الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسرحية البطة البرية لأبسن : دعوة إلى كذبة الحياة -

رامي أبو شهاب

2009 / 11 / 25
الادب والفن


هنريك إبسن :
يتخذ الكاتب النرويجي هنريك إبسن موقعه في المشهد المسرحي العالمي باعتباره أهم الكتاب المسرحيين ، هذا التميز كان نتيجة لأعماله المسرحية ذات الصدى الواسع، والمردود الكبير الذي حققته لدى النقاد و القراء على حد سواء. مسرحيات إبسن تبحث عميقا في مستويين: الإنسان والمجتمع، وبين هذين المستويين يتسلل إبسن كي يخرج برؤى ومنظورات متباينة اتجاه بعض القضايا التي لا تفتأ أن تبقى دافئة وإشكالية، والطريف في الأمر أن إبسن يدفع القارئ إلى إعادة النظر في مفاهيمه المنتهية والمنجزة، إذ تنبثق التساؤلات حول حقيقة الأشياء والجدوى لكثير من الممارسات الاجتماعية والفكرية والأخلاقية، ليعاد النظر فيها مرة أخرى كما في معظم أعماله .
إبسن المولود في أوسلو سنة 1824عرف الفشل في أعماله الأولى، ولكن ما لبث أن بدأ يثير الجدل في أعماله ذات الطابع الملحمي والتاريخي، ومنها "المطالبون بالعرش" 1863 و "براندا" 1866 و"بيرجنت" ،1867 ومن ثم انتقل نحو القضايا الاجتماعية ذات المساس المباشر بوطنه، كما في مسرحيته " أعمدة المجتمع"، ومن ثم " بيت الدمية "، و" البطة البرية " وهي ثلاثية حققت له تميزا ، بعد أن بدا فيها إشكالي الطرح وعميق المعالجة.
والعمل الثالث أي "البطة البرية" هو عمل جدلي بالمعنى الحقيقي للكلمة، ومتعة ولوجه تتأتى من عدم اكتماله على صعيد الطرح الفلسفي، حتى بعد اكتمال المسرحية التي لا تنجز رسالة بمقدار ما تضع الرسالة على سطح الماء، لتبقى عائمة إلى ما لا نهاية .


