الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سوريا إلى أين ورقة عمل-القسم الثاني

علي الشهابي

2004 / 6 / 12
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


القسم الثاني
رأيت في القسم الأول من هذه الورقة أن الطريق الوحيد المفتوح أمام سوريا للخلاص من تخلفها إنما يقوم بإعدادها كل عدتها للاندماج بالاتحاد الأوروبي ، لأن هذا الاندماج ، وهو فقط ، الكفيل بإنهاء علاقة سيطرة ـ تبعية التي فعلت ومازالت تفعل فعلها في تخليفنا ، وهذا غير ممكن بغير الإصلاح ، فهل الإصلاح ممكن ؟
سبق وقلت عن هذا السؤال بأن طرحه بحد ذاته خاطيْ لأن البنية الاجتماعية يمكن النظر إليها شكلياً من زاويتي الإصلاح أو الثورة ، أما واقعيا فمن زاوية الإصلاح فقط لأن من يرفض النظر إلى المجتمع من زاوية إصلاحه هو إما الطالباني فعلاً أو الشيوعي فعلاً ، وكلاهما يلفظه الواقع الاجتماعي عندنا .
يراه الطالباني مستحيل الإصلاح بعدما بلغ به الفسق والفجور والذل والهوان هذا المبلغ ، مستحيل الإصلاح لأن الإصلاح غير ممكن إلا في ظل الدولة الإسلامية . وبما أن النبي محمد أكمل الدين قبل وفاته ، وهو خاتم الأنبياء ، إذن اكتمل الدين وانتهى عهد الأنبياء : انتهى عهد دعوة الناس للدين وتفهيمهم ماهيته وأصوله منذ ألف وخمسمائة عام ، إلا الأطفال ، ويفترض بالبشر الآن أن يكونوا مسلمين . وطالما أنهم لا يطبقون الإسلام باختيارهم لأن الله ألهم النفس فجورها وتقواها ، إذن لابد من الثورة على النظام الفاجر الذي يسمح بالفجور ، لابد من الثورة لتولي السلطة السياسية لإجبار النفوس على التقوى التي كان الله بالأصل يأملها منهم باختيارهم . فالله ، معاذ الله سبحانه وجلاله أن يخذله البشر ، يمهل ولا يهمل ! بإرادته يفسق البعض ويعقّون إلى حين ، وبإرادته يرسل الأتقياء الصالحين ، لتصحيح الخلل بين الحين والحين . فرأس الحكمة مخافة الله ، ورأس الفتنة أولياء الأمور من الحكام أعداء الله . إنهم الرأس ، وباعتدال الرأس يعتدل الجسد . فالبشر لا يكفّون عن كونهم أشباه مسلمين إلا بحكام مسلمين ، يطبقون شريعة الله ، شريعة الواحد الأحد ، وبغيرها ستظل هذه الحال حال المسلمين إلى الأبد .
أما الشيوعي فيدعو إلى الثورة الاشتراكية لأن المجتمع الرأسمالي السوري لا يمكن إلا أن يظل متخلفاً ما ظل رأسمالياً ، لذا فمحاولة إصلاحه إضاعة للجهد وبنفس الوقت تضليل لأصحاب المصلحة في الثورة ، لأنه يغرس الوهم في الأذهان بإمكانية تحسين أوضاع المجتمع في ظل الرأسمالية ، مما يزيد في عمرها . والشيوعي الذي يعتقد ، مجرد اعتقادٍ ، بإمكانية إصلاح المجتمع السوري في ظل رأسماليته هو تعبير عن أي اتجاه سياسي آخر في سوريا إلا الشيوعية ، لذا فالشرف والأمانة العلمية يتطلبان منه الكف عنها .
