الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التاريخ وذاكرته في ( الطيور لا تحب الأوسمة)

جبار وناس

2009 / 11 / 25
الادب والفن


ما الذي يفعله الفن ازاء ذاكرة مترهلة بالكثير من الأحداث الجسام التي كانت وما زالت تشكل ارثا ثقيلا لما تلونت به الأحداث وما خلفته في نفوس الناس، ولعل أحداث العراق وقسوتها امتداد أصيل لتلك التراجيديا سواء ما جرى في الماضي السحيق أو ما حصل الآن في المقدرات الواقعية الضابطة لحياتنا. وليس بجديد الاشتغال المسرحي الذي ينطلق من التركيز على تحفيز الذاكرة وجعلها في حركة دائبة لمسايرة ما حدث ويحدث ولنا في ذلك الكثير من النصوص لمؤلفين عرب وعراقيين يرغبون من القارئ والمشاهد للمسرح ان يكون حاضرا بذهنه ووجدانه مع ما حدث بسبب الابتزاز الداخلي والخارجي والذي من شأنه الحد من مقومات وجودنا الإنساني والحضاري.



الوقائع التي جرت بعد التغيير كانت فصلا لمسرحية (الطيور لا تحب الأوسمة) من تأليف خضير فليح الزيدي وإخراج الفنان أحمد موسى وتقديم منظمة الإغاثة الدولية فرع ذي قار وبالتعاون مع نقابة الفنانين في المحافظة . ولم يشأ المؤلف التنصل من راهن العراق وبمقتضيات الدخول فيه نلمس غبار هذا الراهن عالقة في ثنايا النص وتلك مهمة المؤلف كمسرحي يؤمن بأن المسرح كفعالية ثقافية تشاطر في الحراك الثقافي والاجتماعي فلا غنى لفعالية المسرح في ابتعادها عن الانغماس والقراءة المتأنية لكل مفاصل ذلك الراهن من دون أن يكون عبئا ثقيلا يدعو للمجافاة وعدم التواصل الحي مع فن المسرح – فلا غبار على هذا التشابك مع المتغيرات الحاصلة بعد التغيير من قبل المؤلف ليؤكد ان حاضرنا اكثر تأزما فخلق لنا استعارة درامية لواقع العراق بعد الاحتلال وما اكتنف أحوال العراق من حروب متعددة وتحت مسميات كثيرة وما جلبته تلك الحروب من ويلات على أبناء العراق ولدت لديهم غربة قاسية في بيئتهم وواقعهم ويلاحظ ان روحا رومانسية تسربت ألينا عبر خطاب مباشر غلف النص مع ان هذا الواقع لا يدع مجالا لتلك الروح ففيه من التعقيد والضبابية مصاحبة بسطوة الاحتلال وظله والذي لم يعد توصيفه مجديا بقدر توصيف الاهداف التي جاء من أجلها والوسائل التي كفلت له ذلك المجيء، والمؤلف يدعونا لأن نتبصر بالماضي واسترداد ما ذهب منه ومقارنته بما نحن عليه ولكن أي ماض وكيف يتم لنا محاكمة حاضرنا من خلاله اذا ما علمنا ان سبب البلاء الذي حل بالعراق يأتي كنتيجة لتراكم وثقيل أعباء ذلك الماضي ؟
ولذا يبرز أشكال غريب وقع فيه النص تمثل بخطاب مباشر بدا يطفو على لسان الشخصيات فثمة تقاطع في سلوك (الاول) الذي غرر به في بداية المسرحية ثم يأتي في نهايتها للتمسك بقوة العقل وكذلك يظهر من تنافر العلاقة بين الطير المحلق في فضاء الحرية وبين الاوسمة الداعية للثبات والتقوقع فهذه الاوسمة لم تجد لها السياق الصحيح في ذاكرتنا لأنها تأتي للتعتيم والسخرية من الانسان كما حصل مع اوسمة ونياشين ما قبل سقوط الصنم.
ان تناقضا صارخا في موقف الاول وتجنيه على الشعر نكاد نلمسه فيقول (اللعنة على الشعر هو الذي دفعني لبيع اوسمتي).
