الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفصل 19من رواية حفريات على جدار القلب

حبيب هنا

2009 / 11 / 23
الادب والفن


ـ 19 ـ

انحرف الغد عن مساره .. أسند ظهره إلى التاريخ وتلمس رياح التغيير .. أصبح ملكًا للجميع ، وجغرافيا الحدث .. تفلت من أنياب أصحاب القرار الرسميين ، ودخل أزقة الفقراء والعيون المفتوحة على الحرية .. لم يعد هنالك ما يخيف تحريك مياه البركة الراكدة ، فأمواج البحر تتلاحق تباعًا ..
دفء داخلي يستولي على الروح ويحرك المشاعر .. ويدخل الصباح في وجبة إفطار بدائية ويستبقي النظر إلى بخار القهوة المتصاعد .. والشمس توزع وهجها على المساحة تبعًا لحالة المد والجزر .. يصل الليل عند حواف الفجر ويبتلع الصباح اليوم الماضي .. يتكسر صمته أمام صخب الحاضر تصعد لبنى إلى أعلى الأدوار في مبنى الجامعة تدق الباب بقبضة يدها وتدخل مكتبي .. ألملم أوراقي وأضعها في حقيبة ملت تداول الأيدي .. تنظر من الشباك إلى حشود الطلبة والطالبات في باحة الحرم الجامعي وتترك يقينها ينوء تحت ثقل الشكوك والاحتمالات .. تقول :
ـ لا أستعجل سؤالك عن أسباب رؤيتي في الغد ، ولكن ما هو سر انشغالك في الأوراق ؟
صمتت لحظة ثم أضافت في دعابة لا تخلو من لمسة حب امتزجت مع ضحكة مجلجلة :
ـ لا ترحل ، فأنا لا أقوى على فراقك !
قلت :
ـ لا أنوي الرحيل ، ولكن قد يحدث ذلك ..
زحفت أصابعها على الطاولة رويدًا رويدًا .. استقرت فوق يدي .. تنمل جسدي وسرت في أوصالي رجفة ربيعية تفتحت معها الزهور .. سحبت يدها فجأة ثم قالت :
ـ أتذكر أول لقاء بيننا ؟
ـ لا أنسى المحطات المهمة في حياتي ..
ـ ولكني لست أية محطة .
أومأت برأسي فأضافت :
ـ إن جيوش الطلبة والمتسكعين مروا أمام قصري ولم أنظر إليهم.. أنت وحدك الذي سمحت له طرق باب قلبي ، بلا عنف ، فانفتح على مصراعيه كأنه ينتظر قدومك .. ولكن ، أحسب أنك كنت تخشى التقدم خطوة واحدة قبل أن تتأكد من حسن الضيافة .. ولولا أنني أسرعت أرش الأرض بالماء وأفرشها بالرياحين لما واتتك الجرأة على التقدم ..
ـ نعم كنت ما أزال في أكناف اليأس والفشل !
ـ والآن ..
ـ ماذا الآن ؟
ـ كنت تريد أن تراني في الغد ، وها نحن نقف في وجهه ..
ببلاهة الغارق بين أوراقه قلت :
ـ نعم كان ذلك ..
صمت . فأخذت ترقبني كأنها تحاول النفاذ إلى أعماقي .. كنت أبحث عن أفضل الصيغ كي أقول لها ما أزمعت عليه ، غير أن عقلي ترنح عند لحظة أوقفتني حائرًا وأنا أنظر إلى كل قطعة من جسدها الذي اقتحم مصيري ، فلم أستطع منه فكاكًا .. وكانت لها خصوصية ليست لسواها : صدر بارز ملفوف يطل منه نهدان ينظران إلى أعلى في كبرياء بكر لا يمسه ريح ولا يتطاول عليه بذيء .. وعنق طويل يتربع فوقه وجه أقرب إلى الاستدارة منه إلى الشكل البيضاوي .. يتناثر على صفحته فم دقيق وأنف مستقيم وجيش من الأسنان المنتظمة خلف شفتين فيهما من الرطوبة والارتعاش ما يجعل المشاعر فياضة متألقة في التعبير عن نفسهما .. وعينان مكحلتان بالأنفة والتمنع وعزة النفس ، فوقهما حاجبان كخنجر في غمده عندما يستله صاحبه يغرسه في القلب فيقتل من فوره ..