هذان التياران سبق وقلت عنهما منذ البداية إنهما بلا رصيد اجتماعي عندنا ، لذا فهما لا يعوقان الإصلاح قيد أنملة ، ومع ذلك فقد يكونان أفضل حالاً من القوميين الذين ما عادوا يتحدثون لا عن الإصلاح ولا عن الثورة . لكني تحدثت عنهما لأبين كيف أن سلبية المواطنين في الشروع بالإصلاح هي المعادل الموضوعي لانعدام فاعلية هذين التيارين : فهذان التياران لا يفعلان أي فعل فاعل في المجتمع والمواطنون لا يطيقون كلامهما ، وبنفس الوقت فإن نفس هؤلاء المواطنين الذين لا يطيقون سماعهما لا يفعلون أي فعل فاعل في المجتمع لجهة إصلاحه ، لتكون النتيجة أن الكل كأسنان المشط بعدم القيام بأي فعل إصلاحي في مجتمعنا . وهذه الحال لا يمكن أن تكون طبيعية قط ، بل لها أسبابها التي بزوالها لابد أن تزول ، وقد آن لها أن تبدأ الزوال لأن معظمها تاريخية . وسأبدأ بمشكلة الديموقراطية ، هذه التي ما كانت ممكنة في سوريا تاريخياً لكنها باتت . فهي لم تكن ممكنة في مجتمعنا لأنه لم يكن ممكناً أن يتولّد فيه أي حزب ديموقراطي لتراكب سببين : تخلفه وشكل انعكاس الحرب الباردة عليه وفيه .
فهو لم تتولد فيه أي حركة ديموقراطية إلا في ظل الاحتلال الفرنسي واستمرت قليلاً بعده ، أي استمرت لتنتهي لأنها كانت مقتصرة على جانبها السياسي . فهذه الديموقراطية لم تكن أصيلة أصلا ًلانعدام أصالتها في باقي جوانب المجتمع ، وبالتالي فهي لم تكن إلا تقليداً للديموقراطية الفرنسية . ومعلوم أن " التقليد سعدنة " كما يقول مهدي عامل ، فالسعدان مهما أتقن تقليد الإنسان فإنه لا يصير إنساناً . ولو كانت هذه الديموقراطية ديموقراطية المجتمع فعلاً لما سمحت لمجموعة قليلة من الضباط البعثيين بانتهاكها . فقول ماركس عن الأمة والمرأة صحيح من أنهما لا تغتفر لهما تلك اللحظة التي تغفلان فيها بحيث يتمكن أول عابر سبيل من انتهاك حرمتهما . والمجتمع السوري لم يكن غافلاً عندما قام البعث بانقلابه عام 1963، فقد سبقه الكثيرون ممن حاولوا استغفاله ـ كثرة الانقلابات ـ ولكن سرعان ما كان يطيح بهم ، إلاّ أن البعث ثبت لأنه دعم نفسه لفترة طويلة بشعبية إجراءاته قبل أن يصير القمع إحدى أهم وسائله ، بدءاً من نهاية السبعينات .
ولكن ثمة فارق أساسي بين المجتمع والمرأة بأنه لا يلد إلا أولادأ شرعيين . وأولاده في سوريا كانوا كلهم إما أحزاباً دينية أو قومية أو شيوعية ، وكلها بتياراتها المختلفة كانت مشاريع لسلطات ديكتاتورية . فالحركات الدينية لم تطالب السلطة بالديموقراطية أصلاً لأنها أصلاً ضد الديموقراطية ، ولكنها صارت تطالبها بها لتحسين شروط نضالها ضدها بعدما هزمتها مطلع الثمانينات . ومطالبة كل هذه الأحزاب للسلطة بالديموقراطية ليست دليلاً على ديموقراطيتها ، بل أداة لإحراج السلطة أمام المجتمع لأنها كانت تعتبر الديموقراطية وسيلة لتحسين شروط نضالها ضدها على طريق سعيها لإقامة نظامها الإسلامي ، أو للقيام بالثورة الديموقراطية التي تنهي مهمات البورجوازية لتتطور نحو الاشتراكية ( المكتب السياسي ) أو القيام مباشرة بالثورة الاشتراكية لتحقيق الديكتاتورية الديموقراطية الشعبية ( نحن في حزب العمل ) . والحزب الشيوعي ـ بكداش بانقساماته اللاحقة لم يكن أفضل حالاً ، فالنموذج السوفييتي كان طموحه النظري ودعمه للبعث واقعه الفعلي ، وكان بالتالي درجة التوسط بين الواقع والطموح .
والنتيجة الواضحة ، من المنظور اللاحق للأحداث ، أن كل الأحزاب التي ولّدها المجتمع كانت مشاريع لسلطات ديكتاتورية تصارع سلطة ديكتاتورية . وانطحن المجتمع بهذه الطاحونة التي أسهمت في تخليفه لا لتخلفه فحسب ، بل لأن انعكاس الصراع فيه أثناء الحرب
الباردة وأثره عليه كان يغذي هذه الطاحونة .