ثم يأتي في حوار آخر بعد ان فرط بمبادئه (كيف.. كيف.. اني قلت لا.. لا.. ألف لا). ثم في حوار بعد ان سقط في فخ الغريب (انها غواية الشيطان) وبعد في حوار آخر فيقول ( نحن بدون الاوسمة تماثيل حرب او نصب في متحف لا يساوي شيئا فأنا معكم تماما لاستردادها) ثم يقول مع الثاني والثالث بصوت واحد (انها الحرب طبولها تقرع من جديد على النساء ان تستعد للبكاء... على الطيور ان تغادر الاوكار.. على الاطفال ان يهجروا المدارس.. على اللعب ان ترمى في الجحور) فهل نحن بحاجة الى استعارة خطابات سابقة استخدمت للتحشد والفزعة والتعبوية وأحيائها الآن؟ فهذه المباشرة قد ضخمت المضمون على حساب الشكل وقللت من اهمية التعامل الواقعي فغدت أشكال الجمال والفن مقصية امام تمركز المضمون. ان فكرة الصراع بين الغريب وبين الشخصيات الثلاثة ومرموزية الازمنة التي انسلوا منها هي فكرة مثمرة اذا ما تم التركيز عليها فقط فيتخلص النص مما علق به من مباشرة وخطابية اوحت لنا بما يروم اليه المؤلف وكأنه يقسر على الجمهور بضرورة القبول والتأييد وهذا الاشتغال يذكرنا بآرسطو وبمبدأ التطهير فالمؤلف اراد أن يضمن تعاطف الجمهور مع شخوص المسرحية وهم مستهدفون فكريا وجسديا وحتى عاطفيا ولكن الخطر الذي يداهمهم ليس بالخطر القدري الذي يستحيل التعامل معه في تحديد مصائر الشخصيات وانما هو خطر محدد سلفا من قبل الجمهور فلا تبدو صفة الخوف والشفقة قد أخذت لها المكان المرجو عند الجمهور وما اسماه ارسطو بالتطهير لم يتحقق .
ان عروضا مسرحية كهذه تجعلنا نعيد التفكير بأهمية الدور الذي يمكن ان تلعبه الثقافة المسرحية في هذه المرحلة بعد التغيير ومهامها في التأثير والتغير في مسعى منها للخروج من كثير من ترسبات ماض قاس مازالت توابعه عالقة ويقينا ان الابداع الفني في مجال المسرح يكون بالتواصل لاستجلاء قيم الابداع جماليا وفكريا وانسانيا وذلك بابتعاده عن منطقة العودة غير المبررة لذلك الماضي وان تكون الاستفادة من حيز الديمقراطية الذي صرنا نلمس أثارها فبواسطته يمكن التحرك والابداع المثالي مع التأكيد على ان هذا الإبداع لا يمكن ان يحدد او يخضع لأية سلطة مركزية أيديولوجية سياسية كانت أم دينية. وعندها يمكن القول بفعالية المسرح بوصفه جبهة ثقافية تساهم في التبني الصحيح لعنوان الثقافة داخل العراق..
اننا وفي هذه الكتابة لا نريد أن نبخـــس نوايا المؤلف فقد أراد لمسرحيته ان تكون جزءا من الهم العام الذي يعيشه العراق بعد الاحتلال فلم تكن هذه المسرحية تلهية تتخذ من الترفيه او التسلية وسيلة لها وانما كانت تؤدي وظيفة حياتية تعتمد على التحفيز.
لقد كان لعنصر الصراع المتوفر في نص المؤلف فرصة للمخرج احمد موسى كي يحدد الاسلوب الانجع في تشخيص المنهجية التي يسير عليها في توجيه دفة التوازن داخل نص العرض فقام بتقسيم المسرح الى مستويين الاعلى يمثل مكانا للغريب يخطط فيه لينطلق في صراعه وحيلة بواسطة السمار مع الشخصيات الثلاثة وبالذات (الاول) صاحب الاوسمة والنياشين والققص، فالشخصيات الثلاثة قد جعلهم المخرج في ازياء مختلفة وفي هذه الالوان محاولة من المخرج في نبش الذاكرة لتبدو هذه المسرحية وكأنها مرثية للزمن وللذاكرة وهي بالتالي تبحث عن معنى التاريخ وحقيقة هويتنا.
والمستوى الاسفل تمثل بعالم الشخصيات الثلاثة وكأنهم معاقو حرب وثمة اهتمام من المخرج منصب على الممثل في جانب أكبر من اشتغاله واستثمار طاقته في تعزيز المستوى البصري للعرض سيما وان المسرحية هي مسرحية شخصيات فكان تركيزه مطلوبا في اعطاء جانب الاداء التمثيلي التأثير المباشر لدى الجمهور.