البطة البرية و صدمة الحقيقة :
تبدأ المسرحية بمشهد حفلة تقام في منزل (هاكون فيرله) تحتوي على ثلاثة عشر شخصا، وضمن هذه الشخصيات، هنالك عائلتان هما عائلة (إكدال )، وعائلة (فيرله ). الأولى عائلة تتكون من زوجين (هيلمر وجينا ) وطفلة رقيقة اسمها (هيدفيج )، مع رجل عجوز و وهو والد الزوج (هيلمر إكدال)، مقابل هذه العائلة بسيطة الحال، عائلة (هاكون فيرله ) الرجل الغني الذي كانت له علاقة عمل وشراكة تجمع بين الرجلين إكدال و فيرله ، إذ انتهت بأن تسبب فيرله بطرد إكدال العجوز من الجيش، وفقدان رتبته العسكرية، وتحوله إلى ناسخ أوراق، ونكتشف لاحقا أن الزوجة جينا- زوجة هيلمر- كانت تعمل خادمة أيضا لدى فيرله الرجل الغني، هذا الرجل الذي يقود مصائر هؤلاء الأشخاص بناء على تحقيق مصلحته ورغباته .
هيلمر الإنسان الموهوب والحساس يتقوض عالمه فجأة، ويفقد الثبات الذي خلقه لنفسه بعد أن اقتنع أن لديه هدفا عظيما يتمثل باختراع ما يحسن من مهنة التصوير، الشخص الذي يقوض مملكة هيلمر الأسرية بكل ما تحتويه من قيم ومبادئ وقناعات، يتمثل بـ (جريجرز ) ابن هاكون فيرله ، وهو نموذج لشخصية مثالية مفرطة مدمرة، وقفت ضد تصرفات الأب اللا أخلاقية، حيث يغادر المنزل بعيدا عن سلبية الأب وعدم مثاليته، ويقود رحلة دنكشتوية في صفوف العمال وتنتهي هذه الرحلة في عالم هيلمر بغية تحقيق خلق حياة أفضل كما يدعي لصديقه هيلمر إكدال.
جريجرز الحالم بالمثل والحقائق المطلقة، يقف في مواجهة الطبيب رلينج صديق عائلة هيلمر إكدال، الذي يغذي الحياة برؤية تقوم على كذبة الحياة ، فهو يعالج محيطه بهذه الكذبة التي تمكنهم من أن يبقوا متوازيين في الحياة، فرلينج يرى أن اختلاق هذا الكذبة يتيح لنا هذا المبرر للوجود وبالاستمرار في الحياة، لذلك يدخل في صراع مفاهيمي وفكري وعملي مع جريجرز. رلينج غذى فكرة أن لدى هيلمر حلم الاختراع، ويبقى هيلمر مقتنعا بهذا الحلم وبحياته الهادئة، وبوجود ابنته وزوجته، إلى أن يأتي جريجرز كي يضع حقائق على أمام هيلمر - كان هو بغنى عنها على ما أعتقد - معتقدا أي جريجرز، أن هذه الحقائق كفيلة بأن تخلق عالما مثاليا، يقوم على الحقيقة، فيكتشف هيلمر عبر جريجرز أن زوجته جينا المرأة المحبة والصبورة والمدبرة والممتلئة واقعية، كانت على علاقة مع فيرله إبان الفترة التي كانت تعمل بها خادمة لديه، ولم تنتهي هذه العلاقة إلا بعد أن حصل فيرله على مبتغاه، تتعمق مأساة هيلمر حين يعلم أن فيرله هو سبب تلويث سمعة والده، و تدهور وضعه الاجتماعي، وأن مهنة النسخ يقوم بها لدى فيرله ما هي إلا ضرب من المساعدة التي تحيط بهيلمر، حيث يعلم هيلمر أن فيرله سهل زواج هيلمر من جينا، وأمن لهم المنزل ومعمل التصوير، فتتأزم وتعطب مثالية هيلمر اتجاه كل ما حوله، وتتعمق أزمته حين يعلم بوساطة رسالة أوصلتها السيدة (سويربي) الزوجة الجديدة لفيرله على أنه أوصى لهيدفيج بمرتب مالي مدى الحياة ، وعبر هذه الرسالة يتم التوصل إلى العلاقة البيولوجية بين هيدفيج وفيرله، و تتأكد حين يتم الربط بين مرض هيدفيج في عينيها، وما يهددها من عمى، وهو مريض يعاني منه السيد فيرله، وهكذا تنفصم العلاقة بين الأب المفترض أي هيلمر وبين الابنة الضحية هيدفيج، خاصة عندما تواجه جينا الزوجة التي لا تنكر العلاقة ولكن لا تؤكد أبوة هيلمر لهيدفيج.
إن شرور المثالية التي يمثلها جريجرز لا تنتهي، فهي جرثومة خبيثة لن تتوقف إلا بعد أن تجهز على فكرة كذبة الحياة، و واقعية نفعيتها القائمة على التوازن المظهري، فيطلب جريجرز من هيدفيج أن تثبت حبها لوالدها (هيلمر) بأن تقتل البطة البرية، وهي الحيوان الذي يعيش في العلية والذي تحبه هيدفيج حبا كبيرا.
إن البطة البرية هنا هي قوام المسرحية ومحورها، فالبطة البرية هي معادل موضوعي لهيدفيج، فكلاهما ضعيفتان و مكسورتان ، البطة التي تم اصطيادها وإحضارها من عمق الماء بواسطة كلب فيرله، هي اختصار لحالة هيدفيج نفسها، هذه البطة الحائرة في عالم الكبار، وهي بطة برية لأنها لا تمتلك حقيقة مرجعية فهي لا منتمية رغما عن إرادتها، فهي العالقة بين عالمين متصارعين، بين مبدأين فكريين؛ بين مثالية وواقعية، وبين هذين المبدأين تُفقد الحياة، فالبطة البرية هي الحياة التي تنساب من بين أصابعنا في غمرة البحث عن فهم سبل الحياة، ضمن فلسفة الحقيقة، أو فلسفة التغاضي عنها في سبيل استمرار الحياة .