صحيح أن المعسكر الغربي كان ديموقراطياً والشرقي ديكتاتورياً ، لكن الغرب الديموقراطي كان يغذي هذه الطاحونة لا بدعمه للإسلام ضد إلحاد الشيوعية على أهميته ، وإنما الأهم لأن علاقة سيطرة ـ تبعية كانت تضغط على المجتمع بطريقة لا تترك أي أفق لتطوره إلا
بالعمل من أجل الثورة الاجتماعية ، بالعمل لكسر إطار هذه الحلقة وقيام مجتمع سلطته على نمط أوروبا الشرقية ، أكثر أو أقل قليلاً . فما هو بديل ذلك غير استمرار سلطة البعث أو قيام نظام إسلامي ؟
إذن الأفق الوحيد الذي كان مفتوحاً أمام مجتمعنا حتى نهاية الثمانينات ، حتى انهيار المنظومة السوفييتية ، أفق الطاحونة . واستقرت هذه الطاحونة على الوسط ، على ديكتاتورية البعث كحل وسط بين ديكتاتورية الشيوعيين وديكتاتورية الإخوان المسلمين . هذه الطاحونة من
هذا ما كان عليه الوضع ، أما الآن فاختلف الأمر جذرياً في ظل المتغيرات المذكورة في القسم الأول ، وبالتالي باتت الديموقراطية ممكنة عندنا بشرط وجود من يعمل فيها وعليها ، لا من يتغزل بها ويتحدث عن مزاياها المعروفة للجميع . فحال الديموقراطية عندنا إلى الآن ، من كثرة الكلام وقلة الفعل ، كحال الفتاة التي تزوجت ثلاث مرات وظلت عذراء . وحتى لا تظل الأمور كذلك ، على السلطة السياسية إصدار مرسوم يشرّع عمل الأحزاب الديموقراطية ، أي التي ترفع راية العلمانية التقليدية " الدين لله والوطن للجميع ". وبنفس الوقت على كل المهتمين بالديموقراطية البدء بتشكيل ركائزها عبر ممارستها في كل مستويات البنية الاجتماعية بالشكل الذي يرونه مناسباً ، والمستوى السياسي من ضمنها . وهذا يضمر أن الديموقراطية ليست مجرد ديموقراطية سياسية ، بل إن الديموقراطية كلٌ متكامل يشكل الجانب السياسي فيها أحد مكوناتها ، لكنه لا يستغرقها . ولهذا لابد من الالتفات إلى حقيقة التكامل في الديموقراطية ، وخصوصاً أهمية جوانبها الأخرى للجانب السياسي .
هذا بديهي ، ولكن لابد من ذكره ، والأدق التذكير فيه ، طالما أن الكل تقريباً لا يتحدث إلا عن جانبها السياسي ، وحتى عندما يتحدث عنها بالعام فإنه لا يقصد إلا جانبها السياسي . الاستثناء البارز الوحيد هم الساعون لتشكيل " لجان المجتمع المدني " ، ولو أنهم بوضعهم الراهن أقرب إلى التشكل السياسي بالشكل الموجودة فيه " الأحزاب السياسية " في سوريا منهم إلى اللجان ، إلا أن مجرد تصديهم أو توليهم لمهمة تشكيل هذه اللجان يعني بالضرورة عمق إدراكهم لهذا التكامل في الديموقراطية .
الديموقراطية والديموقراطية السياسية
الديموقراطية السياسية ليست غاية بالأصل بل وسيلة ضرورية التوفر دائماً باعتبارها ضرورة مجتمعية . فهي الشكل الوحيد الذي يؤمن للمجتمع الرقابة الشفافة على بعضه البعض ، أي على نفسه ، عبر مراقبة المواطنين لسلوك الأحزاب السياسية وبرامجها وخططها ومدى تحقيقها لها . وبنفس الوقت مراقبة الأحزاب لبعضها البعض مما يؤمن للعين الاجتماعية منتهى الشفافية في رؤية مجريات الأمور . في ظل هذه الديموقراطية تختار غالبية المجتمع الحزب الذي تراه الأفضل ، ويتحمل المجتمع ككل مسؤولية هذا الاختيار حتى يحين الموعد القادم للانتخابات . هذا الشكل من أشكال الحكم هو الأمثل إلى الآن لأنه لا يمكن أن يقوم إلا على أساس الوحدة المجتمعية والحرية الفردية غير الممكنة ـ أو الممكنتين في حال تعدد الطوائف ـ بغير العلمانية لأنه يضمن استمرارهما وتضمنان استمراره .