ولابد للاخراج ان تتجلى صورته فيما لو حصل تعامل مع مكان العرض واظفاء مسحة من الاشتغال الفني المغاير لأن ما قدم لم يكن للخيال النصيب الاكبر في صياغته فالجرح عميق ونزفه لا يدع مجالا لابتعاد الاحداث بشيء من الواقعية المقبولة وان ينظر المخرج في فك الاشتباك الحاصل والمزدحم بمفردات الديكور (من تصميم الفنان ظاهر النجار) فكثافة المفردات ومنها الشباك المتدلية في مقدمة المسرح والقفص مع وجود الممثلين كانت بحاجة الى اختزال وتقليص انسجاما مع محدودية المكان المتوفر في قاعة النشاط المدرسي في الناصرية فلو حصل نقل الشباك بالقرب من الجمهور ليبقى المسرح مستوى اعلى لافعال ونوايا الغريب سيساعد هذا القرب المخرج في مسك زمام مبادرة التلقي المرجوة وان يعمد الى طريقة في العرض تعتمد الاسلوب الاحتفالي والذي نظن انه سيكون الاقرب والاكثر مع ما أراده المؤلف والمخرج فكان لكثافة المفردات والازياء ان تعطي حضورا بصريا سرديا يتأزر مع وظيفة الممثل فيصبح هذا التأزر متساويا في القيمة الفنية والفعل الدرامي فالحضور الديناميكي للحدث المسرحي انما يتخذ كيفية اخرى في وضعه مع الممثل يستلزم هذا العمل من المخرج مزيدا من الجهد البصري لرؤية ما يتحقق من معان مؤثرة عند الجمهور. ان مشهد الحلم وظهور الفتاتين وهن يقولان للسجين (لا تبع – لا تبع) يتفرد في تأثيره وصياغته من قبل المخرج من بين مشاهد العرض ففيه ادانة واضحة لما حصل للسجناء العراقيين داخل سجن أبي غريب وبعكس ذلك نرى ان المخرج قد بالغ.
وفي ختام العرض حينما خرج ليدعو الممثل للتوقف عن التمثيل لأن (الممثل) قد تمادى كثيرا فكان هذا الخروج غير مرحب به من قبل الجمهور لأن العرض المسرحي قد بني على الوهم، وبما ان تناغم عناصر العرض كان للممثل حيز مؤثر في تأطيرها فأن الاداء التمثيلي قد أظهر تباينا واضحا في الحضور وان كان بحاجة الى الاسترخاء والتروي في التعامل مع موجودات العرض مثل (الشباك - والعصا - والحقيبة - وآلة فحص التباين - والأوسمة - والقفص وغيرها).
فالممثلان زكي عطا في دور الغريب وسعد شهاب في دور السمسار قد استثمرا خبرتهما الطويلة في المسرح فتعاملا بما ينسجم مع متطلبات العرض ومرورا بالممثل عباس ريسان في دور (الاول) ومع جديته فلم نجد لديه ذلك التفاوت المطلوب في الابتعاد عن النمطية وهو يتحول من مشهد الى آخر وكذا ينسحب على الممثل أمير صبيح في دور المعاق الثالث فقد أضاع علينا متابعتنا بسبب وفرة ما صاحب اداءه من أخطاء لغوية وادغام في مخارج الحروف اما الممثل ستار الحربي في دور المعاق الثاني نلمس في أدائه جدية وانضباطا ساعده في الحضور المميز في هذا العرض ورغم قلة أعماله لأنه في بداية مشواره مع المسرح فيمثل لنا اشراقة في المستقبل لما يمتلك من لغة جسدية قادرة على التلوين والاحاطة الفاعلة بالدور المناط به. اننا نطمح فيه السير وفق قواعد الفن المسرحي الاصيل. وليس لنا سوى ان نعلن عن فرحتنا بوجود الشابتين شذى أحمد وسارة العراقية فحضورهن يدعو للاهتمام بالعنصر النسوي داخل العمل المسرحي.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جميل
محمد ( 2012 / 1 / 7 - 18:25 )
شكرا على موضوع الجميل

اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??