الشخصيات بين المثالية والواقعية :
تمثل شخصيات المسرحية مفتاحا لبحث الحوار بين مثالية وواقعية، فالشخصيات في مجملها تقع بين هاتين المساحتين نسبيا، فهيلمر المثالي الحالم ضمن كذبة الحياة، و جريجرز المصاب بعقدة المثالية المفرطة أو لديه:" إفراط في الاستقامة " كما يصفه رلينج، لقد اختار أن يقوض حياة هيلمر ليعيد بناءه على أسس أخلاقية جديدة كما يقول في حواره مع رلينج : " في أزمة كهذه، حين أعطي لحياته أساساً أخلاقيا جديداً !
في حين أن جينا هي امرأة واقعية، وهي واقعية سلبية، حاولت دائما أن توافق بين عوالمها عبر التغاضي، والكذب والاستسلام والاحتيال في سبيل أن تعيش الحياة، استسلمت لفيرله وأحبت هيلمر و هيدفيج، وأخفت حقيقة علاقتها عن زوجها، ومع ذلك أحبته وساعدته، وكانت امرأة مدبرة فقط كي تتمكن أمن أن تعيش حياتها، ولو في حشد من الأكاذيب، ومنها كذبة الحياة، وفي حوارها مع زوجها تبرر هذا الواقعية والنفعية التي ساهمت كما تقول في عدم انحراف مسار حياة هيلمر، الحالم والغارق بالحزن واليأس، كما يتضح في هذه العبارة :
" جينا: لقد ظللت دائما أقرب إلى الأرض و أكثر واقعية منك. حسنا،طبعا، أنا أكبر منك إلى ذلك الحد."
هذا المفهوم أو هذه الكذبة هي التي ساهمت في إخراج شخصية إكدال العجوز من نفق السقوط والفناء، حين بدأ يصطاد في العلية، معتقدا أنه ما زال يصطاد في الغابة، وكذلك مولفيك الذي يتخلص من مشاكله بعد أن جعله رلينج شيطانيا بأن حقنه بمصل داخل جمجمته وهي عبارة عن قليل من الشعوذة التي تبقي على الحياة، وتحمي من احتقار الذات واليأس، تماما كما فعل مع إكدال العجوز، فرلينج يدعو إلى استخدام كلمة" أكاذيب" عوضا عن المثاليات ويشرح لنا هذه الأكاذيب بقوله:
"جرد الكائن البشري العادي من أكذوبة حياته، تسلبه سعادته "
ثمة دلالة رمزية للمهتمين في تبديل واقعية الحياة بأكاذيبها إلى مثالية حقيقة، فالإشارة التي تظهر عند محاولة جريجرز تنظيف الغرفة التي يستأجرها، ولكنه يجعلها أكثر اتساخا وممتلئة بالأدخنة، وهذا تعبير عن ما ستؤول إليه رؤية جريجرز. كما نرى الرمزية أيضا ضمن أكثر مواقعها وضوحا وانعكاسا على شخصية البطة البرية التي تمثلها هيدفيج، والتي تبدو كحلقة ضعيفة في عالمين متناقضين، وهي هنا تمثل الأشياء الجميلة التي لا ترى ، فهيدفيج المسكينة تدخل العلية كي تقتل البطة البرية في محاولة منها لإثبات أن حبها لهيلمر والدها لن يتغير و لو لم تكن ابنته حقا، هذا العمل نتج بعد أن أشار لها جريجرز بذلك، ولكن النتيجة كانت أن قتلت هيدفيج نفسها، لنخرج فيما بعد بنتيجة أن الموت هو الحقيقة المطلقة التي لا يمكن لنا أن نبحث لها عن شكل أو إطار ما مثالي، أو واقعي، فهو المآل الذي سوف ينهي جدلية المثالية والواقعية والنفعية اللتين تسودان هذا العالم .
الرقم ثلاثة عشر
تسدل الستارة في النهاية على عبارة يختتم بها جريجرز هذه الجدلية، ولعل صدى تلك العبارة ينذر بخلاصة ما للصراع بين الواقعية والمثالية، فجريجرز في حواره مع رلينج يحاول أن يعبر ربما عن أزمة هذا العالم الذي نعيش فيه، والذي لا يقوم إلا على كذبة، و حين يصرّ رلينج على أنه على صواب، يصل جريجرز إلى نتيجة ربما تؤرق إبسن حيث يكني عن مردودها على لسان جريجرز قائلا لرلينج :
" إن كنت أنت مصيبا وكنت أنا مخطئاً، فالحياة ليست جديرة بأن نحياها"
وهكذا يقبل جريجرز بمصيره، كما يقول، بأن يكون الشخص الثالث عشر على المائدة، وأترك لكم قراءة دلالة هذا الرقم كما ترغبون .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ممتاز
سندس ( 2012 / 4 / 17 - 19:06 )
شكرا على هذه المادة الغنية والمثرية


2 - ممتاز
سندس ( 2012 / 4 / 17 - 19:16 )
شكرا على هذه المادة الغنية والمثرية

اخر الافلام

.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس


.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن




.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات


.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته




.. كلمة أخيرة - قصة نجاح سيدة مصرية.. شيرين قدرت تخطي صعوبات ال