فالديموقراطية السياسية جزء لا يتجزأ من الديموقراطية العامة في المجتمع ، وهي باعتبارها جزءاً من كل ، لا يمكن أن تكون قوية
الفعل في مجال السياسه إلا بالانجدال مع وعلى ديموقراطية قوية الفعل في مجالات الاقتصاد والفكر والتربية والتعليم ..إلخ . ولأنها كلٌ
متكامل ، نرى الديموقراطية السياسية ، في الأردن مثلاً ، عديمة الفاعلية في وضع البلد ككل ، لا في الجانب السياسي فحسب . والعامل الحاسم في انعدام فاعليتها في المجتمع الأردني لا يعود إلى خلل في طبيعة هذا أو ذاك من الأحزاب ، بل إلى هزال الديموقراطية في باقي جوانب المجتمع .
باختصار ، إن شكل فاعلية ديموقراطية سياسية في مجتمع غير ديموقراطي كشكل فاعلية ذراع بقوة ذراع عنترة في جسم ذي مواصفات مغايرة لعنترة ، مما يعني أنها لا تصنع منه عنترة . ليس هذا فحسب ، بل ومن يعتقد بأن الديموقراطية السياسية أساس ديموقراطية باقي جوانب المجتمع كمن يعتقد بأن ذراع عنترة القوية كانت أساساً لكل قوة عنترة ورشاقته وفروسيته وذكائه وتوقه للحرية . ولأن كلاً من هذه الجوانب يكمّل الآخر ويكتمل فيه ، تكاملت هذه الجوانب في شخصيته وصار عنترة عنترة . فالديموقراطية السياسية ليست أساساً أو حتى مدخلاً لكل ديموقراطية المجتمع بدليل عدم صيرورة المجتمع الأردني ديموقراطياً ، مع أن عمر الديموقراطية السياسية فيه أكثر من عقد ونصف ، والحال في باكستان ليست أقل سطوعاً على ضرورة هذا التكامل . والنتيجة هي أن الديموقراطية السياسية ليست أساساً أو مدخلاً لديموقراطية باقي الجوانب الاجتماعية ، بل إنها تقوى بقوة باقي الجوانب وتهزل بهزالها ، والعكس صحيح ولكن مع الاحتفاظ لها بمكان الصدارة لأنها تمتاز على غيرها من الجوانب بموقعها الممتاز في البنية الاجتماعية : فهي تشترك مع باقي المستويات بكونها إحداها ، فهي مستوىً من مستويات البنية الاجتماعية ، وتتميز عنها بكونها الملاط الرابط لكل المستويات الأخرى .
ولهذا فإن ما قيل أعلاه لا يعني ، ولا بحال من الأحوال ، تأجيل العمل السياسي الديموقراطي حتى تنضج جوانبه الأخرى التي سيترابط معها ليشكلوا كلاً مندمجاً واحداً ، فهذا ما توحي السلطة بأنها تقوم به أو تصرح بأنها تنتظره ، وهو من قبيل التسويف ليس إلا . لا بل بهذا الشكل يخوف الرئيس المصري الولايات المتحدة من أن الديموقراطية ستأتي بالأحزاب الأصولية ، وبالتالي يوحي بأنه يعمل على تحقيق ، أو على الأقل ينتظر تحقق ، الديموقراطية في باقي جوانب المجتمع حتى يشرّع الديموقراطية السياسية . على العكس من ذلك ، لأنه يعني العكس . إنه يعني أن الإصلاح الديموقراطي عندنا ، حتى لا يصير أحادي الجانب ، أي مشوهاً ، ينبغي على العمل من أجل الديموقراطية السياسية الترابط مع العمل من أجل الديموقراطية في باقي جوانب المجتمع ، والعكس . لا بل أؤكد أن تحقيق الديموقراطية السياسية ، أي تحققها في مجال السياسة ، أسهل بمائة ألف مرة من تحقيقها في باقي المجالات لأنها تتحقق بقرار من السلطة . أما تحقيقها في باقي المجالات فلا يتحقق بقرار من أي ٍكان .
لكن المشكلة ، كما أسلفت ، أنه لا وجود لعمل ملموس عندنا في أي جانب من جوانب الإصلاح الديموقراطي ، إلا قيام مجموعة من المثقفين ، بين الفينة والأخرى ، بمطالبة السلطة بالديموقراطية . وهذا العمل المشكورين عليه لا يكفي ، ومطالبتهم بأكثر من ذلك إنما تعني مطالبتهم بالقيام بعمل غيرهم ، وبالتالي إحلالهم محل غيرهم . وهذه الآلية غير ممكنة ، و حتى لو كانت ممكنة فإنها تقود إلى الديكتاتورية لا الديموقراطية . لكنها غير معقولة ولا ممكنة لأنهم لا يعرفون كيفية الإصلاح في مجال عمل غيرهم ، تماماً مثلما أن
غيرهم لا يمكنه العمل بالإصلاح في مجال عملهم . وهنا لا بد من وقفة قصيرة لتأمل المعنى الحقيقي لموقف هؤلاء المثقفين الذين
يطالبون السلطة بمطالب سياسية .
