانتخابي منه بوجه خاص، هو إعادة تحديد مرجعياته وتبيان الجوهر الضابط لكل جزء من أجزائه، بعيدا عن الفكرة اللاحداثية المتشبثة بتلابيب سلطة الفرد وأسبقيتها على سلطة المؤسسة. ولعل هذا البعد المؤسسي القائم على رؤية واضحة لتشابك خيوط المشهد الاجتماعي واصطفافاته، سيكون بمثابة الهزة التي ستعيد للفكر السياسي، للفاعلين في حقوله وللفكرة الحداثية إشعاعهم، كتجليات غير مطلقة لمرحلة تاريخية أطلقت المارد الإنساني من قمقمه وحاولت الانقلاب عليه حين أصبح مهددا للإطلاقية التي سعت للاصطباغ بها.
2- الشرعية المؤسسة على مفهوم التعاقد:
انتقلت أوربا من سلطة "الأمير" إلى سلطة الدولة المبنية على مفهوم التعاقد، والذي يستحضر مفهوم "الشعب" أو "المصلحة العامة" كمرجعية في المحاسبة واتخاذ القرار.
وإذا كانت أوربا قد شهدت عودة قوية لأمرائها الجدد والقدامى لاحتلال المشهد السياسي من جديد، فإن ذلك لايمنع من الجزم بأن "مفهوم التعاقد" لا يزال حاضرا في علاقة المواطن بممثليه وبالمؤسسات الحداثية البعيدة عن بداياتها. ودون أن أطيل الحديث عن تقييم، قد يبدو متسرعا ومفتقدا لأسس موضوعية ومتينة، سوف أكتفي بالوقوف عند مفهوم التعاقد ومدى حضور جوهره في المشهد السياسي المغربي.
التعاقد يفرض بالضرورة وجود أطراف قادرة على المناورة، تغيير موازين القوى، الوضوح، المسؤولية، آليات نقد ومحاسبة دقيقة، بالإضافة إلى اصطفافات واضحة تتأسس على برامج سياسية متعاقد بصددها بين حامليها ومسانديها.
الفكرة الحداثية جاءت محررة من المطلق والاختيار غير الحر، لكنها وهنت في منتصف الطريق، فأصبح التعاقد اختيارا بين خيارين يدافعان عن جوهر واحد، انتهى ببعث الممارسات الأميرية المنافية للمنطق الحداثي.
التعاقد –صنع بالمغرب- جزء من مشهد نكوصي، لا يعير للشعب مكانته المميزة التي انبثقت عنها فكرة التعاقد.
فلا تعبيرات سياسية حاملة لمشاريع واضحة ومصطفة، ولا حضور قوي لحاملي فكرة حداثية تحترم كياناتها وتنتصر لمواقف حداثية حقيقية. بل مشهد لا يستحضر "التعاقد" إلا كدعاية لدغدغة مشاعر فئات تحن لجوهر الفكر الحداثي، وكتزيين لواقع يغلب عليه تعاقد من نوع آخر، مناف للإرث الحداثي ومناقض لمنطلقاته وغاياته.
التعاقد الحقيقي يفترض القدرة على المحاسبة، يفترض الخوف من سلطة الشعب ومن قوة التاريخ. أما حين تكون المصلحة الفردية الضيقة، والتعاقد بين أسر وعشائر ونخب بعينها على اغتيال المصلحة العامة وإفراد مساحات شاسعة لممارسات أقل ما يمكن أن توصف به هو غرفها من ثقافة "الأمير"، حينئذ يصبح المشهد السياسي/الانتخابي تراجيديا يكون ضحاياها ملايين البسطاء المهمشين، المنبوذين واليائسين.
فلا أمل في تعاقد مؤسس على منطلقات غير مؤسساتية، وعلى ثوابت لاحداثية. تعاقد يمتح من قيم السوق أكثر مما يأخذ من قيم النزاهة، الحرية والمساواة.
إن المستقبل، كل المستقبل لممارسات تثبط عزيمة الطامحين لاحتلال خشبة المسرح السياسي بهوية حداثية تسمح للأطراف المتعاقدة من إثبات ذاتها والتحرر من "سلطة الأمير" وإقرار تعاقد حقيقي يجعل المصلحة العامة المنطلق والغاية.
الحضور القوي للمال المفسد في الانتخابات، اغتيال لنبل مفهوم التعاقد، وانحطاط لم تدركه التجربة الأوربية بعد، وإن كانت بعض فضائح السياسيين التي كثيرا ما تغتال في المهد تعكر صفو المدافعين عن الهكذا تعاقد.