أثارها غموضي المفاجئ .. شعرت أن ثمة قراراً خطيراً قد اتخذته ولا سبيل للرجوع عنه .. حاولت النفاذ إلى نقطة الاهتمام دون جدوى .. أدركت حجم المعاناة التي أتعرض لها جراء الضغط على أعصابي التي أوشكت على الإفلات مني .. أغمضت عينيها كي تتيح لعقلها العمل بتركيز أكثر .. ولما عجزت، لم يكن أمامها من سبيل سوى السؤال المباشر بجدية هي الأولى من نوعها منذ عرفتها .. قالت :
ـ لا تقتل نفسك بهذه الطريقة أو تعذبها بوحشية مهما كانت الأسباب .. إذا كان الأمر يتعلق بي فأنت في حل من الوعود التي قطعتها بشأني ، ولكن لا تدعني أموت حسرة على فراق لم أعرف أسبابه أو أتسبب به .. فقط أرجوك أن تطلعني على الأمر ولك في النهاية أن تقرر هل يجوز لي التدخل أم لا ؟ .. بالأمس كنت تنتظر الغد حتى تراني ، أمن أجل هذا دعوتني للحضور ؟
وضعت رأسها بين يديها لحظة ثم أضافت :
ـ هل كان لحضور ميسون علاقة بالأمر ؟
نظرت في عينيها وهززت رأسي نافيًا ..
كانت وجنتاها قد توردتا وبريق عينيها تحجبه دمعة تكورت في زاويتيهما ورعشة خفيفة أصابت الشفة السفلى، فيما كان صدرها متلاحق الأنفاس كأمواج بحر تتكسر عند حواف الشاطئ .. انتصبت واقفًا وقبضت على راحتيها فانتصبت … جذبتها إلى صدري فوضعت رأسها على كتفي وأخذت دموعها بالانسياب ومن بين الدموع جاء صوتها مخنوقًا :
ـ ما دمت تحبني بهذا المقدار لماذا تذبحني بهذه الطريقة الوحشية ؟
اعتصرتها بين يدي بقوة ثم أبعدتها برفق وقلت وأنا أنظر إلى العينين المبللتين :
ـ أيتها الحبيبة لبنى .. لابد من مواجهة الأمر بشجاعة : لقد قررت التوجه نحو أقرب خط تماس حيث يتواجد الأطفال كي يصنعوا من أعمارهم سيقانًا تحمل رجولتنا إلى المكان الذي ينبغي أن نكون فيه .. حافظي على قلبك من اليباس حتى أعود إليك .. وأنا ، سأحافظ على قلبي من اقتحام أية فتاة ، ولكن لا أضمن عدم وصول الرصاص إليه .
أودعك ، الآن ، بعد أن أعبئ مستقبلي في لحظة قرار جريء ، وأترك حلمنا الجميل بين يديك وفي عينيك اللتين أتركهما لآخر مرة وهما مغمضتان على أرق لحظة عرفناها منذ تعرفنا على بعضنا ! إذ من غير الجائز أن أترك أصدقائي القدامى ، وحدهم ينقذون الأمس ، وهم يشاهدون الأطفال يحاولون صناعة اليوم ، وحيث لا يمكن بناء المستقبل إذا تخلفنا عن الذهاب إلى خطوط التماس .. أودعك بقبلة من شفتيك النقيتين الطاهرتين ، وألوث شفتي بسؤال أودعه عندك أمانة : لماذا يعطل معظمنا ذاكرته عن عمد ؟!










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان السعودي سعد خضر يرد على شائعة وفاته: مزعجة ونسأل الله


.. مهرجان كان السينمائي : فيلم -البحر البعيد- للمخرج المغربي سع




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعد خضر يرد على شائعات وفاته


.. من المسرح لعش الزوجية.. مسرحيات جمعت سمير غانم ودلال عبد الع




.. أسرة الفنان عباس أبو الحسن تستقبله بالأحضان بعد إخلاء سبيله