إنهم مثقفون ، وبالتالي حتى لو كان بعضهم يهتم بالسياسة أو مسيساً ، فهذه ليست حالهم جميعاً . وحتى لو كانوا كلهم مسيسين ، فالرابطة التي تجمعهم لدى مطالبتهم السلطة بمطالب سياسية هي رابطة ثقافية . وطالما أن المثقفين كمثقفين أو فنانين تهمهم حرية التعبير أكثر من الحرية السياسية ، وبما أن هذه الحرية المهنية متاحة في سوريا إلى مدىً واسع لكل هؤلاء من فلاسفة وشعراء وروائيين وقصصيين ونقاد وفنانين ..إلخ باستثناء الصحفيين ، إذن ليس هناك ما يدعوهم لوقوف هذا الموقف السياسي . ومع ذلك نراهم يقفونه بامتياز ، كيف يتفسر هذا ؟
إنه لا يتفسر إلا بكون الأحزاب السياسية القائمة أعجز من أن تقوم بأدنى مهماتها في الوقت الذي يتوق فيه المجتمع إلى الديموقراطية هذا التوق الشديد ، لذا يصير تصدي المثقفين لهذه المهمة تعبيراً عن حيوية هذا المجتمع ذي الأحزاب السياسية الخامدة ، قل التي تلفظ أنفاسها . هذا الاستنتاج النظري قد يرفضه البعض لاعتقاده بأن هذه المطالبة من جانب المثقفين دعم لفاعلية هذه الأحزاب وليست بديلاً عنها ، لكني سأبرهن على صحته بالملموس بسؤال هذه الأحزاب : ماذا تفعلون كأحزاب غير مطالبة السلطة بالديموقراطية السياسية ؟
الجواب الحقيقي : لا شيْ .
لكن هذه المطالبة وحدها ليست فعلاً ديموقراطياً أو نضالاً سياسياً لحزب ، لأن أي شخص قد يطالب بها دون أن يكون حزباً ، وبديهي أنه بها لا يصير . فقد سبق وطالبت السلطة ، وهاأنذا أكرر مطالبتها ، بتشريع وضمان ممارسة الديموقراطية السياسية لكل الأحزاب العلمانية في سوريا . فهل أنا حزب ؟!
لا شك في أن هذه الأحزاب ستضيف : بعدما أنهكتنا السلطة الديكتاتورية بالسجون والمعتقلات فإنها لا تفسح لنا أي مجال للعمل ، وأي عمل تشم منه رائحة المعارضة فإنها ستقمعه بلا هوادة . مما يضمر أنهم سيعملون عندما تفسح لهم السلطة المجال أمام الديموقراطية السياسية ، وهذا يطرح نقطتين :
أولاً : عندما تسمح السلطة بالديموقراطية تنتفي الحاجة للنضال الديموقراطي ليتحول إلى ممارسة ديموقراطية ، وبالتالي فهذه الأحزاب لا تحارب وقت المعركة وتدّعي أنها ستشمّر عن ساعديها بعد المعركة . والأهم من هذا أن هذه الأحزاب كانت تناضل من أجل أهدافها عندما كانت السلطة في منتهى الديكتاتورية ، أما الآن فتقلّصت الديكتاتورية جزئياً وحرية التعبير متاحة إلى حد بعيد نسبياً ، وبالتالي حريٌّ بهذا النضال أن يزداد ، فلماذا لا نرى أي نضال قط ؟
لا جواب على هذا السؤال عند هذه الأحزاب ، أما عندي فلأن هذه الأحزاب ما عاد لها جمهورها ، لا بل لأنها ما عادت هي نفسها تثق بنفسها للسبب المذكور في مقدمة القسم الأول : من لا يعرف إلى أين يسير العالم لا يعرف وجهة سوريا فيه ، ومن لا يعرف وجهة سوريا فيه لن يعرف كيف سيتوجه فيها وبها لا اقتصادياً ولا سياسياً ولا حتى اجتماعياً .