3- من النقل إلى العقل:
شكلت القطيعة مع أشكال التفكير السابقة للطفرة الحداثية، إحدى العلامات الفارقة في مسار الفكر الحداثي. وهكذا شهدنا نصرة العقل، العلم، التحليل، الديمقراطية والاصطفاف الطبقي، ضدا على المعتقد، الميتافيزيقيا، الخطابة، الاستبداد والإثنية.
صار المكون الثقافي يحتل الأسبقية عن الطبيعي، وشهد الانتقال به إلى مستويات أصبحت رهينة تقنية انقلبت على كل أشكال التفكير الوليدة وحاولت رهنها بها وداخلها.
الثورة الحداثية مكنت العقل البشري من كسر كل الحدود وتجاوز كافة الخطوط الحمراء التي احتجزت الطاقات الإنسانية المبدعة وجعلتها حبيسة مرجعيات مطلقة، تكفر بالجديد وتعيد بعث القديم ضدا على الجديد والتطور التاريخي، الذي أصبح التحول والصيرورة ميزة متأصلة فيهما وقانونا لا يمكن الرجوع عنه دون جر البشرية إلى عهد بائد، من المؤكد أنه لن يعود إلا بصور أبشع وبحقائق مرعبة للأجيال القادمة.
الوقوف عند المرجعيات التي تنهل منها السلطة ببلادنا، ومعها التنظيمات المشاركة في المسلسل الانتخابي يجعلنا نقف عند تقاطعات مع ما قبل الحداثة أكثر منها مع العهد الحداثي.
التسليم شيء مركزي في الخطاب السياسي لدى أغلب الفاعلين السياسيين الانتخابيين. خطاب يؤخر العقل عن التصديق؛ ويجعل من اغتيال المنطق والتحليل بوابة للتجييش واستدامة علامات ما قبل الحداثة.
الخطابة التي تسيء إلى فن عبر التاريخ، والمنقلبة إلى ديماغوجية محضة تجعل من لغة الخشب بوابتها نحو المراوغة وتفادي الغوص في عمق السؤال الحداثي، بكل تمظهراته وتعقيداته.


4- احترام الحريات وكرامة الأفراد:
لعل أبرز ما يميز المسلسل الانتخابي المغربي هو تعطيل الحرية في التعاطي مع الخارجين عنه أو حتى الطامحين لإعادة تشكيله أو ترميمه.
هكذا ينقلب المبدأ الأساسي للمشاركة الانتخابية ألا وهو حرية التعبير والاختيار إلى نقيضه، مما يجعلنا نتساءل عن مدى انخراط البنى السياسية ببلادنا في المشهد الحداثي بكل الجوانب النيرة التي راكمها.
فحرية إبداء الرأي وتطوير أساليب التعبير، في احترام تام للتطور التاريخي للتشكيلة الاجتماعية، يظل أهم ركن من أركان الثورة الحداثية، وكل ارتداد عنه نكوص بالتطور الإنساني، وتكريس لممارسات لاحداثية تؤبد الاستبداد وتقضي على الإرادة الحرة لمواطنين مستقلين وطامحين للعيش الكريم.
النسب المخزية للأميين ببلادنا دليل دامغ على لاحداثية النظم القائمة. وهو ما يفتح الباب مشرعا أمام التعبيرات اللاحداثية وفي مقدمتها هيمنة الثقافة الشفهية في العلاقات التي تربط المواطنين بممثليهم وبالمسؤولين عن السلطة كيفما كانت تلاوينهم ورتبهم.
الانتقال نحو تعبيرات تعاقدية حقيقية تقتضي مواطنين متعلمين، قادرين على النقد الموضوعي وعلى امتلاك ذاكرة جمعية حقيقية، تراكم إيجابيات الفعل السياسي ولا تنس البتة سلبيات وتراجعات بعض التنظيمات السياسية التي تسوق لنفسها كراعية للفكر الحداثي.
الأكيد أن الخصاص الذي تشهده العديد من القطاعات الاجتماعية، مؤشر قوي على السنوات الضوئية التي تفصلنا عن الجانب النير من الطفرة الحداثية، وتحد كبير لكل المؤمنين بغد أفضل لهذا الوطن الرائع، بعفوية بسطائه وتكلس نخبه.
الانتخابات الجماعية المغربية بالشكل الذي تسوق به، لن تحمل للفكر الحداثي إلا كوابيسه المرة. ولن تمكن الطامحين للعبور بهذه البلاد نحو الضفة الأخرى، إلا من انتكاسة جديدة شعارها استمرار ما هو قائم، لكن بابتذال أكبر وبعيدا عن الشعارات التي أطرت النهضة الحداثية ولو بتعبيرها الليبرالي. ولن أقول أن الأفق دامس، بل بالعكس نير ومليء بنقط الضوء التي تشكل الأزمات والصدمات الفجائية بداية لإشعاعها وغزوها عالم الظلام الذي ودعته البشرية ولن تعود إليه إلا بالانتقال إلى نظم أكثر وحشية وبربرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البرازيل.. سنوات الرصاص • فرانس 24 / FRANCE 24


.. قصف إسرائيلي عنيف على -تل السلطان- و-تل الزهور- في رفح




.. هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟.. أندري


.. رفح تستعد لاجتياح إسرائيلي.. -الورقة الأخيرة- ومفترق طرق حرب




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا قصفت مباني عسكرية لحزب الله في عي