هذه المعرفة البسيطة ، من يجهلها سيبدو مختلاً أمام الجيل الجديد ، أمام الشباب ، ولهذا لا نجد لهذه الأحزاب أي رصيد بينهم . فغياب هذه المعرفة هي التي تغيّب الشباب لأنها تجعل ما تتخيله هذه الأحزاب " ممارسة سياسية " ممارسة عجائز ، أي عبارة عن تسالي اجتماعية ، حكاية قصص وحكايات عن كنا وكان وهذا ما فعله فلان والموقف كان يتطلب كذا أما الآن فلا بد من وجود ديموقراطية سياسية حتى يصير كذا وكذا ، وهذه القصص من البديهي ألاّ تستوقف الشباب .
ثانياً : إذا كانت سوريا لن تصير ديموقراطية إلا بفعل فاعلية أهلها الديموقراطيين ، وأنتم منهم ولكن لا تفعلون شيئاً ، فكيف ستصير ؟
لنفترض أن السلطة لا تريد أن تفسح المجال أمام هذه الديموقراطية ، فماذا أنتم فاعلون ؟ والأدق ماذا تنتظرون ؟ إنكم الآن في وضع لا تحرضون على الثورة ولا تفعلون أي فعل فاعل في الإصلاح بينما السلطة تقوم بالتسويف ؟ ماذا تنتظرون ؟ إذا كنتم تنتظرون قول السلطة " لن أعطي أي ديموقراطية سياسية " حتى تروها فنون نضالكم ، فأنا أقولها نيابة عنها ، وأنتم تعلمون هذه الحقيقة أفضل مني ، فماذا تنتظرون ؟ تغير الظروف الدولية الذي سينعكس مزيداً من الضغوط على السلطة ؟ لا أريد أن أقول مجيْ القوات الأمريكية ليقيني الراسخ بأن الغالبية الساحقة من المعارضة الديموقراطية وغير الديموقراطية ضد هذا الموضوع فعلاً . ولكن إذا كنتم تنتظرون هذه الظروف حتى تصير سوريا ديموقراطية ، فما هو دوركم في صيرورتها ؟ لا شيْ .
ولأنه لا شيْ ، والأدق لأن هذه الأحزاب لا شيْ ، نراها ساذجة أو تتساذج حتى فيما تعتبره مهمتها المركزية ، مسألة الديموقراطية . فقد باتت ينطلي عليها ، أو تتصرف كما لو أنه ينطلي عليها خداع الثعالب ، خداع الأحزاب الدينية ، وصار شغلها الشاغل مكيجتهم بمكياج الديموقراطية بعدما صارت موضة العصر . فقد بات طالبان سوريا يدّعون أنهم سبور ، وباتت وظيفة هذه الأحزاب تسويقهم في المجتمع كحزب مودرن ، ديموقراطي ، بذريعة تغيره بعدما لمست قيادته في الخارج مزايا الديموقراطية الغربية وتعرفت على أصولها .
وقبل البدء بمناقشة هذا الموضوع ، لا بد من تأمل هذا العجب الذي صارت الأحزاب الدينية بفضله ديموقراطية ، لا بد من تأمّل كيف تستقيم الأمور بأن تظل سوريا ترزح تحت نير الديكتاتورية في الوقت الذي تكون فيه كل تعبيرات المجتمع السوري السياسية والثقافية والدينية وربما الرياضية إما ديموقراطية أو مناضلة من أجلها أو نصيرة لها ؟!
لا شك في أن هذا ليس لغزاً ، إنه سحر أو ما يفوق السحر : إنها قدرة الله تفعل فعلها في سوريا . وقدرة الله لا يمكن مناقشتها بالتحليل والمنطق ، بل فقط بالرنو إليها وتأملها عبر السباحة في ملكوت الرحمن .

يتبع " الديموقراطية وديموقراطية الحزب الديني "
الإخوان المسلمون كنموذج

علي الشهابي
دمشق 3 حزيران 2004








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فولفو تطلق سيارتها الكهربائية اي اكس 30 الجديدة | عالم السرع


.. مصر ..خشية من عملية في رفح وتوسط من أجل هدنة محتملة • فرانس




.. مظاهرات أمام مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية تطالب الحكومة بإتم


.. رصيف بحري لإيصال المساعدات لسكان قطاع غزة | #غرفة_الأخبار




.. استشهاد عائلة كاملة في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في الحي الس